مجلة الرسالة/العدد 584/وحدة الوجود
مجلة الرسالة/العدد 584/وحدة الوجود
وهل هي من الإسلام في شيء
للأستاذ دريني خشبة
قرأت كلمة صديقي الدكتور زكي فراعني انه لم يقرأ كتاب (رسائل التعليقات) بعد، أو أنه قرأه كما قرأته أنا. . . على حد تعبير الأستاذ الرصافي،. . . أي تلك القراءة السريعة المتقطعة، التي تبعد بالقارئ عن معاني المؤلف، وتشط به عن أغراضه. . . وآية ذلك ما أراده الدكتور من مساجلتي حول نظرية (وحدة الوجود). . . وأن يكون أساس المساجلة: أن تترك التفكير في أن هذه النظرية تجني على العقيدة الإسلامية. . . وهذا شرط عجيب. . . ولست أوثر أن أقول إنه شرط خبيث!! ما دام أن الصديق الأعز قد ذكر (أن الذوق هو خير ما دعا إليه الأنبياء!)
ولست أدري كيف يدعوني أخي المبارك إلى مساجلته على هذا الأساس العجيب - ولا أقول الخبيث! - وهو يذكر أنني قلت في كلماتي التي كتبتها عن رسائل التعليقات، إنني ما كتبت تلك الكلمات، ولا وددت أن أكتبها، إلا لأن الأستاذ الرصافي قد ادعى في رسائله أن نظرية وحدة الوجود هي نظرية إسلامية، بل إنها من ابتداع الرسول الكريم، فخر الكائنات، محمد ﷺ، وإنه - أي رسول الله عليه صلوات الله - لم يذكر منها لأصحابه شيئاً، إلا ما لمح به منها لخليله الصديق - عليه رضوان الله -. . . ثم ما ذهب إليه الأستاذ الرصافي بعد ذلك من التخريجات المضحكة التي تعتبر هدماً شاملاً للإسلام، وتزييفاً واسعاً شاسعاً لما يؤمن به المسلمون ويعرفون أنه الحق من ربهم
فلقد أنكر الرصافي أن يكون القرآن كلام الله. . . وردد عبارة (يقول محمد في القرآن) غير مرة في كتابه المذكور. . . وهو يقحم هذا الإنكار في نظرية وحدة الوجود فيعلله بادعائه أن الرسول الكريم كان يفنى في الله - أو في الوجود الكلي - فناء كاملاً، ولذا جاز له أن يقول هذا القرآن، ويزعم أنه يقول الذي يقوله الله، ويفعل الشيء ويؤمن بأن الله هو الذي يفعل. . . وأذكر أنه يستدل على هذا الإفك - ولن ندعوه إلا إفكا - بالآية الكريمة: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى! وهي من الآيات التي طلب إلينا تفسيرها بما ينافي ما قذف به وسواسه في روعه. ناسياً أن الآية قد أنزلت في مناسبة خاصة واردة في مكانه من جميع التفاسير
فهل افترينا على الرصافي في ذلك من شيء يا دكتور زكي؟ وهل تتفق وجهة نظرك في هذه المسألة بالذات ووجهة نظر هذا الرجل الذي رمانا بما رمانا به من تلفيق وتشويه لأقواله؟
أنت عندي أشجع كاتب في مصر. بل في الشرق العربي، وقد تبلغ شجاعتك هذا الحد الذي ذكره آرسطو في كتابه عن الأخلاق، ولا أذكر الآن ماذا سماه. . . ولن أنسى لك أبداً أنك كنت صاحب الفضل الأول في التعريف بالغزالي بمؤلفك القيم في أخلاقه، ذلك المؤلف الذي خضت به جحيم حرية الفكر غير هياب ولا وجل، وأنك كنت في كل كتبك بعد الغزالي شجاعاً كدأبك منذ أخذت نفسك بالتأليف والتصنيف، بالرغم مما في تأليفك وتصنيفك من تلك (البُقع) التي استطاع هذا الكاتب الفاضل أن يغزوهما من ناحيتها
فهل يكفيك هذا الحد في تذكيرك بشجاعتك الأدبية، فتعلن رأيك صريحاً خالصاً فيما ذهب إليه الرصافي من نسبة القرآن إلى محمد، معتذراً له بذلك الاعتذار السخيف!!
أعوذ بالله - وأستغفره - من أن يكون كلامي هذا استدراجا لك أن تقول ما لا تعتقد. . . فأنت عندي أعظم من هذا وأعلى. . . وأعوذ بالله وأستغفره من أن أكون قد قصدت بثنائي عليك (بَلْفَك!) حتى تقف في هذا الصراع الفكري إلى جانبي. . . فأنا أعظم من هذا وأعلى (ولا مؤاخذة!)
