انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 565/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 565/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1944



الشعر القديم بين الفطرة والفن الجميل

(كتاب من الأستاذ خليل بك مطران إلى الدكتور محمد صبري بمناسبة ظهور كتابه (الشوامخ))

حضرة الصديق الكريم. . .

الداء الذي ساورني في هذه الأيام عاقني عن أداء واجب الشكر لما أتحفتني به من التحفة الغالية، أعني بها النسخة من كتابك (الشوامخ)

وما زلت إلى هذا اليوم غير قادر على بذل مجهود فكري يعتد به. غير أنني بوجه إجمالي موجز أرى أن الشعر كلما اتصل بالفطرة كان من الفن الأصيل، وكلما بعد عنها أفضى إلى التعمل، وهو فن آخر، أي فن الصناعة. وشتان بين الأصل والنقل وبين الإبداء والمحاكاة

ألم تر إلى شعر هوميروس كيف بقى عند الفرنجة بمنزلة الينبوع الصافي الذي استقى منه جميع أدبائهم على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم وأهوائهم ونزعاتهم

ولقد تكلف الفرنجة ما تكلفوا ليفهموا هوميروس وليقتبسوا من لغته القديمة المجهولة ما اقتبسوا، ونحن لم نتكلف ولا تنكلف شيئاً لنفهم امرأ القيس وإضرابه من أيام الجاهلية، فيغيبون عنا فنحكم عليهم لا لهم

ولولا أنك جئت تفهمنا معاني امرئ القيس، ولولا الدكتور طه حسين بك وما جهد ليشرح آيات الشعر الجاهلي الصادق النسب، ولولا آخر كتاب للأستاذ عباس محمود العقاد في (جميل بثينة) لبقيت كنوز الشعر الجاهلي بعيدة عنا أصلاً كريماً جديراً بأن نعنى به

بعد كتابة ما تقدم على علاته أوجه إليك بعض أبيات جرت على قلمي وهي:

بعد ألف وبعد بضع مئات ... أُنصفت عبقرية الضلَّيل

نُضيء السِتر عن جلال امرئ ال ... قيس بسفر من البيان جليل

رد صبري ألواحه فتجلت ... من خفاءٍ آيات فن جميل

وإذا الحسن ندّ عنه حديث ... طُلب الحسن في العتيق الأصيل

آفة الفن جهله، كيف والأ ... علام تُطوى ما بين جيل فجيل

إنما الرأي ما أبنت وهل أب ... لغ مما أقمته من خليل مطران

في الفصول والغايات وفي اللزوميات

لأبي العلاء في (الفصول والغايات) وفي (اللزوميات) رميات - من رام - علميات مقرطسات. منها ما ذكرته في كلمتي (المخترعات وكتاب الفصول والغايات) في (الرسالة الغراء) 250 ص 655 س6 وأعاده مفرقاً الأستاذ كامل كيلاني في مقالته (على هامش العيد الألفي لأبي العلاء) في الرسالة 560 ص 263 س 12

ومن رمياته أو آياته قوله في تلك العبقرية النثرية:

(أحج وأحر أن تعود لجة البحر كساحة اليد لا ماء بها ولا حال إذا قضى ذلك خالق البحار)

ومنها قوله في (اللزوميات) عبقريته الشعرية:

يجوز أن تُطفأ الشمس التي وقدت ... من عهد عاد وأذكى نارها الملك

فإن خبت في طَوال الدهر جمرتها ... فلا محالة من أن يُنقض الفلك

قلت: لا حياة يومئذ لأحياء في هذه الكرة الأرضية ولا في تابعة للشمس من أخوات دارنا هذه وإن لم ينقض الفلك. والذي جوزه أبو العلاء فإنه سوف يكون (إنا لله وإنا إليه راجعون)!

والشمس ذات الضياء والوهيج واللهب وحياة هذه الأرض هي كما قال الشيخ في (اللزوميات):

والشمس تغمر أهل الأرض مصلحة ... رّبت جسوماً، وفيها للعيون سنا

طهت لك الشمس ما يفني أخادعة ... عن أن يكون له في الأرض طاهونا

وقد ذكرني مقال أبي العلاء في البحر والشمس بقول للضعيف كاتب هذه الأسطر في تضاعيف كلام، أرويه في هذا المقام:

. . . وإن من يتلو كتب الأستاذ الأكبر (أرنست هيكل) يدهش ويستعظم روايته وتبحره في العلوم والفنون. وعلمه (لله هو) علم إحاطة. وإنه ينس قطين الأرض أكابر العلماء بعد أحقاب. فأمثال ذلك (الأستاذ) في نعيم الذكر خالدون ماكر الفتيان، وما دام في البحر ماء، وفي الشمس ذكاء. لأنه إن رسخت أمواه البحر، وسوف ترسخ، وهمدت نيران الشمس، ولابد أن تهمد، هلك الناس، ففقدت الأرض ذلك الفكر المدرك المضيء في ظلمات لياليها، وهو (لعمرابيك) خير ما فيها، لا بل هو كل ما فيها كما يقول العلامة (بوانكاريه). وإنه ليعزى الحكماء (يا فتى) أن الأجل بعيد جد بعيد، وأن حياة تستمر في غير الكرة الأرضية في سيارة من هذه السابحات في الفلك. ولكل قطين سيارة أجل، والدنيا دول.

