مجلة الرسالة/العدد 574/وحدة الوجود
مجلة الرسالة/العدد 574/وحدة الوجود
بين الفلسفة والدين
للأستاذ محمد يوسف موسى
تناول في هذا الأيام مذهب وحدة الوجود بعض كتاب الرسالة وقرائها النابهين الأفاضل، بمناسبة (رسائل التعليقات للرصافي) ونقدها للأستاذ دريني خشبة، وكل عرض لهذا المذهب من الناحية التي يراها جديرة بالاهتمام. وقد رأى أحدهم، وهو الأستاذ زكريا إبراهيم المعروف باصطناع الدقة في التعبير والحكم، أن من التعسف والخطأ والمجازفة أن يقال عن هذا المذهب إنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف وإنه لا يتفق وعقائد الدين الحقة
لذلك أرجو أن يكون لي التقدم بهذه الكلمة؛ لعلها تكشف بعض الحقيقة، أو تساعد على الوصول إليها
الذهاب إلى الفكرة (وحدة الوجود) ليس إلا أحد الحلول أو الإفهام التي حاول بها المفكرون والفلاسفة في القديم والحديث أن يحلوا أو يفهموا مسألة صلة الله بالعالم، وفد أنتج التفكير في هذه المسألة كثيراً من المذاهب التي وعاها الزمن وسجلها تاريخ الفلسفة
ومحي الدين بن عربي من زعماء القائلين بهذه الفكرة، وكان له من أجل ذلك أنصار وخصوم؛ هؤلاء يقذفونه بالزندقة والكفر، وأولئك يجعلونه الشيخ الأكبر وأحد أولياء الله وأصفيائه، ولكل أمارات ودلائل، ولا يتسع المقام لذكر ذلك أو الإشارة إليه. إلا أني أشير إلى أن عبد الوهاب الشعراني، وهو من أكبر أنصار الشيخ، حاول أن يوفق بين الشريعة وبين ما ورد في مؤلفات الشيخ مما لا يتفق والدين، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً، فلجأ أخيراً إلى حذف ما لا يتفق وما عليه أهل السنة والجماعة من كتاب الفتوحات، كما يروي ذلك بنفسه في مختصره لهذا الكتاب، وتلك لعمري خطة إثمها أكبر من نفعها!
ولكن، ما معنى هذه الفكرة (وحدة الوجود) التي تؤدي إلى التكفير في رأي كثير من الناس؟ هي، كما تبين من كتب ابن عربي نفسها، القول بأنه ليس هناك إلا وجود واحد هو الله والعالم كله مظاهر له، أو بعبارة أخرى ليس جميع الممكنات إلا مظاهر للحق (الله) يتجلى فيها ولولاه لكانت عدم ومعنى هذا أن الحقيقة التي هي الوجود الحق هي ذاته تعالى: وهي في عالم الحيوان حيوان، وفي عالم النبات نبات، وفي عالم الجماد جماد؛ فالله منبت في كل شيء من سماء وأرض وشجر وحيوان، وما إلى ذلك كله مما خلق حتى عجل بني إسرائيل هو بعض مجالي الله ومظاهره، ولهذا صح لموسى عليه السلام أن يقول للسامري: (وانظر إلى إلهك)
هكذا يقول ابن عربي ويتناسى تتمة الآية: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرفنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً) مما يدل دلالة واضحة لا تختل الجدل والمكابرة على ما في خطاب موسى عليه السلام للسامري من تهكم به وبما صنع!
وليست هذه النصوص متفردة في مؤلفات ابن عربي، إنها مليئة بكثير أمثالها الدالة على هذه النظرية الغامضة الصعبة التصور والعسيرة الفهم، والبعيدة عن العقل والدين فيما أرى، ويرى كثير غيري إنها لا تتفق مع الدين الذي يرى وجود موجودين - الله والعالم - متباينين في كل شيء ومنفصلين تمام الانفصال، أحدهما وجوده رهن بإدارة الآخر، ولا تتفق كذلك معه بحال ما، ما دام الدين ينزه الله عن أن يكون أشرف مخلوقاته مجلى ومظهراً له، فكيف بعجل بني إسرائيل وما دونه
ولا تتفق كذلك مع العقل الذي يرفض أن يؤمن بشيء يعجز عن إدراكه على أي نحو كان، كما أنه لا يرى ضرورة للإيمان بها في سبيل فهمه الله والعالم والعلاقة بينهما
ولعل رفض العقل والشرع لفكرة وحدة الوجود هو الذي جعل بعض المفتونين بابن عربي يبرئونه من القول بها أو الذهاب إليها؛ أمثال السراج البلقيني والسيوطي والشعراني وعبد الغني النابلسي، ولكن كيف يمكن هذا، والفتوحات والفصوص قاما على هذا المذهب ولا يستطاع تأويلها جميعاً!
قد يقبل الإغماض في عبارة يجري بها لسان صوفي أخذه الوجد، وارتفع به الحال، وشاهد ما لا نشاهد، فقال في لحظة من لحظات التجلي والمشاهدة: أنا الحق - مثلاً! - ولكن ليس من المقبول الإغماض في نظرية قام عليها مذهب، وامتلأت بها كتب، وسجلها صاحبها وهو هادئ النفس يحس بما يقول ويقدره قبل أن ينطق به!
لقد أبنت رأيي بوضوح وتفصيل في ابن عربي - معتمداً على مؤلفاته - من الناحية الدينية والأخلاقية، في كتابي الذي ذكرته بالهامش، وأتبعت ذلك برأي ابن تيمية فيه وفي أمثاله، وفعلت ذلك للعلم وحده ولتوفية ما يجب للدراسات العلمية من أمانة وعدم تعصب، ولا أريد هنا أن أذكر شيئاً مما ذكرته هناك في هذه الناحية
ولعل الأخ الفاضل الأستاذ زكريا إبراهيم لا يرى تعد هذا أن من التعسف والخطأ والمجازفة وصف مذهب وحدة الوجود بأنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف، بل لعله يرى أن هذا الوصف فيه غير قليل من الاعتماد!
وأما القول بأن (من دأب العامة أن تتمرد على كل ضرب من ضروب الامتياز)، ولهذا (ليس أيسر على الناس من أن يقرفوا الفلاسفة والمفكرين بالكفر والإلحاد)، فلن يصرف من يرى الحق أن يصدع به، ومع هذا، ليت شعري أكان الغزالي وأمثاله من العامة؟ على أني أرى أن نتشدد جميعاً ونقتصد اقتصاداً كبيراً في الحكم بالتكفير والزندقة والإلحاد ونحو هذا مما يتصل بالعقيدة والدين.
محمد يوسف موسى