أما يأسك من حرية الرأي، لأن كل كاتب يحاول أن يكون واعظاً في مسجد، أو راعياً في كنيسة، كأن الفكر الحر من القيود لم يبق له مكان في الوجود. . . فهو كلام لا نقبله من زكي مبارك في هذا المجال. . . لأن الأستاذ الغمراوي قال في كتابك العظيم الخالد - النثر الفني - ما قال، ووجه إليك بسببه ما وجه من تهم مثيرة موبقة. ومع ذلك، فأنت لا تزال بخير يا صديقي. . . تمشي في مصر الجديدة حراً مطلقاً، كما تمشي حراً مطلقاً في أحياء الأزهر وسيدنا الحسين والصنادقية وجاردن ستي، لم يجر وراءك المسلمون ليحاسبوك بالطوب والحجارة على ما اتهمك به مناظرك الفاضل، ولم يأخذ بتلابيبك الأزهريون لآرائك في إعجاز القرآن، ولم يُحدث المسلمون في مصر ضجة ليضطروا البرلمان إلى مطالبة الحكومة بجمع كتابك وإحراقه في ميدان الأوبرا أو ميدان السيدة زينب مثلاً! فخلِّ إذن قضية حرية الفكر التي عملت لها ألف حساب في كلمتي الأولى عن رسائل التعليقات، حيث أذكر أنني قلت: (. . . وقبل أن نعرض آراء الرصافي نعلن أننا نقدس حرية الفكر ما لم ترم إلى شر، وما لم تبلبل أفكارنا، وتعصف بمعتقداتنا، وتهدم المعايير الأخلاقية الكريمة التي زودنا بها ديننا الذي هو أعز علينا وأكرم من فلاسفة العالم أجمعين). . . والتي أذكر أنني قلت بصدد مصادرة حكومة العراق الشقيق لكتاب الرصافي القديم إن أسلوب مصادرة الكتب أسلوب رث، وسلاح لا يجمل استعماله في هذا العصر الذي يأخذ بمبدأ حرية الفكر. . .
ولست أدري ماذا يراد من حرية الفكر أن تكون بعد الذي كانته في أيامنا هذه من سعة صدر وفسحة مجال؟! أكان ينبغي أن نصمت فلا نكتب كلمة عن كتاب ينكر فيه صاحبه كل الموجودات - إلا الوجود الكلي المطلق الذي يسميه إلهه -؟ أكان ينبغي أن نصمت حينما يقول لنا الرصافي في كتاب ينشره في العالم العربي الإسلامي، وإن محمداً هو مبتدع نظرية وحدة الوجود، وأنه مؤلف القرآن، وأن الأدعية لا داعي لها - ومن الأدعية الصلاة - لأنها لن تغير من القضاء - وهو القوانين الأزلية التي لا تتغير، شيئاً، وأن كل ما يقع في الوجود فهو حق، وأن الباطل هو المحال، ولذلك تساوت المتضادات. فالهدى كالضلال، والتقوى كالفسوق، والخير كالشر. . إلى آخر هذا الهذر الذي يدعى الرصافي أنه تساو أمام الله لا أمام الناس. يريد بذلك استدراك ما أخافك - يا صديقي الدكتور زكي مبارك - من مغبّة ذلك المعتقد على الشرائع والقوانين والأخلاق. ويريد أن يطمئنك، فلا يهلع قلبك، ولا تجزع نفسك. فيقدم بين يديك هذا الدفع المتهافت الذي لا أدري كيف استقام في رأس الأستاذ الرصافي حتى يطلب له أن يستقيم في رؤوس الناس
ما استواء المتضادات أمام الله؟! أموافق أنت على هذا الهوس يا صديقي الأعز؟! أحقاً أن الذي يصيبنا من شر هو من عند الله وليس من عند أنفسنا؟ ما هذا الجبر المطلق يا دكتور زكي؟ والى أين يؤدي بنا هذا المعتقد الباطل لو أخذنا به؟! ثم ما هذا الحلول الفاسد الذي يجعل الله في كل شيء. . . بل كل شيء؟!
ثم يعود الرجل بعد هذا فيثبت أن الإنسان مكلف، لأنه عاقل؟! ثم يربط التكليف بثواب وعقاب، ليسا من جنس الثواب والعقاب اللذين جاءنا بهما ديننا الحنيف. . . ولست أدري أين يكون مناط التكليف مع هذا الجبر المطلق؟! وعقاب الإنسان في رأي الرصافي هو ما يلقاه من تبكيت أمام ضميره. . . أما النار ودركاتها فتخويف فحسب، وردت آياته من باب التمثيل. . وأما الثواب في رأيه، فهو الاتحاد بالوجود الكلي بعد الموت. أي العودة إلى التراب. . . هنا تتم سعادة المرء! وما جاءت آيات الترغيب في جنة الخلد الموصوفة في القرآن إلا من باب التمثيل كذلك. . .
فما شاء الله على هذا الثواب وذاك العقاب! وليهنأ بعد اليوم الذين لا ضمائر لهم فتعاقبهم بالتبكيت على ما يقرفون من أوزار
وما شاء الله على هذا الكفر بالبعث الذي هو أساس متين من أسس العقيدة الإسلامية، ثم ما شاء الله على هذا التناسخ - أو عودة الكائنات بأمثالها لا بأعيانها - الذي يؤمن به الأستاذ الرصافي!
