مجلة الرسالة/العدد 567/ردود وحدود
مجلة الرسالة/العدد 567/ردود وحدود
للأستاذ عباس محمود العقاد
تناول الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك موضوع الفردية والاجتماعية في مقال آخر بمجلة الثقافة فانتهى منه إلى قوله:
(. . . ومجال القول في هذا الموضوع فسيح، ولفظ الفردية والاجتماعية يطلق على معان كثيرة ينشأ بسببها الخلاف بين الكتاب الأفرنج والعرب على السواء. فالفردية التي عنيتها في مقالي السابق هي الأنانية أو الأثرة، والاجتماعية هي الغيرية والإيثار. ولا شك أن الأستاذين معي بعد هذا التحديد في أن الرقي الأخلاقي والاجتماعي سائر نحو الاجتماعية لا الفردية. فمن أسباب رقي الغربيين على الشرقيين وعيهم الاجتماعي أو بعبارة أخرى شعورهم بوطنهم وأمتهم بجانب شعورهم بشخصهم. ومن هذا الوعي نظمت الجمعيات والنقابات، وبذلت الدماء في الحروب دفاعاً عن الوطن. . .)
ثم استطرد قائلاً: (على أن الفردية قد تطلق أيضاً على نوع النظام الحكومي الذي يتمتع به الفرد بحريته وملكيته وتجارته وما إلى ذلك من غير أن تتدخل الحكومة في شأنه إلا عند الضرورة القصوى، وضده الاجتماعية أو الاشتراكية، وفي هذا المعنى أيضاً أخالف الأستاذين، وأزعم أن العالم سائر إلى الاشتراكية على نحو ما، ومصداق ذلك أن أعظم الأمم الفردية كإنجلترا أو أمريكا تصطبغ نظمها من حين لآخر بما يقربها من الاشتراكية، فتتدخل في تنظيم الاقتصاد وتأخذ من الغني لتعطي الفقير)
وأحسب أننا متفقون بعد هذا في أكثر مراحل الطريق: فنحن نعيب أدب الأنانية المحدودة كما يعيبه الأستاذ، وهو على ما نرى يوافقنا على أن الأدب المحض مطلوب غير معيب، وكل منا يقدر الفائدة الاجتماعية ويحب أن يكون للأديب سهم كبير فيها
وإنما الخلاف على ما يظهر في تقدير الدرجات
فنحن نعطي الدرجة الكبرى للأدب المحض ونقول إنه يخدم المجتمع ولا يستغني المجتمع عنه بحال من الأحوال، لأن التعبير عن خوالج النفس علامة صحية يدل وجودها على سلامة البنية الاجتماعية، كما يدل فقدها على نقص أو عطب في تلك البنية. وليس على الأديب حرج أن يكتفي بالأدب المحض الذي يقترن بتلك السلامة؛ لأنه إذا أهمله لم يقم به أحد غيره. أما البحث في شئون المعيشة ومسائل الأسعار والموارد والأجور فهو بحث يحسنه الاقتصادي والسياسي وكاتب الصحف الخاصة إذا قصر فيه الأدباء
ولكن الأستاذ أحمد أمين يعطي الدرجة الكبرى للأدب الذي يبحث في تلك الشئون، ويرى أن تاريخ الإنسان يتقدم من الفردية إلى الحاسة الاجتماعية أو الوعي الاجتماعي الموكل بمسائل المعيشة وما إليها، ويستدل على ذلك بأمم الغرب واصطباغ النظم الإنجليزية والأمريكية بصبغة تقربها من الاشتراكية وفي هذا نحن مختلفون
لأننا نرى أن العبرة التي خرجنا بها من الحرب بين الأمم المتحاربة هي عبرة (الحرية الفردية) في مقاومة الدعوة العنصرية التي يمحى فيها الأفراد
فقد تبين حتى الساعة من مجرى الحرب العالمية أن أقوى الأمم دفاعاً عن نفسها هي الأمم التي تبلغ فيها الحرية الفردية مداها، أو هي الأمم التي تعترف للفرد بحقوقه في جانب حقوق الدولة فالأمم العنصرية - وهي النازية والفاشية - قد استعدت كل الاستعداد للحرب فلم تبلغ من غايتها بعض ما بلغته الأمم الديمقراطية على قلة استعدادها في بداية أمرها. وهذا مع نكران الفرد الشديد في الأمم العنصرية، ومطالبتهم كل فرد في الدولة بالفناء في مشيئة الأمة كما يمثلها حكامها المطلقون
