انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 58/ذكرياتنا القومية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 58/ذكرياتنا القومية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 08 - 1934


تعاودنا في كل عام بعض الذكريات الأليمة التي يغص بها تاريخنا الحديث؛ وفي الأمم المغلوبة التي سلبت أعز ما تزهو به الأمم، أعني حرياتها القومية، تنسخ الذكريات الأليمة كل ماعداها من ذكريات الفخار والمجد؛ وإذا أتيح لها يوماً أن تحتفل بإحدى هاته الذكريات المجيدة، فان محنتها الحاضرة تكدر دائماً صفاء شعورها القومي، وتذهب بكل ما يمكن أن تأنس به من كبرياء وغبطة وفخار.

وقد مرت بنا منذ أسابيع قلائل بعض هذه الذكريات السود في تاريخنا: حوادث الإسكندرية المشئومة في 11 يونيه؛ وضرب الأسطول الإنجليزى للإسكندرية في 11 يوليه؛ وستحل بعد أسابيع قلائل ثالثة الذكريات المفجعة، أعني تمام احتلال الإنجليز لمصر في 15 سبتمبر؛ ومنذ عامين كان قد انقضى على ضياع الحريات القومية وقيام الاحتلال الأجنبي في مصر خمسون عاما. فكيف نستقبل هذه الذكريات المؤسية في تاريخنا القومي؟ وماذا نفيد منها من عظات وعبر؟

الواقع أننا لا ننسى هذه الذكريات التي تعاودنا كل عام، وينبهنا إليها دائماً استمرار المحنة واستمرار الاعتداء على حقوقنا وحرياتنا. وقد تكون الذكرى وحدها فضيلة. ولكن الذكرى المجردة لا تكفي دائما للإفادة من عبر الحوادث وتغذية الشعور القومي وإذكاء الهمم للنضال في سبيل استرداد الحقوق المسلوبة. وما الخير في أن نستقبل هذه الذكريات كل عام بعدة فصول ومقالات في الصحف تكاد تتفق دائماً في ألفاظها ومعانيها: بكاء على الماضي، ورثاء للاستقلال الذاهب، واستنكار للاعتداء الواقع، وتنديد بنكث المعتدي، وتشهير بأساليب الاستعمار؟ هذا ما نقرأ دائماً في صحفنا في هذه المناسبات، وهذا كل ما نفعل لاستقبال ذكرى الحوادث والخطوب التي ذهبت بحرياتنا واستقلالنا. وهذا حسن بلا ريب؛ ولكنه لا يكفي لتحقيق الغاية القومية التي يعلق تحقيقها عليه.

وليس هنا مقام تفصيل ما يجب أن تعمله أمة كأمتنا في مثل هذه المناسبات. ولكن الجهاد السلمي لإحياء الشعور القومي، وإعداد الأمم للنضال في سبيل استرداد حقوقها متعدد الوسائل والصور. وترديد النواح والعبارات المؤثرة لا يفيد شيئاً في سبيل استقلال الأمم؛ وإنما يفيد أن تثير دعوة مقنعة لبيان حقك، وأن تتخذ هذه المناسبات لتنظيم جهود سلمية جديدة، سياسية أو اقتصادية في سبيل الكفاح القومي؛ وأن تعقد الاجتماعات والمحاف السلمية، وأن تنظم الاحتجاجات بالقول والفعل، وأن تلقى رسالة المستقبل إلى الشباب بطريقة عملية؛ ويحسن أن يدوي صدى احتجاجك في الخارج، في جميع أنحاء العالم، فقضايا الأمم المغلوبة دائماً بحاجة إلى التعريف، وقد يلقى التعريف أحياناً شيئاً من التأييد أو العطف في ثنية الضمير الدولي. ومن جهة أخرى فان هذه المناسبات يمكن أن تتخذ ذريعة حسنة للقيام ببعض الأعمال والمشاريع الوطنية النافعة، فتكون دائماً رمزاً عملياً لإذكاء الشعور القومي.

ونود بهذه المناسبة أن نشير إلى نقطة أخرى جديرة بالتأمل، ذلك أننا نشهد في مصر احتفال بعض الأمم الغربية بأعيادها القومية؛ ومن هذه الأمم من تسيطر بقوة الغصب والاستعمار مع شعوب عربية وإسلامية شقيقة، وتسومها أمر ضروب الاضطهاد والذلة، ففي مثل هذه المناسبات نجد بكل أسف صحفنا ومجلاتنا تشيد بأعياد هذه الأمم المستعمرة وتشاركها في الاحتفاء والابتهاج. خذ مثلا عيد 14 يوليه الفرنسي الذي يزف إلينا دائماً بأنه عيد الحرية والإخاء الإنساني، وتأمل كيف تفيض صحفنا كل عام في الإشادة به وبآثار الحوادث التي ارتبطت به في تحطيم صروح الظلم والاستبداد، وكيف يشترك كثير من شبابنا الأغرار في الحفلات التي تقام لهذه المناسبة، وكيف ينسى هؤلاء وهؤلاء أن هذه الأمة التي تتغنى بنشيد الحرية والإخاء والمساواة، هي نفس الأمة التي تفرض نير الذلة والاستعباد على ملايين المسلمين، وتعصف سياستها الاستعمارية الحديدية بدينهم ولغتهم وكل تراثهم القومي؛ هذا بينما يقضي الواجب الوطني وواجب التضامن الإسلامى أن نقف دائماً من هذه المناسبات موقفا سلبيا، بل أن نذكّر هذه الأمم الاستعمارية بما في دعواها من تناقض، وبأن الأمم المغلوبة لا يمكن أن تؤمن بنداء الحرية، وهي ترى أن أولئك المنادين به هم نفس الجناة على حرياتها واستقلالها.

إن تقدير الذكريات القومية، وتنوع الاحتفاء بها، وحسن الاستفادة منها، من شواهد اليقظة القومية؛ وإن المتغلب المستعمر لا يفوته أبداً أن يلاحظ هذه المواقف في حياة الأمم المغلوبة لأنها في نظره مقياس للشعور القومي؛ وهو أشد ما يخشى هذا الشعور وأحرص ما يكون على محاربته وإخماده، وإن كثيراً من الخطط والوسائل التي يدبرها الغالب لتثبيت نيره أو مصانعة فريسته يتوقف على مبلغ ما يأنسه فيها من قوة الشعور القومي أو ضعفه، ومن الأسف أننا نجوز مرحلة فتر فيها الشعور القومي، وفترت فيها قوة المقاومة؛ فلنعمل بكل ما وسع الجهاد المشروع لإذكاء هذا الشعور، ولنلتمس دائما لإذكائه ذكريات المحن القومية، فالمحنة تشحذ همم الأمم الحية، والشعور القومي لا يكفي في تغذيته أن تردد الفصول الفاترة المتماثلة كل عام، والحريات لا تغنمها إلا شعوب فياضة الوطنية، فياضة الشعور بكرامتها.

(ع)

-