انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 573/القرآن الكريم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 573/القرآن الكريم

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1944


6 - القرآن الكريم

في كتاب النثر الفني

(ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعي إلى

الإسلام)

(قرآن الكريم)

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

لقد كنا على حق حين شرحنا الدكتور زكي مبارك وحللناه وفضحنا موقفه من الإسلام والقرآن. وكنا على حق حين قررنا أنه يتخذ الأدب حيلة ووسيلة إلى محاربة الله الذي أنزل القرآن آية منه سبحانه، هي عند من يفقه ويعلم أكبر وأعجب من آياته في السماء والأرض. وكنا على حق قلنا إن اتخاذ زكي مبارك الأدب وسيلة لإفساد الخلق بنشر المجون، ولإضلال النفوس بنشر الإلحاد، هو أول تلك المحاربة وليس بآخرها، وإن يكن بعد أظهر مظاهرها، فإن محاولة إبطال حكمة الله في جعل كتابه الذي أنزله على آخر أنبيائه ورسله معجزة أدبية، هي محاربة لله من غير شك وزكي مبارك يحاول إبطال تلك الحكمة عن طريقين: طريق نظري هو الدعوة إلى إنكار إعجاز القرآن ليبطل عند صغار العقول أمثاله أن القرآن من عند الله، وطريق عملي هو العمل على جعل الأدب إباحياً شهوانياً بعد أن جعله الله في القرآن وبالقرآن إصلاحياً ربانياً. لقد أحيا الله بالأدب أمة، وأنزل معجز كتابه للإنسانية رحمة، وزكي مبارك يريد أن يعين بالأدب على موت أمة، أو أن يسد باب الحياة ونديم فتح باب الفساد والفناء على هذه الأمة المبتلاة به وبأمثاله من الملاحدة الإباحيين

ولسنا نريد ظلم زكي مبارك، فهو في هذا تابع مقلد، لا مبتكر ولا مبتدع. فقبله كان أبو نواس وأمثال أبي نواس من الذين صرفوا الأدب عن الوجهة التي شرعها الله للناس في الأدب بالقرآن، فجعلوا الأدب للغواية بعد أن كان للهداية، وجعلوه للشيطان بعد أن كان لله. وقبله كان ابن الراوندي وأمثال ابن الراوندي من أهل الأهواء الذين أرادوا أن يهدمو الإسلام فلم يهدموا ولم يهلكوا إلا أنفسهم، والذين كانوا يبغون كلام الله عوجا، فلم يقع العوج إلا بهم عقلاً ونفساً وقلباً وعملاً، كما وقع بعقل زكي مبارك ونفسه وقلبه وعمله، وذهبوا وبقى كلام الله، كما وصفه الله سبحانه وتعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) و (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا)

ولقد ندم أبو نواس وما ندم زكي مبارك، وما أظنه يندم. ندم أبو نواس حين قال: (فإذا عصارة كل ذاك أثام)، وحين قال: (وتذكرت طاعة الله نضوا). وما ندم زكي مبارك حين يقول - في بعض ما كتب بعد كتابه التافه الفاسد الذي شغلنا بهذه الكلمة عما كنا بسبيله من تبيين تفاهته وفساده - يقول محدثاً عن نفسه في العراق: (يئست من الصيد في الحرم الحيدرى بعد فرار تلك الغزالة، وبدأت أعتب على سيدنا علي بن أبي طالب، فمثلي لا يكرم في رحابه بالماش والجلاش، وإنما يكرم مثلي بالهيام في أودية الفتون)! وليت سيدنا علياً (كرم الله وجهه) كان حياً يسمع عتبه، إذن لأكرمه بالعصا أو بالحجر، جزاء الماجنين المتهتكين أمثاله. ذلك في العراق، وفي مصر لم يندم حين يقول تحريضاً على الفجور في بعض ما كتب: (ارجعوا، فالفضيحة في غرامي تكريم وتشريف، لأني قيثارة الغرام في ألحان الخلود)! ونعوذ بالله من غرور يؤدي إلى خبال! فما سمع قبل اليوم أحد في أدب مكشوف أو مستور، بتكريم في فضيحة، أو بقيثارة في ألحان، إلا من مثل هذا الدعي الذي يكذب على الأدب وعلى الناس كما يكذب على الله