فالصراع القائم اليوم هو أصدق امتحان للفردية في مكافحتها للعنصرية العمياء التي تمحو حقوق الأفراد
أما أن الأمم الديمقراطية (تصبغ نظمها اليوم بصبغة تقربها من الاشتراكية وتأخذ من الغني لتعطي الفقير) فهذا في اعتقادنا أكبر تسليم للفردية من قبل العنصرية، وأكبر انتصار لحقوق الفرد إلى جانب حقوق الدولة
فمعنى هذا كله أن الفرد يجب أن يعرف جزاءه على خدمة وطنه، وأن نسيان حقوق الفرد في إبان الصراع القومي أمر غير عادل وغير مشكور، إذ الوطن الحقيق بالدفاع عنه هو الوطن الذي ينصف فيه الأفراد من جميع الطبقات ولا يظلمون
ونقابل بين هذا وبين (السخرة الوطنية) في الحروب الماضية فنرى جلياً أن (الحقوق الفردية) هي التي انتصرت في الحرب الحاضرة إلى جانب الحقوق الدولية، وأن تاريخ الإنسان متجه لا مراء إلى تعظيم حرية الفرد وحقوق الفرد وترجيح المجتمع على المجتمع بمقدار ما يتفاضلان في تلك الحرية وتلك الحقوق
وتقرير هذه الحقيقة مهم فيما نرى لمصلحة الدعوة التي يدعو إليها الأستاذ أحمد أمين. إذ نحن خلقاء أن نعرف الآن هل نحن محتاجون إلى مطالبة الدولة برعاية حق الفرد أو محتاجون إلى مطالبة الفرد بحق الدولة؟ وهل التقصير الآن آت من الفرد في رعاية الحقوق القومية أو من الأمم في رعاية الحقوق الفردية؟
ويبدو لنا أن الأستاذ أحمد أمين يطالب الأمم برعاية حقوق الأفراد، فهو إذن أقرب إلينا أو نحن إذن متقاربون
وسبيلنا إذن أن نعظم إحساس الفرد بحريته وحقوقه وديونه على المجتمع حين يطالب بديونه عليه
ولا خسارة في هذا على الأمم ولا على الأفراد
ولعلم الكلام نصيبه في مناقشاتنا اليوم مع نصيب علم الاجتماع أو فلسفة الآداب والفنون
فقد كتب إلينا الأديب الدمياطي الأستاذ طاهر أبو فاشا يعقب على ما نقلناه عن المعري في بعض فصولنا الحديثة إذ نقول: (ونستبعد التخيل الذي ينتظر المذياع ورسائل البرق وركائب الهواء ونكاد نجزم أن أبا العلاء لم يذكر السماع من بعيد والانتقال في لمح البصر وسريان النار مئات الفراسخ إلا ليقول إنها مستحيل من المستحيلات الكثيرة التي تتعلق بها قدرة الله كما يتعلق بها وضع الجسمين في مكان واحد، وهو أبعد الإحالات في أقوال الفلاسفة ومنهم أبو العلاء الذي لا يخلو أسلوبه من الأغراب والتبسط حين يتحدث إلى غير الفلاسفة من الفقهاء)
وقرأنا في مجلة (دمياط) تعقيباً يشبه تعقيب الأديب الدمياطي جاء فيه: (إن قدرة الله يستحيل أن تتعلق بالمستحيل - إلا العادي طبعاً - لأنها إن تعلقت به فإما أن تتعلق به لتوجده أو لتعدمه. فإن كان الأول فهو يستحيل لأنه لو وجد المستحيل لما كان مستحيلاً، ولا نقلب واجباً أو جائزاً كما يقول إخواننا علماء الكلام، وإن كان الثاني فهو مستحيل أيضاً لأنه معدوم بنفسه ولزم تحصيل الحاصل كما يقول المتكلمون)
وتعقيبنا على هذا التعقيب أن مراجعة كلامنا مرة أخرى تغني عنه، لأننا (أولاً) لم نكن نتكلم عن رأينا بل عن رأي العرب في رسالة بعينها و (ثانياً) لم ننس أن الفلاسفة - ومنهم أبو العلاء - يقولون إن وضع الجسمين في مكان واحد أبعد الإحالات و (ثالثاً) حرصنا بأن المعري يكتب بأسلوب الأغراب والتبسط حين يتحدث إلى الفقهاء. أي إنه يعني غير ما يقول، وأن رأيه الصحيح غير رأيه في هذه الرسالة بعينها.
