انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 582/على هامش الغفران

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 582/على هامش الغفران

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1944



للأستاذ كامل كيلاني

(مقدمة كتاب (على هامش الغفران) الذي يصدر في أول

سبتمبر بمناسبة العيد الألفي لأبي العلاء المعري)

تمهيد

1 - شجر الحور

صور فيلسوفنا (أبو العلاء) فيما صور من روائع أخيلته في (رسالة الغفران) ما لقيه صاحبه في موقف الحشر - قبل أن يؤذن له بدخول الفردوس - وما كابده يومئذ من شدائد وأهوال، يتضاءل بالقياس إليها كل ما قاساه في حياته الأدبية من عناء البحث والدرس. ثم صور ما نعم به - بعد ذلك - في رحاب الفراديس من أطايب ولذائذ مرتقيات، يتضاءل - بالقياس إليها - كل ما يبهج الأديب في أفقه الفكري من متع عقلية، ومعان فلسفية، وصور بيانية. ثم تمثل فيلسوفنا صاحبه وقد رافقه في دار الخلد ملك كريم، فجعل يريه من رياض الجنة عجائب، لا يعرف كنهها إلا الله سبحانه. وثمة قال الملك:

(خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها، فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور)

فيأخذ سفرجلة، أو رمانة، أو تفاحة - أو ما شاء الله من الثمار - فيكسرها، فتخرج منها جارية حوراء عيناء، تبرق - لحسنها - حوريات الجنان)

2 - قارئ الغفران

ثم التفت فيلسوفنا إلى قارئ رسالته، وقد خشي أن تحول غرابة بعض ألفاظها بينه وبين دخول فرودسه الأدبي البهيج واجتناء ثمار جنته الفكرية، فقال:

وإنما أفرق (أفزع) من وقوع هذه الرسالة في يد غلام مترعرع ليس - إلى الفهم - بمتسرع، فتستعجم عليه اللفظة (يستبهم معناها ويستغلق فلا يتبينه) فيظل معها في مثل القيد، لا يقدر على العجل (السرعة) ولا الرُّوَيد (المهل)

3 - ترجمة النصوص وما أجدرنا أن نستشعر - من الإشفاق والحذر - أضعاف ما شعر به فيلسوفنا - قبل مئين عشر من السنين، وأن نزيد، إلى شرحه - أضعاف ما أثبته، وأن نترجم نصوصه إلى الأسلوب العصري، وأن نصنع بها صنيعنا في أجزاء (حديقة أبي العلاء) و (رسالة الهناء)، حتى لا يضجر شبابنا الذكي بما يعترض طريقه إلى هذه الجنات الفكرية - بين خطوة وخطوة - من صخور وهضاب ومتاعب وصعاب، إن كانت تؤمن معها العثرات، فلا مرية أنها - على الأقل - معوقات

4 - في صحبة المعري

ولا أكتم القارئ أني - كلما امتدت بي صحبة هذا الفيلسوف الموهوب، ورأيت إقبال الخاصة على أدبه الصادق وخياله الأصيل - وجدت لذلك في نفسي غبطة لا يعدلها إلا غبطتي بما أكن من حب وتقدير لهذه الشخصية العالمية الفذة التي تفتن الباحث بما انفردت به من الخصائص والمزايا؛ فيؤثرها على غيرها من الشخصيات - في عالم الفكر والبيان - ولا تلبث عبقريتها أن تملك عليه من مذاهب التكريم والإعجاب قدر ما ملكت آثارها الرائعة من مذاهب الجودة والإبداع.

5 - تبسيط الآثار العلائية

وإنه ليطيب لي أن يكون في موالاة الحديث عن (أبي العلاء) تجلية لما بقي في أيدينا من روائعه بين قراء العربية، وإذاعة لخصائص ذلك الفكر النفاذ بألمعيته إلى سرائر الكون ودقائق الحياة، المؤيد بقدرة ساحرة على التصور والتصوير، وتملك شامل لناحية اللغة في الإبانة والتعبير.

