مجلة الرسالة/العدد 57/مهمة الناقد
مجلة الرسالة/العدد 57/مهمة الناقد
بقلم نظمي خليل
شغلت الصحف في الأيام الأخيرة ببعض الدواوين الشعرية وانبرى النقاد والكتاب لهذه الدواوين بالعرض والتحليل. وهذا أمر مألوف، فقد اصطلح الناس على أن يتناولوا كل اثر فني جديد يعرضون له تارة في شيء من التقدير والإعجاب، وتارة في شيء من التحقير والسخط، وحجة كل ناقد أو مستوعب لهذا العمل الفني انه يراه كذلك، وان ذوقه الأدبي يوحي له بهذا.
ولست أريد اليوم أن اسلك هذا الطريق أو أتناول ديوانا من هذه الدواوين بالعرض أو النقد. ولكني أريد أن أتساءل في هدوء ما فائدة النقد وما مهمة الناقد؟
لا ارغب من طرح هذا السؤال أن أثير ضجة في ميدان النقد، أو أن أحط من شأن النقاد، ولكني أتساءل مخلصا ما الفائدة الحقيقة التي تعود على الفن من نقد النقاد وتحليلهم؟
لقد انحط فن النقد عندنا حتى صرنا نرى الناقد لا يعدو أحد رجلين: رجل يكيل المدح في كرم وسخاء، وآخر يرمي بالشتائم والهجاء اللاذع المؤلم في غير تحرج ولا استحياء، وليس هذا عمل الناقد الفنان، فما كان النقد في يوم من الأيام مدحا أو هجاء، ولن تكون مهمة الناقد في يوم من الأيام أن يقف من الأثر الفني موقف من يقول انه حسن أو انه قبيح، ولكن الناقد الفنان هو الذي يستوعب ويقف على هذا الخلق الفني سواء في الأدب أو النحت أو التصوير أو الموسيقى، ويقول لماذا هو حسن وأين موضع القبح فيه.
ويجب عليه إلا يبني حكمه هذا على ذوقه الشخصي، فلو اعتمد النقد على الذوق فقط لنالته الفوضى وعمه الفساد. ولكن النقد لابد له من قواعد وأصول تقوم بجانب هذا التحكم الفردي فتخفف من غلوائه وتوقفه عند حده. ولست اذهب إلى ما ذهب إليه تين المؤرخ الفرنسي من أن زماناً معيناً ومكاناً معيناً وجواً معيناً تنتج أدباً خاصاً. فأنا لا أريد أن احشر النقد في زمرة العلوم، ولكني أرى انه لا يمكن أن يكون فنا خالصا يقوم على الذوق، أو علما محضا مرجعه القواعد والأصول.
أعود بعد هذا الاستطراد إلى سؤالي السابق الذي طرحت، والذي شغلني كثيرا ولا سيما في هذه الأيام، إذ لا يكاد ينقضي يوم حتى اقرأ في صحيفة أو أكثر من صحيفة بحثو مستفيضة تارة عن ديوان (وراء الغمام) وتارة عن ديوان (الملاح التائه) وهكذا، أتساءل في شيء كثير من الإخلاص ما الفائدة الحقيقية التي عادة على أصحاب هذه الدواوين، ولست اعني بأصحاب الدواوين أشخاصهم ولكني اعني ملكة الإنتاج وقوة الإبداع فيهم.
هل استفاد هؤلاء الشعراء من تلك البحوث المستفيضة؟ هل زادت ثروتهم الفنية؟ هل نجد في آثارهم المستقبلة أثراً لهذه البحوث؟ ليس من شأني أن أتجعل الزمن فاحكم على آثار هذه البحوث ومواضيع النقد التي كتبت وتكتب حول هذه الدواوين. ولكني اعرض لكاتب من كبار كتابنا الذين ظهروا حديثا وهو الأستاذ (توفيق الحكيم) لم يكن هذا الكاتب معروفا لدى القراء قبل عام، ولكنه استطاع ان يتبوأ مكانة سامية بين كبار كتابنا في اقل من أسبوع، إذ ما كاد يذيع باكورة آثاره الفنية الرائعة (أهل الكهف) حتى ذاع صيته وعرف في كل مكان. وهنا ألقى السؤال (هل كانت شهرة الأستاذ توفيق الحكيم آتية من جانب النقاد الذين تناولوا روايته أو قصته التمثيلية في إعجاب وتقدير شديدين؟ أم من تلك المسرحية نفسها وما فيها من فن صاحبها وقدرته على تفهم أصول القصة والمحاورة؟.)