الفلاحون

قرأنا في عدد 17 أبريل من مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان كلمة نقد جد مقتضبة وجهها الأديب (د. خ) إلى كتاب (الفلاحون) الذي ألفه حضرة الأب المحترم الدكتور هنري عيروط ونقلناه ونحن أخيراً إلى العربية. وقد رمى هذا الناقد مؤلف الكتاب بأنه يجور أحياناً ووصف الترجمة بأنها ركيكة وأن أسلوبها يميل إلى العامية ويجافي العربية السليمة، بله العربية الفصحى

فأما عن المؤلف فقد كنا نحب أن ينبئنا كاتب الكلمة بمواضع جوره وعلى من وقع هذا الجور، أعلى الفلاح وقد بذل قصارى جهده في الدفاع عنه؟ أم على بقية الطبقات الأخرى التي تشقى الفلاح أو لا تنقذه من شقائه وهو في الحقيقة لم يوفها ما تستحقه من لوم وتعنيف؟

على أنه قد قرظ هذا الكتاب أربعة وثمانون من أفاضل العلماء والكتاب في أربع وثمانين مجلة وصحيفة محترمة في أوروبا وأمريكا والشرق فلم يلاحظ عليه أي واحد منهم أنه كان جائراً على أحد. ولسنا في هذا نغالي أو نلقى الكلام على عواهنه، بل لدينا جميع هذه المقالات، وهي تحت تصرف من يريد الاطلاع عليها

وأما عن الترجمة والتجائنا فيها أحياناً إلى استعمال بعض الكلمات العامية مما قد يبدو أمام بعض القراء أنه انعطاف نحو الأسلوب العامي أو مجافاة للغة السليمة، بله الفصحى كما يعبر حضرة الكاتب، فهذا مسلك فرضته علينا طبيعة الموضوع الذي عالجه كتاب (الفلاحون) على نحو ما كان موليير يفعل في مسرحياته إذا روى أحاديث الخدم والعوام. وليعلم حضرة الكاتب أن هذه الطريقة كانت إحدى دعائم مجد ذلك الشاعر الفرنسي العظيم كما أنه ينبغي أن يعلم أيضاً أن ذلك الأسلوب الذي صغنا فيه ترجمة ذلك السفر هو ما يدعى بروح الانسجام أو مطابقة مقتضى الحال ومن آيات صحة هذه الدعوى أننا لم نسلك هذا النهج في أي كتاب من كتبنا الأخرى، لأن موضوعاتها لا تمت إلى العامة بأية صلة

نحن إذاً، قد استعملنا الجلبية واللبدة والطاقية والملاية والبلغة وما شاكل ذلك عامدين ونزلنا إلى مستوى الفلاح وجارينا أسلوبه قاصدين. ولهذا لم تكن تلك العبارات أخطاء لغوية ولا مجافاة للغة السليمة كما خيل إلى الكاتب

على أننا نعود فنصرح بأن إطلاقنا على تلك السطور لفظة نقد فيه شيء يسير من التجوز، لأن النقد يجب أن يكون مدعماً بالبراهين والحجج. أما أن يسمع حضرة الكاتب أن المؤلفين الذين يكتبون باللغات الأجنبية عن مصر أو عن الشرق يجورون في كتاباتهم فيرمي مؤلف كتاب (الفلاحون) بأنه جائر، وإما أن يقرأ الولولة التي ترجمناها بالعامية قصداً في آخر ذلك السفر، ويلمح بعض العبارات التي تعمدنا أن تكون كذلك فيحكم بأن الأسلوب متجاف عن العربية السليمة، فهذا نسق لا يسير بالنقد إلى الأمام ولا ينتج في الحركة الأدبية خيراً يرجى.