ولست أشك في أن تبسيط هذه الكتب العلائية، وترجمة جمهورها إلى الأساليب العصرية، سيخلق من المتأدبين أشياعاً جدد لأبي العلاء، ومريدين عارفين بدقائق مراميه، وغوامض أهدافه ومعانيه، ونصراء لأدبه الرفيع، وصحابة يؤمنون بفنه العالي، فلا يلبث صاحب (الغفران) و (اللزوميات)، و (الفصول الغايات) أن تزف إليه مكانة الصدر التي ينفرد بها بين قادة الفكر العربي غير منازع

6 - جزاء العاملين وقد تضافرت الحوافز البعيدة، والجهود الموفقة الرشيدة، على استثارة هذا الكنز العلائي الذي كان مغيباً في ظلمات الأيام، وكان هذا دليل اليقظة الأدبية الصادقة في هذا العصر، كما أسلفنا القول - منذ عشرين عاماً أو تزيد - في مقدمة اللزوميات، كما كان هذا التقدير خير جزاء للعاملين

7 - صديق وأستاذ

لقد كان من دواعي السعادة التي ظفرنا بها في مستهل حياتنا الفكرية، أن شببنا ونحن شديدو الولوع بهذا الأديب الموهوب، وما زلنا مأخوذين بما نظم ونثر، نديم التفكير في فلسفته العالية التي تمتح من قريحة صافية، مفتونين بنظراته التي تمدها بصيرة كأنما أودعها الله حرارة كوكب آلق لا يفتأ يشع، حرصاء على استنفاد الوسع في نقصي بدائعه. فكان (أبو العلاء) لنا - منذ نشأتنا الأدبية - صديقاً بل أستاذاً لا نريم مجلسه، ولا نمل حديثه، فما نزال نبدي في روائعه ونعيد، حتى لقد أفقدتنا تلك الروائع كراهة الحديث المعاد.

والحق أن الاستماع إلى البيان الساحر كالنظر إلى الجمال الساحر، كلاهما أخاذ يستولي على نقس الرائي والسامع جميعاً، متجدد الفتنة أمام أعينهما أبداً، كأنما عناه (ابن الرومي) حين قال:

(ليت شعري إذا أعاد إليها ... كرة الطرف مبدأ ومعيد

أهي شيء لا تسأم العين منه ... أم لها - كل ساعة - تجديد

بل هي العيش لا يزال - متى استع ... رض - يملى غرائباً ويفيد)

8 - سحر البيان

ولولا هذا السحر الذي غمر نفوسنا من الأدب العربي، وذلك الولاء الذي طوينا عليه جنوبنا للفن العلائي، لما تيسر لنا أن نظفر بتذليل ما لقيناه من المصاعب في تحقيق النصوص الكاملة لرسالتي الهناء والغفران، وترجمتهما - مع ما ترجمناه من رسائله الأخرى وأشعاره - إلى الأسلوب العصري.

9 - حوافز ومرغبات وكان من الحوافز التي زينت لنفوسنا هذه الفكرة التي ترمي إلى تقريب البيان العلائي، من أذهان الجمهور العربي في عصره العتيد أننا عنينا - من قبل - بترجمة طائفة من روائع كتاب الغرب وشعرائه، وكان لما نقلناه من أدب (شكسبير) حظ من الإقبال والتقدير، بعيد المدى عظيم التأثير، جدير بعبقرية هذا الشاعر العالمي الكبير

10 - ترجمة إنجليزية

ثم يسر الله لنا - من بعد - أن نتعاون مع الأديب الإنجليزي المسترج. براكنبري على إخراج ترجمة إنجليزية لرسالة الغفران مقتبسة من الطبعة الثالثة، وترجمة ثانية مقتبسة من (حديقة أبي العلاء)، وقد ظهرت الأولى؛ فلقيت من أدباء الغرب ومفكريه ما هي خليقة به من الإعجاب والإطراء. وسنتبعها الثانية بعد قريب.

