مجلة الرسالة/العدد 573/بحث نفسي عملي
مجلة الرسالة/العدد 573/بحث نفسي عملي
العقل الباطن
ما هو وكيف تصل إليه؟
للأستاذ عبد العزيز جادو
شبه وليم جيمس العالم النفساني المعروف العقلين الواعي والباطن بكتلة من الجليد عائمة في البحر. عشرها يرى طافياً على سطح الماء، وتسعة أعشارها مغمورة فيه. ويهمنا أن نذكر أن ليس هناك كتلتان - واحدة فوق سطح الماء وأخرى تحته - ولكنها واحدة فقط تسعة أعشارها مغمور
وفي تشبيه البروفيسور جميس، نرى أن العقل ككتلة الجليد، عشره واع. والعقل الواعي هو العقل المفكر؛ عقل الدراية؛ العقل الذي يبت في الأمور. وتسعة أعشار العقل باطن - أي تحت مجال الشعور. . . ليس هناك عقلان، وإنما هما حالتان متباينتان للعقل
العقل الباطن هو مستودع الذاكرة. هو مركز عواطفنا وغرائزنا، يسيطر على أفعال الجسم العادية المنعكسة وغيرها من الأفعال اللاشعورية. وهو يباشر تجديد بناء الجسم حينما تموت خلايا قديمة وتولد أخرى جديدة. العقل الباطن لا يناقش قانونه الإيحاء، فهو يتلقى الإيحاءات الموجهة إليه من العقل الواعي ثم يبدأ في العمل على إبداع الحالات التي توافق تلك الإيحاءات. وهذا هو السر الأعظم للنفوذ العقلي على الإنسان. وإن الرجال أو النساء الذين يقدرون هذى الحقيقة ويتعلمون بالتمرين ليصلوا العقل الباطن ويغرسون فيه إيحاءات الصحة والسعادة والقوة والتحصيل، يمكنهم أن يكونوا أساتذة أحراراً لأنفسهم ومصايرهم مجددين بناء أنفسهم في حدود كون أوسع وأنبل وأقرب إلى الغاية البشرية العليا
والطرق التي ينصح بها علماء النفس للوصول إلى العقل الباطن تتطلب هدوءاً وجهداً ذاتياً، وانسحاباً من مشاغل الحياة
كثير من أساتيذ علم النفس والعلوم العقلية يؤكدون أهمية العقل في الهيمنة على التصرفات الإنسانية، كما في حالة الصمت مثلاً، فقد يكون الصمت مطلوباً لذاته، بيد أن طلاب العلوم النفسية يكابدون آلاماً في سبيل هذا الصمت. وإذا حملنا النفس في مثل هذه الحالة على الرضوخ إلى الفكرة اللاشعورية يكون التأثير إثمه أكثر من نفعه
والطرق المتبعة يمكن أن تمارس في الطريق إلى عملك، وفي عملك، وفي بيتك، ومهما يكن عملك. يمكنك الوصول إلى اللاشعور طول يومك، وبواسطة الإيحاءات المغروسة فيه تحول حياتك كما تريد
1 - لقد تعلمنا أن اللاشعور هو مستودع لجميع الأفعال الانعكاسية والاعتيادية. وكل عادة من عاداتك تكون كأمر محقق، عاملة على التأثير في العقل الباطن. ونحن نبني العادات بتكرار أفعال ثابتة. وكل عادة تطبع نفسها على اللاشعور؛ تكون في الواقع شيئاً من اللاشعور وأنت لا يمكنك أن تكون عادة من غير أن تعمل تخطيطاً في العقل الباطن، ومن ثم تمسى هذى العادات انعكاسات. وأنت تتصرف بطرق مبهمة بدون فكرة متيقظة أو إرادة. وهذه العادات تباشر سلوكك حتى أن الطريقة العملية للوصول إلى اللاشعور تكون ببناء العادات الحسنة، وهذه تبنى بالتكرار الدائم. أبدل عاداتك السلبية بعادات إنشائية. وبذلك تتحول حياتك بواسطة هذه الطريقة الوحيدة - طريقة القيادة اللاشعورية - مثال ذلك أن رجلاً في السادسة والسبعين من عمره اعتاد الإسراف في التدخين. ولقد حاول مرات عدة أن يقلع عن هذه العادة. وألان، ما عادة التدخين؟ هي التدخين، مراراً وتكراراً إلى أن صارت حركة عادية. فلكي تقطع العادة عليك أن تغطيها بعادة أخرى. لقد بدأ هذا الرجل بالإقلاع عن التدخين. لقد شعر أول مرة أنه يحب التدخين، ولكنه قال (لا) تلبية للمؤثرات الداخلية. إن له رغبة في التدخين ولكنه لم يفعل. وفي المرة الثانية استجاب كذلك للرغبة، على حين كاد يبدأ في تكوين عادة أخرى. وفي المرة الثالثة كان ينمى ببطء عادة معاكسة للتدخين (لا. لن أدخن) فبعد أن فعل هذا عدداً من المرات كون عادة عدم التدخين. وهكذا ركب عادة على أخرى بهذه الطريقة حتى أمحت السابقة