ومذهبنا نحن بعد أن (إمكان ما لا يمكن) شئ لا يقبله عقل الإنسان
ولكن الإنسان قد يحكم باستحالة أمر وهو مخطئ في حكمه لبطلان الأسباب التي يبني عليها الاستحالة
ومثال ذلك من كان يؤمن بأن الأرض مسطحة تحدها آفاق السماء، فإنك لو قلت له: هل يمكن أن يذهب الإنسان غرباً ويعود شرقاً لقال لك على اليقين إنه مستحيل وليس في الإمكان
ولكنه مخطئ في فهم الاستحالة، لأن الأرض ليست مسطحة محدودة بآفاق مطبقة عليها. بل هي كرة مستديرة تذهب إلى مغربها فتعود من مشرقها، كما يحدث هذا كل آونة في هذه الأيام
وكذلك وضع الجسمين في مكان. فإن استحالته قائمة على أن الفضاء ثلاثة أبعاد، فإذا ثبت أن الفضاء أربعة أبعاد أو خمسة أو ستة تحيط بالأجسام من غير جوانبها المحسوسة، أو إذا ثبت قول أينشتين إن الزمان بعدٌ رابع يحيط بالأجسام في التقاءات كثيرة، فهنالك يتغير النظر إلى استحالة وضع الجسمين في مكان واحد، ويصح أن (يكون فيها قولان) على لسان الجادين لا على لسان الهازلين في فض المشكلات!
وللنحو نصيبه كذلك مع نصيب علم الكلام أو علم الاجتماع وفلسفة الآداب والفنون
فقد ظهر من العراق خازن آخر من أولئك الخزنة الواهمين الذين يحسبون أنهم قابضون على مفاتيح اللغة جميعاً ليفتحوا ويغلقوا ويصرفوا ويمنعوا ويقولوا بما يجوز وما لا يجوز وما يقال وما لا يقال، وليس لهم من محصول اللغة ما ينغلق عليه قفل واحد!
فهذا الخازن الواهم يقول في خلط كثير (إن المقابلة بين الكفتين) لا يجوز، ومثل هذا لا يرد عليه. وكفى
ويقول وهو يرد علينا: (احتج أولاً بالمراوحة أو الروح لا من الرواح ثم وثب إلى التراوح. وفي كليهما كان مسقطاً في القول واهماً، وهذه عاقبة من يخطئ الصواب ويريد الخلاص من الإفراد بالخطأ، فالمراوحة عمل فاعل واحد والترواح عمل فاعلين أو أكثر منهما. فالاختلاف واحد لا يتراوح وحده، وكذلك لا يقال هذا الشيء لا يتساوى ولا يتماثل ولا يتشابه) إلى آخر هذا اللغط العجيب
وجوابنا على (لا يقال) هذه بسيط جداً، وهو بل يقال ويقال ويقال، ولا يقال غيره في هذا المعنى، وإليه المثال
فيقال مثلاً: (لا يتساوى القمر في ليلتين وقد تتساوى الشمس في برجين)
ويقال مثلاً: (لا يتشابه الرجل في عمرين، وقد يتشابه العمر في رجلين)
ويقال على هذا المثال: (لا يتماثل المرض في الإنسان والحيوان، وقد يتماثل في الإنسان)
ويقال أيضاً: (لا يتراوح الاختلاف بين عصرين، ولكنه قد يتراوح بين يومين أو سنتين)
ويقال تقاضيا وتقاضاه، وتجاوبا وتجاوب الصدى أو تجاوب المكان بالأصوات، وتراميا وترامى السحاب، وتدانيا وتدانى منه، وغير ذلك كثير مما فيه قصد المفاعلة وليس فيه قصد التعاقب والترقي
وليعلم ذلك الخازن الواهم بعد هذا أن الاختلاف مفرد ولكنه يدل على جميع المختلفين، فإذا قلنا تراوح الاختلاف فهو القياس كما يقول تراوح المختلفون وتقاتل الناس وتباينت الأمم وتعانق الأصحاب، ولا نهاية لما يقال من هذا القبيل
أفيقال هذا إذن أو لا يقال يأيها الجواد، بلغة العامة لا بلغة الضاد؟ يقال ويقال، وإن استطعت فقل خيراً منه في معناه، وما أنت بمستطيع.
عباس محمود العقاد