محمد غلاب

أدب ثالث

إن صح أن في مصر أدباً للشيوخ الذين رسخت مكانتهم في النفوس واستفاضت شهرتهم في الآفاق حتى جثموا كالقشاعم في القنن الشواهق، وأن فيها أدباً للشباب وقد هبوا إلى مجاني الأدب ومغانيه كالفراش على الأزاهير حالمين ببعد الصيت مرفرفين على الأغصان كالعصافير - فإني لأرى بين هؤلاء وأولئك أدباً طريفاً قد توسط فلم يشب فوداه كالشيوخ، ولا لأن عوده كالشباب، وعند هذا الضرب من الأدب ينبغي أن تتألق نهضة وتقوم للفن مدرسة بعيدة عن الشطط وسليمة من الغلط لأنها من خير الأمور

والأستاذ عبد الرحمن صدقي يمثل اليوم هذا الأدب المستحب. عرفت قلمه من عهد بعيد، يجول بلا صخب وينساب بغير تحبس. لقد استهواه أدب الغرب فثافن إلى صحفه وأسفاره ونهل من موارده العذاب، ثم أخذ يمتاح منها طرفاً جلاها في معارض عربية، لم يتكلف في ترجمتها أسلوباً ولا تصنع لفظاً، بل انطلق فيها على نسق من السهولة والسلاسة فاستطاع بما أوتى من تضلع في اللغتين العربية والفرنسية أن يعرب عن الدقائق فيهما. قرب (أزهار الشر) إلى شميم العرب وقد استعصى بودلير على أبناء جلدته فكيف حاله عند أهل الضاد؟ لقد جاءهم الأستاذ عبد الرحمن بمآخذ شاعر الرمز في فرنسة، لكنه نعته بالرجيم وحق له هذا؛ فهو شاعر بالزهر وراجم بالشوك. عقد معانيه وضيق مبانيه، حتى خرج على المألوف، وكانت أشعاره كجوز الهند لا يوصل إلى ذوب مائه وحلاوة طعمه إلا بعد كسر قشره. وبعد أزهار الشر طلع الأستاذ صدقي على قرائه بألوان من الحب ترجم فيها إحدى عشرة أقصوصة لأعلام هذا الفن في الغرب مما يستهوى خيالنا الشرقي ولا تنبو عنه أذواقنا. وقد كشف فيها عن اختلاف المزاج والخصائص بين قوم وآخرين؛ فكانت ترجمته المختارة ناهضة على بصيرة نفاذة إلى ما وراء السطور في هذه التلاوين التي أعرب عنها

لقد وسم الأستاذ صدقي كتابه الجديد من اسم الأقصوصة الأولى. ولا جرم أنها على إيجازها تبين فن بلاسكو إيبانيز الذي يطبيه زهو الشباب وأناقة الجمال، ويبدو اللون الأول من الحب في نفس أوديت التي روعت وفجعت حين رد إليها زوجها من ساحة الوغى مبتور اليدين والرجلين مفقود العين، وكأنه شق أنمار الذي حدثتنا عنه أساطير الجاهلية، فتولى عنه جزعة فزعة ويشركها بهذه النفرة الكلب الذي وصفه الفلاسفة والشعراء بالمحبة وصدق المودة، وينكشف في أعقاب هذه الأقصوصة لون آخر يثمل أشرف ألوان الحب وأبقاها، ذلك هو حب الأم التي جنت على ابنها الجريح فضمته بروحها وواسته بعينها أما قصة (الصمت) فكأن زينون الإيليائي فيلسوف الحركة والسكون أفرغ عليها من روح سكونه صمتاً رهيباً سادراً في عمقه، وقد نجم هذا الصمت من بنت كاتمت أباها القسيس وأمها سراً في نفسها حتى انتحرت فمات معها هذا السر، ولم يحاول القصصي أندرييف الروسي اكتناه السر وإنما تركه لحيرة القارئ الذي يشفق على ذلك الكاهن الشيخ وقد فتحت له على كرسي الاعتراف مغالق النفوس ولكنه عجز عن استجلاء السر في نفس بنته حتى زار قبرها في ليلة ساجية وأخذ يناديها: - فيروتشكا. بوحي بسرك. . .

فسمع الكاهن صوتاً رهيباً بغير كلام هو صوت الصمت العميق الذي بقى يعلو مرهفاً مستدقاً، حتى ملأ سمعه وكانت أقصوصة بلقيس خاتمة المطاف في هذه الألوان جعلها كاتبها فاتحة قصصية تبشر بموهبة كانت كمينة في أدبه

أما وقد أفلحت تجربة الأستاذ صدقي في فن القصة، فإن موهبته لتريده على أن تظهر وتظفر في هذا الفن عندنا فينتزع أقاصيصه من الحياة المصرية وليس ببعيد أن يكون مطلع القاص الجديد في سماء القصص بين النجوم اللوامع

(القاهرة)

داود سكاكيني

قيس ولبنى

أصدرت الغرفة المصرية هذه الطرفة الأدبية الشعرية النادرة للأستاذ عزيز أباظة بك في طبع أنيق وخصصت المتحصل من ثمنها (للمشروعات الخيرية) وقد تفضل الأستاذ عزيز أباظة بك فأهدى إلينا نسخة من مسرحيته البارعة التي هيأت لنا ساعات من القراءة كانت متعة لأرواحنا لا تعد لها متعة. . . حقاً لقد كسب الأدب العربي شيئاً عظيما. . . ونحن نكتفي الآن بتهنئة الشاعر الكريم على أن تكون لنا عودة.

(د)