11 - در في أصدافه

وما أحق هذا، بأن يوحي إلينا أن يكون الأدب العلائي قريب الجني، عذب المنهل، لكل وارد عربي، يسمع بالمعري، ويعلم مكانته وعبقرية، ثم تحول الحوائل بينه وبين الاستمتاع بما ترك من روائع الفكر، وخوالد الأثر إذ ألف ذلك العربي أسلوبنا العصري، وتصعب عليه ما سواه من تليد البيان، وبوده أن تتفتح له الأصداف عن غوالي الدرر، تتكشف له الأقنعة عن واضح الغرر

12 - تجلية الغامض

وما أجدر رواد الأدب العربي عامة والأدب العلائي خاصة أن يطيلوا الروية والجلاد والمصابرة ليتسنى لهم الاهتداء إلى حل طلاسم التحريف التي عقدتها أنامل النساخ، وتجلية الغامض من العبارات، وتحقيق المشكل من المفردات، والتعليق على المعاني بما يؤيدها من شعر (أبي العلاء)، حتى يستعين القارئ بذلك كله على استطلاع وجود الرأي في أغراض ذلك المفكر العبقري، واختلاف الصور في شعره وضوحاً وغموضاً، وإجمالاً وتفصيلاً، ولكي يصبح ذلك كله باباً من أبواب البحث الأدبي، وهو لا ينفتح إلا بطول الاستقراء، واستحثاث الملاحظة، وإذكاء الفطنة.

13 - عرائس الخيال وإن ذلك ليستعصي على البحث إذا لم نحبب إليه ملازمة أبي العلاء، فنوضح له من أسراره ودقائقه ووجود آرائه، ما يستغلق على من يكتفي بالنظرة العابرة، والخطرة الذاهبة. ومتى ظفرنا بتحقيق هذه الغاية، أنس القارئ بفيلسوفنا، وأحسن معه الصحبة، فلم يضجر بأسلوبه، ولم ينفر من غرابته، ولم يجد في فردوسه من الثمار إلا ما وجده (ابن القارح) في جنة الحور، فلا يكسر منها ثمرة إلا خرجت منها عروس أخاذة من بنات الأفكار، بارعة الجمال، تبرق (تتحير) - لحسنها - أبكار المعاني وعرائس الخيال.

14 - أغرض الهامش

وقد جعلنا هذا الهامش تبياناً لما أحاط برسالة الغفران من ملابسات، وما بعث عليها من دوافع، حتى يأنس القارئ بجلية خبرها، فيما يطالع من صورها. وعقبنا على ذلك يبسط جمهرة من الأغراض العلائية البعيدة الأغوار، مما لم يتسع له تعليقنا على النص الكامل الذي توخينا في شرحه ما وسعنا من قصد وإيجاز.

وقصارى رجائنا أن تكون فصول هذا الهامش وأجزاؤه عوناً لشبابنا على تفهم ما استسر من مغالق الغفران وخباياها ورائدا يكشف لهم ما دق من غوامضها وخفاياها، وهادياً يؤمنهم مخاوف الطريق، إلى روائع هذا الكنز السحيق، ويقفهم على مرامي هذا الفيلسوف البارع، ويجلو لهم بدائع لفتاته وأمثلته، ومفاتن صوره وأخيلته، ويسلمهم مقاليد فلسفته.

15 - ذهب ونحاس

وقد أضفنا بما ترجمناه وقبسناه وشرحناه - كما أسلفنا القول في (حديقة أبي العلاء) - إلى ما يحتويه المنجم العلائي من حر ذهبه الأصفر، قليلاً من النحاس الأحمر، ليصبح كالعملة الذهبية الحديثة، أقرب تداولاً، وأدنى تناولاً وأيسر جدوى.

كامل كيلاني