ولقد أصر ابن الراوندي كما يصر زكي مبارك على محاربة الله ورسوله بالكذب والزور وقلة الحياء. وهل كذبٌ أفظع أو زور أشنع من زعم هذا الرجل في كلمته الأخيرة أن القول بإعجاز القرآن جهل، وإن إنكار الإعجاز علم، وإن الإيمان بالقرآن كما آمن ويؤمن المسلمون من لدن عصر الرسول إلى اليوم هو إيمان العجائز لا إيمان أهل الشباب والعافية؟ إذن فماذا كان إيمان أمثال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص، ومن إليهم من شباب الإسلام الذين صار كثير منهم بعد شيوخا، والذين جاهدوا في شبابهم وشيبهم من كان على مثل إيمان زكي مبارك اليوم؟ أفكان إيمان أولئك يمت إلى عقيدة زكي مبارك بصلة وهو يقول ما يقول في القرآن؟ أم كان إيمانهم إيمان عجائز يقوم على مجرد التصديق وإيمان هو يقوم على الدليل والبرهان؟ والله لو كان إيمانهم كذلك لكان خيراً ألف مرة مما يزعمه زكي مبارك لنفسه من إيمان هو في الواقع لا إيمان، ويقين هو في الواقع شك وإلحاد. إذ ما فائدة الدليل والبرهان إلا أن يوجد عند صاحبه ذلك الإيمان القرآني الذي لا يتزعزع، إيمان العجائز الذي يتهكم به زكي مبارك الآن؟ وإذا وجد هذا الإيمان الراسخ الراسي عن طريق التصديق البديهي، فما الحاجة إلى سوق الأدلة والبراهين؟ ومع ذلك فالأدلة والبراهين متظاهرة متضافرة، لا تدحض ولا تنقض، ولكن زكي مبارك وأمثال زكي مبارك قوم لا يفقهون

ومن وقاحة هذا الرجل ومكابرته التي لا حد لها زعمه الذي زعم من أن المرجع في شرح أصول الدين صار إلى مثله - والعياذ بالله - وأن المسلمين كلهم يشهدون بأن أقلام من لف لفه هي التي تبصر المسلمين بجمال الشريعة الإسلامية وجمال اللغة العربية، والله يؤتى الحكمة من يشاء! فهل رأيت صفاقة أوقح من صفاقة هذا الذي ينكر أن القرآن امتاز بأسلوب ثم يزعم أنه بجمال اللغة العربية بصير، وينكر من الشريعة الإسلامية أسسها ويزعم أنه بجمالها خبير، ويقول في بعض ما كتب: (أعبد الله وأحب الشيطان) (أنا كافر يا ظمياء) ثم لا يتحرج أن يتبجح بقوله (ونحن بفضل الله ومشيئته ورعايته أنصار هذا الدين، ولن يتلقى المسلمون مبادئه إلا عن أقلامنا) (والله يؤتى الحكمة من يشاء)! (إن أبنائي تعجبوا من أن يسمح الأستاذ الزيات بنشر كلام يزعم كاتبه أني أحارب القرآن، وأحارب الدين)؟