إن هذا سيعطيك مفتاحاً لمنع أية عادة، أيا كانت لا سيما إذا كانت عادة طبع سيئ. والطبع هو تلبية تؤثر في الاحساسات لتتنبه من الخارج الذي يقلقنا
2 - العقيدة هي الوسيلة المستترة للوصول إلى اللاشعور. فالذي تعتقد فيه برسوخ يصير في العقل الباطن أثراً سائداً. وآثارك السائدة هي التي تقودك. ولهذا يجب أن يكون لك عقيدة، لأن وجهة نظرك ستحكم أفعالك إذا كان لك عقيدة غير معقولة - عقيدة مبنية على خرافة وجهل وخوف وكذب لا تقوى على البحث العلمي - وتضحي حياتك ملتوية، ضيقة وبيلة؛ ولكن إذا كانت لك عقيدة غير مكبلة بقاعدة أو مبدأ، لم يفسدها خوف، عقيدة في سمو الحياة، والاعتقاد الذي لا شك فيه للوجود غير المتناهي، عقيدة في الاستقامة الجوهر للأشياء - هذه العقيدة السماوية هي التي سوف تجعل من حياتك جنة، وتطهر شعورك الباطن، وفي هذا تطهير لقواك الواعية
3 - لقد بينا أن اللاشعور هو مستودع الذاكرة، وكل شئ تذكره يهبط إلى اللاشعور، فإذا أردت أن تصل إلى العقل الباطن فما عليك إلا أن تستذكر شيئاً. استذكر الفكر العظيمة، فإن أثراً مدهشاً، وهذا هو السبب في أنك في الصيف يروقك كثيراً أن تحوطك المناظر الجميلة. خذ إجازة أسبوعين تمضيها في جهات خلوية تر فيها عجائب الطبيعة منتشرة أمامك. ثبت هذه الصور في اللاشعور. استذكر بعض أبيات شعر جميلة، أو فكرة منبهة، أو عبارة نبيلة، ستفتح باباً من أبواب اللاشعور، وتضع فيه اهتزازات شافية وتأثيرات فعالة
4 - قانون الهدوء يتطلب تركيز قواك الباطنة على شئ محدود فتكون سيداً وعقلك الباطن خادمك. ألق مطالبك على اللاشعور فعنده القوة على إجابة طلبك، وله القوة على العمل بأمرك إذا عملت على إلقاء طلباتك بقوة كافية. إذا أعطيت إيحاءاتك إلى اللاشعور بطريقة مترددة ومسايرة للزمن، لا يمكنك أن تنتظر نتائج من أي نوع
عندما تذهب إلى عقلك الباطن لا ترج ولا تتملق. بل ألق أوامرك على اللاشعور كأنما أنت قائد وهناك ملايين الجنود في انتظار سماع أوامرك لتفعلها. ألق أوامرك؛ وليكن رجاؤك هو الأمر الهادئ بدلا من الالتماس الحقير - هذا هو الرجاء حسب الأصول العلمية
5 - قدم رجاءك الاصطلاحي إذا شعرت بدافع. ادفع الإيحاء إلى جميع مشاعرك على قدر ما تستطيع. مثال ذلك: إذا أردت نظراً صحيحاً فكر فيه، وقل: (أعين سليمة، أعين سليمة)، ما الذي يفعله هذا؟ إنه يدفعها إلى الأذنين. ثم انظر لنفسك في مرآة وتصور عينيك كأنهما سليمتان تماماً. اكتبها على قصاصة ورق. اكتب خمسين مرة (نظر صحيح) فهذا ينبه حاسة النظر. اطبعها على اللاشعور بواسطة جميع الحواس المختلفة
6 - صور الأشياء غير منظورة لعقلك في رسوم. ويمكنك أن تطبع في اللاشعور رسمياً بأكثر سهولة من فكرة مختلسة - ازرع المقدرة على التصور، أي المقدرة على إتيان صور عقلية واضحة وعيناك مغلقتان. شاهد نفسك كاملا، فاعلا الشيء العظيم الذي تتمنى أن تفعله، ما حاجتك؟ أنت تشتغل في شركة بكفايتك الضئيلة بأجر زهيد؟ إذن صور نفسك لعقلك أنك رئيس أو مفتش. انظر لنفسك كأنك أنت هذا الرجل وأنك تقوم بعمله. احتفظ بهذه الصورة دائماً أمامك
7 - في الصباح المبكر عند استيقاظك من النوم، وفي المساء قبل أن تأوي إلى فراشك، لحظتان سيكولوجيتان. يكون الشعور فيهما في تأدية وظيفته عن جزء فقط، واللاشعور في رقوده مفتوحاً. فحالما تفتح عينيك في الصباح، لتكن أول فكرة لك هي الفرح. الفرح باستقبال فجر يوم جديد. استقبله بابتسامة واغتبط بمرور ليلة وبدء يوم آخر. ردد قولك: (اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، فلك الحمد ولك الشكر)
هذه الأفكار الحسنة ترفعك فوق كل شئ حقير، وتضعك في جو من الأمن والفرح والجمال والقوة
استعمل اللحظة السيكولوجية فإنها ستفتح اللاشعور
(إسكندرية)
عبد العزيز جادو