أني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال معلنا رأيي في صراحة أن شهرة توفيق الحكيم استمدت غذاءها من روح فضل أساتذة النقد عليه، فقد شادوا بفضله، ووقفوا الناس على فنان كان أمره مجهولا من الكثيرين.
ولكني أسال ما الذي عاد على فن الأستاذ الحكيم من هذا التهليل والتكبير. قد يكون أساتذة النقد أفادوا الأستاذ كمؤلف يريد أن يتعرف للجمهور ويتحدث عنه الناس ويقبلوا على شراء كتبه. وقد يكون أساتذة النقد أفادوا القراء بما استكشفوه في نتاج توفيق الحكيم من فن رائع وعبقرية كامنة. فأقبل القراء على مؤلفاته متزاحمين مدفوعين على قراءتها بما كتبه هؤلاء الأساتذة عنها. ربما كان في هذا الكلام الصواب كله أو بعضه، فكلنا يعرف أن القراء إنما يقرأون بالتأثير كما يتمغطس بعض المعادن من بعض.
فإذا قرأ القارئ كتابا واعجب به أخذ يبدي هذا الإعجاب لمن حوله فيثير فيهم الرغبة القوية لقراءة هذا الكتاب. وهو لا يقنع بهذا ولا يهدأ حتى يقبل أصدقاؤه على هذا الكتاب، وق يكون الأمر على عكس ذلك، فقد يقرأ قارئ كتابا فيضيق به ويسخط على صاحبه ثم هو لا يبقى على هذا السخط في نفسه بل يخلق المناسبات لإعلانه في المجالس وفي الأندية والمجتمعات، ثم هو لا يرتاح ولا يستقر حتى يجد من يشاركه هذا السخط والضيق بالعاطفة والشعور سواء أكانت هذه العاطفة جميلة أو غير جميلة. وسواء كان هذا الشعور في جانب صاحب الكتاب أو عليه.
وقد يكتب أحد أساتذة النقد مقالا يتناول فيه كتابا من الكتب بالبحث والتحليل فيستهوى هذا المقال لب قارئ من القراء - وقد يستهوى كثيرين - فيعلن هذا القارئ آراء هذا الناقد في ذلك الكتاب بين أصدقائه وإخوانه وتكون النتيجة أن يتزاحم هؤلاء الأصدقاء على قراءة هذا الكتاب مدفوعين بما سمعوا أو قرأوا عن هذا الكتاب. فيقرأونه وهم تحت تأثير هذا المقال. وأني أسوق إلى القارئ مثالاً على هذا.
كنت منذ أربعة أعوام اكره الشاعر (تنيسون) وأضيق به كلما هممت أن اقرأ شيئا من شعره. كان هذا منذ أربعة أعوام لم اكن قرأت قبلها نقدا أو تحليلا لشعر هذا الشاعر. قضيت على ذلك عامين وأنا اكرهه، بل كنت اقرأ كل من يذكر اسمه أمامي أو يعجب به، حتى كان لي مع الأستاذ (سكيف) أستاذ الدراما وشكسبير بكلية الآداب نقاش شديد حول هذه الكراهية الغربية. فأخذ الأستاذ يبسط لي جمال شعر ذلك الشاعر، ثم كان ان قرأت كتابه الصغير وهو ثلاث محاضرات كتبها مستوعبا بعض قصائده مقدرا فنه. فأخذ رأيي يتغير وأقبلت على قراءة شعر ذلك الشاعر في حب وتقدير عظيمين.
