انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 574/ فساد الطريقة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 574/ فساد الطريقة

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1944


1 - فساد الطريقة

في كتاب النثر الفني

(عدم الدقة)

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

أردنا بما قدمنا من أمثلة لتناقض صاحب الكتاب أن ندل على فساد تفكيره. وورود مثله في أي بحث بل في أي كلام كاف في إسقاطه، فلا يقام له وزن في ميزان الحق والصواب. لكنا لا نريد أن نقف عند هذا، بل نريد أن ندل أيضاً على فساد طريقته، لأنه قد جمع فساد الطريقة إلى فساد التفكير

وسنبدأ من عيوب طريقته بعيب يمت إلى سوء التفكير بسبب وثيق، ذلك العيب هو عدم الدقة. وصاحب الكتاب يعلم أن الدقة أول شروط البحث، وأن مراعاتها أول ما يجب على الباحث. وما أظنه إلا قد اجتهد أن يكون دقيقاً: دقيقاً في التفكير، دقيقاً في التعبير، دقيقاً في الفهم، دقيقاً في الاحتياط لما يظنه الحق. لكن أخطأه التوفيق أو أعوزته المقدرة في كل هذا، فلم تنجه محاولة الدقة في التفكير من الوقوع في التناقض الذي رأيت، وأسلمته محاولته الأخرى إلى ما سترى

وسأبدأ من الأمثلة بمثل جامع أو شبه جامع لعدم الدقة في كل هذا. ذلك أن صاحب الكتاب أراد أن يحكم في مسألة الشعر والنثر أيهما أفضل فقال من صفحة 25

(أحب أن أدون رأيي في الفرق بين منزلة الشعر ومنزلة النثر، وهو رأي لم أسبق إليه: رأيي أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة؛ فهناك مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر. والبليغ الموفق هو الذي يفهم سياسة الفطرة في مثل هذه الشئون)

وأراد أن يضرب مثلا يوضح معناه. فهل تظنه جاء بشعر لا يصلح لموضوعه النثر، أو بنثر لا يصلح لموضوعه الشعر؟ لا هذا ولا ذاك، بل جاءك بمحاورة بينه وبين المسيو مرسيه في مغزى عدول معاوية رضى الله عنه عن سجعه كان أملاها على كاتبه، فأخطأ كلاهما الصواب كما سنبينه في موضعه، وأخطأ هو في الاستطراد. ثم قال تماما للتوضيح: (ولو تتبعنا آثار الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر لرأيناهم يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغني فيها النثر شيئاً؛ فبديع الزمان يمضي في رسائله ومقاماته ناثراً، ثم ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد. وقد رأينا عبد العزيز بن يوسف يراسل الصاحب بن عباد فيبدأ خطابه ناثراً، ثم يميل إلى النظم ولا يفوته أن يعلل ذلك فيقول: ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا وفي نفسي إتمامه نثراً فمال طبعي إلى النظم، وأملي خاطري على يدي ما كتبت ونعم المعرب عن الضمير مضمار الفريض:)

هذا اقتباس طويل، أليس كذلك؟ لكن لا بأس بطوله ما دام يعين على ما نحن بصدده من ضرب المثل لعدم الدقة عند صاحب الكتاب في أكثر من ناحية

وأول ما يلفت من كلامه هذا هو بعد ما بين أوله وبين آخره، أو ما بين رأيه وبين استشهاده على ذلك الرأي، فرأيه عبر عنه بصيغة القصر والحصر: (مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر). . . (يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغنى فيها النثر شيئاً). . . فهو هنا لم يدع لاشتراك النثر والشعر موضعاً، لكنه فيما استشهد به يخبرك عن بديع الزمان في رسائله ومقاماته إنه (ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد) فهل كون الشعر عندئذ أقرب إلى ما يريد بديع الزمان معناه أن النثر لا يغني شيئاً عن الشعر في ذلك الموضع؟ أم معناه، أن النثر قريب إلى ما يريد البديع ولكن الشعر أقرب، حتى في رأي صاحب الكتاب؟ فرأي صاحب الكتاب في الآخر غير رأيه في الأول، أو دعواه على بديع الزمان في الآخر تقصر عن دعواه في الوسط وعن تفرقته بين ما لا يصلح له إلا الشعر وما لا يصلح له إلا النثر في الأول. ولا أريد أن أسمي هذا تناقضاً، ولكنه تقصير في الفهم وتقصير في التعبير، فيما يتعلق ببديع الزمان وفيما يتعلق بعبد العزيز بن يوسف

ومع ذلك قد نفى صاحب الكتاب في صفحة 26 عن عبد العزيز بن يوسف أن يكون جيد الشعر (والقطع التي وصلت إلينا من شعره باردة الأنفاس) في قول صاحب الكتاب، مع أنه قد أدخله قبل في (الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر)، كما رأيت. وإذن فقد استشهد به، على علات تلك الشهادة، ثم كر عليه بما يبطل شهادته في صلاحية الشعر حيث لا يمكن أن يصلح النثر. فماذا تسمي هذا من صاحب الكتاب؟ إن لم يكن تناقضا فهو على الأقل عدم دقة في الفهم والتفكير