طيب! زكي مبارك لا يحارب القرآن ولا يحارب الدين، وما شاء الله كان! ففيم قوله من كلمته الأخيرة (إن ذلك الناقد الحاقد لكتاب النثر الفني وقف عند مسألة شائكة وهي المسألة الخاصة بآرائي في إعجاز القرآن، ولم يقف عند هذه المسألة إلا لأنه يعرف أن الظروف لا تسمح بأن أجازيه عدواناً بعدوان) إلى آخر سفهه الذي قال. فلم كانت مسألة إعجاز القرآن شائكة إن كان يقول فيها بما يقول المسلمون ونطق به القرآن؟ ولماذا تمنع الظروف أن يجازيني عدواناً بعدوان إذا كان عدوانه هو إيراد الحجة التي تبطل عدواني وما اتهمته به من إنكار إعجاز القرآن؟ أيكون لكلامه هذا الممضوغ معنى إلا زعمه أن لديه حججاً تبطل إعجاز القرآن لا يمنعه من إيرادها إلا خوف الناس وبطش القانون؟ إذن فقد أقر مرة أخرى بإنكار إعجاز القرآن! على أني اتهمته بأكثر من إنكار إعجاز القرآن. اتهمته بأنه يرى القرآن كلام محمد لا كلام الله، وأن الأديان كلها، لا الإسلام وحده، بنت البيئة ومن وضع الأنبياء، وأوردت على ذلك البراهين من كلامه. فهل يستطيع دحضاً لتلك البراهين؟ إن كان يستطيع فلماذا لم يفعل؟ وإن كانت تلك التهمة الخطيرة لا تطابق ما يعلم من نفسه، وإن صادفت عبارات تشهد لها من كلامه، فلماذا لم ينكر التهمة؟ ولماذا لا ينكرها مجرد إنكار وإن لم يأت لعباراته تلك بتوجيه أو تأويل؟ وإذا كان لا يستطيع هذا ولا ذاك فأينا الجاهل بالإسلام، الكاذب على الله، المخادع للناس؟

الحق إنه لم يعلم من نفسه صدق ما وصفته به، وصدق تحليلي نفسيته، ويعلم أني وفيت بوعيدي الذي كنت أوعدته من كشفه للناس حتى لا يعود ينخدع به مسلم، وأنه لن يجديه بعد اليوم أن يسوق للناس ما ليس من الإسلام باسم الإسلام تضليلاً لهم وإغواء كما كان يفعل من قبل. ومن هنا عدوله عن مقارعة الحجة إلى الشتم، ومن هنا تظاهره بالمقدرة وهو يعلم من نفسه ما يعلمه الناس فيه من العجز. ثم من هنا محاولته إبهام من لم يتبع أصل هذه الخصومة أني أنا الناقد الحاقد تعرضت لنقد كتابه من حيث هو كتاب، ثم وقفت منه عند مسألة واحدة شائكة هي مسألة إعجاز القرآن. وهو يعلم والذين تتبعوا هذه الخصومة يعلمون أنه كاذب، لأن هذه الخصومة لم تثر إلا حول القرآن وإعجازه حين عجز زكي مبارك عن فهم أبسط كلمة في أبسط آية من سورة الفلق، ولأن كتاب النثر الفني لم يذكر حين ذكرناه أول مرة إلا كمرجع يحوي الأدلة على إنكار صاحبه إعجاز القرآن، وذهابه إلى أن القرآن من كلام البشر لا من كلام الله. وطاولناه وأمهلناه لينكر ما في كتابه مما يتصل بذلك، فأبى إلا التشبث به، وفضل أن يذهب معه إلى جهنم الحامية مكان الملحدين الأحرار، فلم يكن بد من أن نورد نحن من الأدلة ما يكفي لإثبات ما ادعيناه عليه وما أسندناه إليه، من غير استقصاء للدليل. فإن كان الذي سقناه من الدليل لا يكفيه فإن لدينا غيره من النثر الفني ومن غير النثر الفني مما ألف ونشر. وإن اكتفى اكتفينا بما قلنا في هذه الناحية، ومضينا فيما كنا بدأنا من التدليل على فساد كتابه من حيث هو بحث. وإن عاد إلى الناحية الدينية بمثل بذاءة كلمته الأخيرة وافترائه، عدنا إلى دمغة بالحجة من غير أن نلجأ إلى إيراد نص سبق، فما أكثر غلطاته وسقطاته وشطحاته التي أتى حين كان يظن أنه في أمن وعافية. وليذكر البيت المشهور الذي قيل في العقرب والعودة إليها إن عادت. ومن أنذر فقد أعذر وحسبنا الله ونعم الوكيل.

محمد أحمد الغمراوي