وأني اقف اليوم من الشاعر بروننج ما وقفته بالأمس من الشاعر تنيسون، ولست ادري أوفق إلى أستاذ كذلك الأستاذ أو إلى كتاب كذلك الكتاب يحبب إلى قراءة شعر هذا الشاعر، أو أني سأقبل عليه من نفسي أو أظل على انصرافي عنه بقية أيامي. أعود إلى سؤالي الأول (هل استفاد الأستاذ توفيق الحكيم شيئا من هذه الضجة الكبرى التي آثارها بمؤلفاته الثمينة. أني أرى أن الفائدة الفنية معدومة، ولكني مع ذلك لا أتجاهل فائدة النقاد للقراء وللمؤلف. للقراء كمرشد يأخذهم إلى مواطن الحسن الفني، وينبههم إلى مواضع الضعف ومواطن القبح، وللمؤلف كإعلان عن كتابه وكإشادة بفنه السامي.
ليس في هذا الكلام تعسف ولا مغالاة. وإني أرجو كل من يرى أو يخيل إليه انه يرى أن في هذا إجحافاً بحقوق النقاد إلا يثور ويحنق، بل أرجو منه أن يهدأ ويخلو إلى نفسه يسائلها هل غير الأستاذ توفيق الحكيم شيئا في فنه نزولا على رأي أو تنفيذا لنقد، هل تفتحت طبيعته عن أشياء كانت أثراً للنقد أو نتيجة لنصائح النقاد. هل زادت ملكة الإنتاج وقويت عنده بعد نشر هذه البحوث وكتابة هذه المقالات. كلا.
أرجو كل من يرى في هذا تطاولاً على النقد والنقاد إلا يحنق ويسخط بل يهدأ ويخلوا إلى نفسه يسائلها ما الفائدة التي عادت على فن شكسبير من مئات الكتب التي كتبت عنه. لقد كتب عن شكسبير ما لم يكتب عن أي إنسان آخر. وانك لترى اختلافاً كبيراً فيما كتب عنه. فمن النقاد من تناول حياة شكسبير الأولى ومنهم من تحدث عن شكسبير شاعر الإنسانية، وشكسبير الممثل، وشكسبير المؤلف المسرحي، وشكسبير المصور المبدع، وشكسبير الفنان وهكذا.
هناك مئات الكتب عن شكسبير وهناك عشرات الكتب كتبت في غرض واحد مثل شكسبير (المؤلف المسرحي) ولكنك لن تجد رأيين يتفقان، ولن تعثر على كاتبين قد سلكا مسلكا وأحدا في بحثهما، ثم أرجو أن تسأل نفسك هذا السؤال: (ما بال أولئك النقاد يصلون لياليهم بأنهارهم صامدين للبحث صابرين على الشدائد في هذه البحوث الطويلة المستفيضة؟ ستقول انهم يريدون أن يحلوا الغاز شكسبير ويشرحوه حتى يعرف الناس من هو شكسبير. ستقول انهم يريدون أن يحللوا مسرحيات شكسبير ويطبقوها على الحياة الواقعية التي نحياها كل يوم. يريدون أن يبرزوا مواهب شكسبير الفنية ودقة فهمه للطبيعة الإنسانية وما فيها من شتى العواطف والأهواء من حب وبغض وحقد وغيرة وحيرة ويأس وأمل وخيبة وخيانة وغدر. انهم يريدون أن يكشفوا عن اثر الطبيعة في فن شكسبير واثر الحياة الطبيعة في شعره.
انهم يريدون هذا وغير هذا، ولكن هل وفقوا إلى شيء من هذا الجواب. لا. لم يوفقوا إلى إزاحة الستار عن سر تلك العبقرية الشاذة وعن ذلك الفن الخالد. لقد كتب كثيرون عن مآسي كتب برادلي كتابه (المأساة عند شكسبير) وهو احسن ما كتب في هذا النوع: حلل في أبطال مآسيه الكبرى عطيل وهاملت والملك لير وماكبث. وكتب كثيرون غير برادلي عن فن شكسبير الدرامي أو التمثيلي. ولكن هل استطاع كاتب من مئات الكتاب ان يكشف الستار عن سر هذه العبقرية وجلالها؟ هل افلح كاتب من مئات الكتاب أن يقدم لنا صورة واضحة لنفسية هاملت الحائر وطبيعته العميقة وفلسفته الغامضة؟ هل استطاع كاتب أن يحدد لنا غرض شكسبير من مأساته الخالدة (الملك لير) وهل استطاع علم وظائف الأعضاء وعلم النفس الحديث أن يفسرا ظواهر الجنون في الملك لير وهاملت، وغرائز الغدر والخيانة في (ياجو)، والشعور بالغيرة في عطيل، ومطامع الإنسان في ماكبث؟ بل هل استطاع كاتب أو وصاف بارع أن يصف لنا شكسبير شاعر الطبيعة الفذ في كوميدياته: (كما تحبها). (وحلم ليلة في منتصف الصيف)، (والعاصفة) لا. لا. لقد اجهد مئات الكتاب أفكارهم في شرح رجل وأحد وفي تفهم نفسية فرد فلم يفلحوا. بل تشعبت بهم البحوث وتباعدت آراؤهم وتضاربت.
