مجلة الرسالة/العدد 572/كل يوم لنا عتاب جديد
مجلة الرسالة/العدد 572/كل يوم لنا عتاب جديد
للدكتور زكي مبارك
قرأت كلمة الأخ الكريم الأستاذ دريني خشبة فرأيته يصرح بأني خاصمت الرسالة وخاصمت الأستاذ الزيات، لأنهما أطلقا العنان لحرية النشر وحرية الفكر وحرية المجادلة، فهل يكون معنى هذا أني أحارب تلك الحريات، وأني أبغض من يتعرضون لنقد ما يصدر عن قلمي؟
لا شئ من ذلك، فهذا الأخ يعرف مبلغ حبي لحرية الرأي، وإنما أراد أن يتلطف فيدعوني إلى الصلح بذلك الأسلوب الرقيق، ولعله لو انتظر أياماً لرأى كيف يسعى الأستاذ الزيات إلى أو أسعى إليه، فبيننا أواصر أخوية لا يزلزلها خصام ولا قتال، ونحن أعقل من أن نختصم بصورة لا ينفع معها صلح، فالعقل الذي يوحي بمجاملة الأعداء رغبة في تحويلهم إلى أصدقاء، لا يقبل أبداً محاربة الأصدقاء ليحولهم إلى أعداء
والدنيا لا تسمح في كل يوم بخلق صداقة كالصداقة التي بيني وبين الأستاذ الزيات، ولعلها لن تسمح أبداً، فقد تبدلت الدنيا من حال إلى أحوال، حتى كادت تصير الصداقة الصحيحة من ضروب المحال
وما بيني وبين الأستاذ الزيات من الوداد تعرض لمكاره كثيرة، فقد كان لنا في كل يوم عتاب جديد، وكان حين يتعب مني يقول: كيف أستطيع أن أصلح ما بينك وبين الناس ولا أستطيع أن أصلح ما بينك وبيني!
والخصومة الأخيرة لم تكن مما يحب، لأنها وقعت بعد صلح شهده أبنائي قبل أسبوعين اثنين، ولهذا قال وهو يعاتب: ما الذي سيقول أبناؤك؟
وكان الجواب حاضراً، ولكني لم أجب، ولو أني أجبت لقلت: إن أبنائي تعجبوا من أن يسمح الأستاذ الزيات بنشر كلام يزعم كاتبه أني أحارب القرآن، وأحارب الدين، مع أنهم يرون في كل يوم أني أدعوهم إلى المحافظة على الصلوات
وكنت أستطيع أن أقول للأستاذ الزيات: وما الذي تقول أنت إن عاتبك ضميرك وأنت تعرف أني أديت للإسلام خدمات لن يؤدي بعضها من يتهمونني في إسلامي؟
ولكني لم أقل شيئاً، وتركت الأستاذ الزيات ينشر سلسلة من المقالات لرجل حاقد شوى قلبه الحقد عشرين عاماً أو تزيد، وقد قدمت للأستاذ الزيات ردين فطواهما عن عمد، لأنه رآني أحاسبه ولا أحاسب ذلك الحقود، فكيف رغب الأستاذ الزيات في أن ينجو من حسابي، وهو حساب يحمل أنفاس العتاب؟
وما الذي يقع إن طوى الأستاذ الزيات هذا الرد أيضاً ليصورني أمام قرائه بصورة من يأبى الصلح؟
لن يقع شئ، فقد كتبت عشرين رداً، ثم مزقتها جميعاً، رعاية للمودة الغالية التي تفيأنا ظلالها عدداً من السنين. . . وللأستاذ الزيات أن ينسى أني عرفته أو عرفني، فأنا نفسي تناسيت فنسيت، ولم يعد بيني وبين الرسالة من صلة غير متابعة ما ينشر فيها من الأبحاث الجياد
كان رأيي أن معاونة الرسالة فريضة على كل مصري، لأنها صوت مصر في الشرق، ولم يقع ما يغير هذا الرأي، فالرسالة باقية بإذن الله، وسأعاونها ما حييت، وسأتذكر في كل وقت أنها كانت لقلمي أجمل ميدان، وأرحب ميدان
والله عز شأنه هو الذي أراد أن يقع ما وقع، فما كان يخطر في بالي أن لقراء الرسالة نحو كتابها عواطف تصل إلى حد العشق، ولا كنت أتوهم أنني سأتلقى في كل يوم خطابات من قرائي في مصر والشام والعراق، خطابات كلها أسف على ما قيل من أني خاصمت مجلة الرسالة وخاصمت الأستاذ الزيات
وأنا لا أستكثر أن ينزعج قرائي لفراقي، فما كذبت عليهم في حرف، ولا صارحتهم بغير الحق، ولا تخوفت من تمردهم على الصراحة، ولا دعوتهم إلى مصانعة الباطل في سبيل المنافع الفانية
والأستاذ الزيات يعرف كيف جنى قلمي على حياتي، وكيف خلق لي ألوفاً من الأعداء، وكيف قضى بأن أعيش في وطني عيش الغريب
وهل ينسى حزنه لحزني يوم نجح بعض الحاقدين في محاربة الحوار الذي أدرته على لسان آدم ولسان حواء؟
وهل ينسى العلقم الذي اجترعناه معاً ونحن نعاني ثورة الجهّال على القلم البليغ؟