ماذا أبقى الرصافي من الإسلام فلم يبدله ولم يؤوله؟!
لقد تناوله الله - جل وعلا - فقال: إنه هذا العالم الحادث الذي درسناه في الفلك فعرفنا أنه نشأ من هيولي أخضعها الله لقوانينه الخالدة التي انتهت بها إلى هذا النظام المتقن البديع الذي لا يمسكه غير الله بما أبدع له من قوانين!
وقد تناول الرسول فجعله يؤلف القرآن ويموّه على الناس ويخترع وحدة الوجود ويخفى أمرها على الناس، ويدعوهم إلى عبادة كل الموجودات، وقد نهاهم عن عبادة الشمس والقمر والنجوم والأصنام والأشجار!
وتناول المعتقدات الإسلامية فأنكر البعث والحساب والعقاب والثواب والجنة والنار والميزان والصراط وجميع السمعيات لأنها من أنباء الغيب، والعقل لا يؤمن بأنباء الغيب
وتناول العبادات الإسلامية فأنكر الأدعية - ومنها الصلاة - لأنها لا تقدم ولا تؤخر في قضاء الله الذي لا يتبدل ولا يصح له أن يتبدل. فهو كالذين قالوا: يد الله مغلولة! غلت أيديهم!
ونعى على المسلمين في تعليقه على أقوال مستشرقه الإيطالي الجاهل - في آخر الكتاب الذي بيدك - تمسكهم بحرفية القرآن والتعاليم الإسلامية، ونسب تأخرهم وانحطاطهم إلى ذلك التمسك فأين هو ذلك الحجر على حرية الرأي الذي تشكو منه يا صديقي الدكتور، وقد استطاع الأستاذ الرصافي أن يقول ذلك كله وأن ينشره على المسلمين في كتاب. . . فلم يصبه أذى. . . ولم تصبه إلا كلمات من أضعف مخلوق مسلم يتهمه الرصافي بأنه يكتب لغرض. . . وأن يداً خفية تحركه للرد على تلك التخرصات! وأنه نسى آداب المناظرة في الرد عليه!
فهل من حرية الرأي أن يقول الرصافي ذلك كله، فإذا رد عليه مسلم ضعيف مثل أخيك الذي أنت من أعرف الناس به، كانت حرية الرأي مهددة، وكانت في عصرنا الحديث شراً منها في العصور التي عاش فيها الجنيد والحلاج والتلسماني وابن عربي وابن سبعين والقونوي ومن إليهم من مشعبذي التصوف؟
إن ديننا يا صديقي الدكتور هو أول الأديان التي تحض على حرية الفكر ومحاربة الجمود. . . وهل صنع رسولنا الكريم، فخر الكائنات، محمد بن عبد الله شيئاً غير هذا؟!
افتح أية صفحة من كتاب الله تجد فيها حضاً على حرية الفكر، ومحاربة للجمود الذهني، والاستعباد الروحي. . . وقد فطن رسول الله ﷺ إلى ما في البحث عن ذات الله من تهلكة، فأوصانا بالإمساك عن الخوض فيها، والتفكير ما شئنا في المخلوقات جميعاً، في الأرض والسموات وفي أنفسنا. فما الذي يغرينا بنبذ وصاة رسول الله؟!
لقد أحسنت حينما قلت: إن نظرية وحدة الوجود هي نظرية فلسفية، وأنك قد سكت حينما رأيت معاركنا تتجه وجهة دينية فمن الذي وجهها هذه الوجهة؟ أنا؟ أم الرصافي الذي جعلها من اختراع الرسول الكريم، وذهب يتأول لها الإسلام والقرآن جميعاً؟!
والعجيب أن يزعم الرصافي أنني ادعيت عليه ما لم يقل حينما نسبت إليه معظم هذه الآراء. وهي كلها آراؤه ساقها في معرض الاستشهاد على ما ذهب إليه بعد إذ جهر في أول الكتاب بأنه يؤمن بنظرية وحدة الوجود بكل ما علق عليها وخرجّ منها وأبرز من أسرارها. فلن ينفعه ادعاؤه بأنه إنما كان يستعرض آراء المتصوفة. ولن ينفعه إنكاره أنه متصوف بعد جهره بأنه يؤمن بالنظرية كما عرضها إيماناً لا يرقى إليه الشك
وبعد. . . فهل رأيت أن شرطك في استبعاد العنصر الديني من المساجلة التي أرحب بها، وأعانقك من أجلها عناقاً لا يدري نتيجته بين ذراعي إلا الله. . . هو شرط عجيب. . . ولا أقول: خبيث؟!
من منا الذي سيقهر صاحبه الوفي على المشي فوق الأشواك يا دكتور زكي؟
دريني خشبة