فعلام كان كل هذا الإجهاد والنصب؟ وعلام كان كل الاهتمام؟ لم يأت هذا الإجهاد بثمرة، ولم تكن لاهتمامهم نتيجة، فقد فشلوا جميعا وعجزوا عن تفهم روح الشاعر نفسه، عجزوا عن أدراك سر عبقريته.
فيا ليت شكسبير الذي أبدع كل هذا المسرحيات وجاء بهذه المعجزات الفنية في الشعر أراح أولئك النقاد وأراحنا نحن القراء، فكتب موجزا صغيرا لمآسيه وكوميدياته يشرح فيه فكرته وأغراضه، ولكن شكسبير معجزة الدهر قد أبى أن يقف الناس على أسرار فنه، ومن يدري؟ ربما لم يعرف هو نفسه من أمر فنه شيئا فمات وبقى لغزا لن يحل. فإذا القينا نفس السؤال (هل استفاد فن شكسبير من هؤلاء النقاد الذين يعدون بالمئات؟ كان الجواب بالنفي طبعاً، لأن شكسبير لم يعض حتى يرى هؤلاء النقاد، واغلب الظن انه لم يعن بأمر هؤلاء النقاد ولم يأبه بمعاصريه الذين تناولوا مؤلفاته بالنقد سواء المعجبون المشجعون أو الناقمون الحاقدون. فان شكسبير لم يكتب ليعجب النقاد أو يسخطهم، بل اغلب الظن انه لم يفكر في إغضابهم أو إعجابهم، وهذا شأن الفنان الحر الطليق لا يفكر إلا في نفسه وفي نفه ولا يأبه إلا لرأيه ولا يخلص إلا لفنه.
ولكني مع ذلك لا أنكر إن هذه المئات من الكتب التي كتبت عن شكسبير قد أعانت وستعين كل دارس لشكسبير؛ ستعينه بقدر ما وصل إليه هذا الكاتب من تفهم لروح شكسبير ووقوف على أسرار عظمته الفنية. أقول أعانت القارئ وستعينه، ولكنها لن تقفه على مواطن الإعجاز في شكسبير الأصيل، فلن يعرف قارئ هذه الكتب موطن الإعجاب بهاملت والغرض الأساسي الذي كتبت من اجله، وسيظل البطل هاملت حيرة الألباب والعقول ما بقى في العالم إنسان مفكر.
فإذا كان هذا أمر النقاد والشراح من الفنانين العظام، ففيم إذن تنحصر مهتمهم؟ هل لهم رسالة يؤدونها كالكتاب؟ في رأيي أن الناقد عالة على الكاتب، أرى أن الناقد شخصية ثانوية تعيش على غيرها؛ فلولا الكاتب لما وجد الناقد، ولولا الخلق والابتكار والإنتاج لما وجد النقد ولما سمعنا صياح النقاد الذي يصم الآذان. فلولا شخص وأحد كشكسبير لما وجد مئات النقاد الذين وان كانوا قد أرشدونا إلى بعض مواطن الحسن والإعجاز في فن شكسبير، إلا أني أرى أن هذه المهمة وإن كانت عظيمة الفائدة في ذاتها، اقل من أن تكون مهمة مئات من الرجل قد استمدوا حياتهم الفنية ووجودهم الأدبي من عبقرية فرد وأحد هو شكسبير.
نظمي خليل
بكالوريوس آداب