مضى ما مضى، وأصبح ودادي للأستاذ الزيات طيفاً من أطياف التاريخ؛ فلم يبق إلا أن أنص على ظاهرة خطيرة، ظاهرة مؤذية تزلزل المجتمع الإسلامي من حين إلى حين، وهي تتمثل في غرام الجاهلين بالغض من عقائد المثقفين، ليقولوا إنهم وحدهم أهل الإيمان، وليعزوا أنفسهم عن جهلهم البغيض، وتلك تعزية كانت تنفع في الأيام الخوالي، ولكنها اليوم أضيع من الضياع
كنا نجد في عبارات المؤرخين عند التعرض لأحد المفكرين أمثال العبارة الآتية:
(وكان غفر الله له يُتَهم بالنظر في العلوم العقلية)
فهل تبقى هذه العبارة وأمثالها على ألسنة بعض الخلق في هذا العهد؟
وأنا أوجه الأسئلة الآتية إلى من يدعون التفرد بالغيرة على الدين الحنيف:
إذا عجز الإسلام عن غزو قلوب المثقفين فإلى من يصوب سهامه الروحية؟
وإذا صح أن الإيمان الحق هو إيمان العجائز فما هو مصير أهل الشباب والعافية؟
وإذا كان الجهل بشيراً بصحة العقيدة، فما الموجب لإنشاء المعاهد العالية؟
أتريدون الحق؟
الحق أني لن أيأس من أن يظفر المثقفون بمكانتهم في المجتمع الإسلامي، فقد نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة، وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين، والمسلمون كلهم يشهدون بأن أقلامنا هي التي تبصرهم بجمال الشريعة الإسلامية، وجمال اللغة العربية، والله يؤتى الحكمة من يشاء
أقلامنا هي التي تشرح دقائق الأدب العربي، وسرائر الدين الإسلامي، ولن نترك هذه الميادين للجاهلين، ولن نرحم أعمارهم التي تضيع في اتهامنا ظلماً بالزيغ والإلحاد
وإذا ألحدنا فمن يؤمن؟
أيومن الجاهلون وقد حجبهم الجهل عن الإيمان؟
على أنفسهم فليبكوا، إن كانوا صادقين، فما فوق غفلتهم غفلة، ولا فوق جهلهم جهل، وهم حطب جهنم، ولكنهم لا يشعرون
الإسلام دين العقل، لا دين الجهل، ونحن بفضل الله ومشيئته ورعايته أنصار هذا الدين، ولن يتلقى المسلمون مبادئه إلا عن أقلامنا، فليرحم نفسه فلان الفلاني، وليطمئن إلى أن متاعبه في محاربتي لن تنال مني إلا بقدر ما تنال النمال في نسف الجبال لقد سمحت مجلة الرسالة لفلان الفلاني أن يشطح وينطح في نقد كتاب النثر الفني، فماذا صنع؟
انبهرت أنفاسه وانقطعت بعد خمس مقالات هي من الهزال بمكان!
هل كان الأستاذ الزيات ينتظر هذه العاقبة لذلك الفلان؟ اسمع كلامي يا صديقي الزيات، اسمع كلامي ثم اسمع، فما كنت نبياً حتى تزعم القدرة على بعث الأموات، ولا كنت سينمائياً ينطق الصور الهوامد من وراء حجاب
قد أثق بقدرتك على المستحيل يا صديقي الزيات، ولكني أستبعد كل الاستبعاد أن تقدر على خلق ذلك الفلان
ولك أن تجرب حظك إن أردت، لك أن تحاول مغاضبة الله فتحي من أراد الله أن يموتوا، لأنهم جاهلون، وإن زعموا أنهم علماء وأحياء
جرب حظك يا صديقي، فنحن في أزمان التجاريب، وقد تصل إلى أشياء لا تخطر في البال
وأسارع فأقرر أن نجاحك في تجاريبك لن يصل إلى الزعم بأن إيمان الضفادع أشرف من إلحاد الرجال
لقد فرح فلان الفلاني حين رآني أعترف بصحة ما رواه من كتاب النثر الفني، وأنا أرجو الأستاذ الزيات أن يخبرني أنه رأى كتاباً في الأدب العربي أعظم وأعمق من كتاب النثر الفني
أن الأستاذ الزيات يؤرخ الأدب، فليحدثني عن كتاب هو أعظم من كتابي، أن كان يستطيع، ولن يستطيع
أن ذلك الناقد الحاقد لكتاب النثر الفني وقف عند مسألة شائكة، وهي المسألة الخاصة بآرائي في إعجاز القرآن، ولم يقف عند هذه المسألة إلا لأنه يعرف أن الظروف لا تسمح بأن أجازيه عدواناً بعدوان، ولو أني وثقت بأن كلامي ينشر في الرد عليه لوضعت وجهه في الحضيض، لأني في نظره ملحد، ولأنه في نظري جهول، وقد عشنا حتى نرى التهمة بالإلحاد أخف من التهمة بالجهل!
ثم ماذا؟ ثم يبقى ما حدثنا به الأستاذ دريني خشبة عن الكتاب الذي أصدره الأستاذ معروف الرصافي نقداً لكتاب النثر الفني وكتاب التصوف الإسلامي
ومعنى هذا أني وجدت فرصة تشغلني بالأستاذ معروف الرصافي عن ذلك الفلان، فليحمد الله ذلك الفلان، وليثق بأنه في أمان
سأرى ما يقول الأستاذ الرصافي، وسأرد عليه حرفاً بحرف، لأنه من أكابر المفكرين بالعراق، ولأنه شغل نفسه بمؤلفاتي شغلاً يستوجب الثناء.
زكي مبارك