ولعلك لاحظت أن صاحب الكتاب حين أراد أن يحكم بين الشعر والنثر في المنزلة بادعائه مواطن للقول لا تصلح إلا لأحدهما دون الآخر، لم يتمم التقسيم من ناحية، ولم يبين تلك المواطن من ناحية أخرى. لكن يظهر أنه ترك بقية التقسيم لفطنة القارئ، وإن كان هو ليس عنده من الفطنة ما يتجنب به إبطال شهادة ثاني شاهديه؛ أما مواطن كل من الشعر والنثر، فقد عاد إلى تبيينها بقوله من صفحة 26: (قلنا أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة، فلنعد إلى ذلك بكلمة حاسمة فنقول: إذا كان موضوع القول متصلاً بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب، لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلا بأعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب، لأن لغته أقدر على الشرح والإيضاح والإفهام والتبيين والإقناع). وتلاحظ أنه هنا قد عدل عن صيغة القصر إلى صيغة التفضيل، فهو يبيح لكل من النثر والشعر أن ينوب عن صاحبه، وإن لم يسد مسده ويغن غناءه، لكنك تلاحظ أيضاً أن كلمته الحاسمة هذه، وإن كانت أرخى زماماً من كلمته الأولى التي لم يسبق إليها، قد أخرجت الشعر من مجال العقل وأخرجت النثر من مجال القلب من حيث السبق في الإجادة والصلاحية للتعبير؛ فالسبق دائما للشعر في مجال القلب، وللنثر في مجال العقل من غير نظر إلى الشاعر ولا إلى الكاتب. أي أنه لم يعر شاعرية الشاعر ولا كاتبية الكاتب أي التفات: فعنده أن المواضيع المتصلة بالقلب يجب أن يتناولها صاحبها بالشعر؛ فأن لم يكن شاعراً لم يكن له أمل في النبوغ. ومثل هذا يقول طبعاً في المواضيع المتصلة بالعقل. ولسنا ندري - ولا نظنه يدري - من أين له هذا الحكم النظري البحث، وإن ادعي له الحسم. كما لا ندري ما رأيه في مثل معلقة الحارث بن حلزة، وهي خطبة جدلية في قصيدة. لكن الأهم من هذا وذاك أنه وهو يبحث ويأتي بالحاسم من الرأي لم يرد داعياً لأن يحدد الاتصال بالمشاعر والعواطف والقلوب ما نوعه وما مداه، إذ غير معقول أن يكون كل ما اتصل بالشعور أولى به الشعر، ولا كل ما اتصل بالفهم أولى به بالنثر، وإن كان الثاني أقرب إلى المعقول من الأول. فالحارث بن حلزة ألقي خطبة شعرية والجدل منها أكبر النصيبين، ولم يمنعه ذلك أن يذكر بها مدى الدهر.

والخطب الوعظية أو الحماسية في الصدر الأول، وبعد الصدر الأول، لها من القلب والشعور أكبر النصيبين، ولم يمنعها ذلك أن تؤثر ويذكر بها أهلها مدى الدهر، فأين هو ذلك الحسم الذي ادعاه صاحب الكتاب لكلمته تلك؟ إنها كلمة مبهمة، لا حسم فيها ولا فصل، فهي مثل للتقصير في النظر، وعدم الدقة في التفكير وفي التعبير

على أننا سنفرض أن صاحب الكتاب أراد بذلك الذي سماه اتصالاً بالمشاعر والعواطف والقلوب، على أقل تقدير علاقة الحب. فهل تظنه حتى في هذا كان أدنى إلى الدقة في بحثه والاحتراس في التعبير، فلم يسو بين النثر والشعر في هذا الباب؟ إن كنت تظن هذا فاقرأ له ما كتب في صفحة 157 في فصل النسيب: (وفي القرن الرابع يظهر الغزل في النثر ظهوراً رائعاً بحيث يمكن مقارنة الرسائل الغرامية بأقوى قصائد التشبيب، ولا يمكن الارتياب في قدره كتاب القرن الرابع على إجادة هذا الفن وتفوقهم فيه وتصرفهم في ضروبه تصرف المبدعين). فأين ذهبت إذن تلك الكلمة الحاسمة وذلك الرأي الذي لم يسبق صاحب الكتاب إليه؟ أم هو مجرد كلام يثبت باسم البحث في صفحة 26 وينفي باسم البحث أيضاً في صفحة 157؟ وإذ كان صاحب الكتاب لا يستطيع الاحتراس والتزام الدقة حتى في أضيق الدوائر وأظهرها وأقربها إلى ما ألف وألف الناس، فمتى يرجى منه أن يقوم بما يوجبه البحث من الدقة والاحتراس والاحتياط؟ ولا تنس أن عبارته هذه قد كتبها وهو يبحث عن خصائص النثر الفني في القرن الرابع، أو هكذا على الأقل قد ترجم للباب الثاني من الجزء الأول من كتابه، فلا يمكن أن يعتذر له عنها بالمبالغة أو بالتحمس كما يعتذر للناشئين، لأن النثر الفني في القرن الرابع هو موضوع بحثه الأصيل، وما عدا ذلك فهو ملحق به محشور فيه. فإذا كان هذا الرجل جاداً في بحثه، يعتقد بما يقول وما يقرر، فلماذا لا يطبقه؟ وإن كان يطبقه فلماذا لا يتعلم كيف يحسن التطبيق؟

محمد أحمد الغمراوي