انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 559/بين التخطئة والتصويب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 559/بين التخطئة والتصويب

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1944


للأستاذ عباس محمود العقاد

نبهني فاضل من علماء الأدب والتاريخ عندنا إلى كلمة (الأموية) نسبة إلى الأم في كتاب (الصديقة بنت الصديق) وقال لي إن النسبة إلى أم (أمي) على حسب القياس، فهل عدلت عنها لعلة؟

وكان تنبيهه هذا تنبيه العالم الذي لا يقطع بالقول قبل أن يسمع مختلف الأقوال، فكان منبهاً ومصححاً ومستفهماً في انتظار البيان والجواب في وقت واحد.

والواقع أن (الأمي) نسبة إلى (الأم) هي القياس الشائع الذي لا خلاف فيه، ولكن الأموي ليست بخطأ ولا هي بخلاف يأتي به مجرد الإغراب وفضول القول، لأن الحاجة ماسة إلى التفرقة بين معنى الأمي الذي شاع على الألسنة والأقلام للدلالة على الجاهل بالقراءة والكتابة، ومعنى الأمي الذي يدل على عواطف الأمومة والنسبة إلى أحد الأبوين

ولا خطأ في ذلك من جانب اللغة والقواعد النحوية، لأن (الأم) أصلها أمه وأمهة، وليس هذا الأصل مأخوذاً من تقديرات النحاة والصرفيين التي لا دليل عليها من المتواتر المنقول، ولكنه مأخوذ من اللغة المستعملة في الخطاب والشعر من كلام المذكورين قبيل الإسلام، ومن ذلك قول قصي ابن كلاب بن مرة جد النبي عليه السلام:

إني لدى الحرب رخي اللّبب ... معتزم الصولة عالي النسب

أمّهتي خندف والياس أبي

فإذا قلبت الهاء واواً كما تقلب في سنه وسنوى وشفه وشفوى وعضه وعضوي، فليس في ذلك خلاف للمأثور ولا للمنصوص عليه، وفيه تيسير للتفرقة بين المعنى المقصود بالأمي والمعنى المقصود بالأموي على الاعتبار الذي قدمناه

يذكرني مجال التخطئة والتصويب في اللغة بقول بعض الحكماء: (إن قليلاً من البحث يؤدي إلى الإلحاد، ولكن الكثير من البحث يرد الملحد إلى الله)

فهذا الكلام بعينه يمكن أن يقال عن التخطئة في اللغة والأخلاق والتفكير وعن كل تخطئة تحتمل الوجوه المتعددة من الآراء، لأن التخطئة سهلة ولكن الدلالة على مراجع الصواب هي التي تشق على الأكثرين، وكذلك يسهل إيجاد الذنب على من شاء ولا يسهل إيجاد العذر إلا على من خبر الدنيا وسبر الأخلاق وعرف طاقة النفوس وأغوار الطبائع والأخلاق

هذه حقيقة لا يحتاج العالم إلى التذكير بها لأنه يذكرها أبداً ولا يزال شعاره بين شبهات الخطأ والصواب: (وفوق كل ذي علم عليم)

ولكن الذين يحتاجون إلى التذكير بها هم أولئك الأدعياء الذين يقحمون أنفسهم فيما ليس لهم، ويخوضون عباب التخطئة والتصويب وليس عندهم من الزاد إلا محصول الفهارس والعناوين وجزازات اللمامين والجماعين

ومن هؤلاء دعي المقتطف الذي يجترئ على التخطئة في لغة العرب، وهو يقرأ ما أمامه بهذه اللغة فلا يفهمه ولا يخلص منه إلى ظاهر معناه، فضلاً عن باطنه الذي تتجه فيه الأذهان كل اتجاه

فهذا الدعي ينكر أن نقول: (آداب العرب النسائية) لأنه قرأ أن سيبويه نبه على أن النسبة إلى نساء نسوي. . . ويفوته أن سيبويه يتحدث بمذهب البصريين وحده، كما يفوته أن يرجع إلى بنية الفظ وإلى قواعد اللغة، فإن حكم نساء هو حكم نسوة ونسوان بغير اختلاف أياً كان القول في نساء سواء أصح أنها للكثرة أم صح أنها جمع نسوة إذا كثرن، وكلاهما لا يغير الحكم النحوي أقل تغيير

فمن الخطأ (أولاً) أن يقال أن نساء لا تستعمل إلا للكثرة لان القرآن الكريم يقول: (يا نساء النبي) وهن تسع ولا نزاع في أن القرآن مرجع لغوي يؤخذ به قبل كل كتاب وقد جاء في شعر الربيع بن زياد:

من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه ... بالصبح قبل تبلج الأسحار

فالنساء بمعنى النسوة في الكثرة أو القلة، تحل إحدى الكلمتين محل الأخرى وتعطي حكمها بلا اختلاف

على إننا نفرض بعد هذا أن النساء لا تقال إلا للكثرة وهو فرض بعيد، فما دخل الكثرة في الحكم النحوي بالغاً ما بلغ الفرق بين عدد النساء القليلات أو النساء الكثيرات

بل نحن نذهب في الفرض وراء ذلك فنقول أن نسوة جمع امرأة من غير نوع الكلمة، وأن نساء هي جمع نسوة، فلماذا تمتنع النسبة إلى الجمع وهي جائزة في مثل هذا المعنى

ألا يقال الأنصاري والأعرابي إذا أنزل الجمع منزلة القبيلة الواحدة؟ ألا يقال النسائي إذا أنزل الجمع هنا منزلة الجنس الواحد، ولم يكن المقصود به نسوة محدودات؟

إنما أتى صاحبنا هنا من علم الفهارس الذي يتخطف أوائل الكلام ولا يتعداه إلى مواضع التوسع والإفاضة

وإذا كان الفهرس قد دله على تنبيه سيبويه ولم يدله على شئ آخر فالذنب على الفهرس المسكين لا عليه

كذلك قلنا في كتاب (الصديقة بيت الصديق) أن الاختلاف يتراوح بين السنة الرابعة والسنة السادسة، فرجع صاحبنا إلى الجزازات فوجد أن (الإمام اليازجي) يقول إن التراوح غير هذا ويتابعه على قوله بعض الباحثين الفضلاء

لكن المراوحة بين العملين في جميع معجمات اللغة هي (أن يعمل الرجل هذا مرة وهذا مرة)، أو يقول هذا مرة وهذا مرة، والمراوحة بين الرجلين هي أن يقوم على كلٍ مرة، وبين الجنبين هي أن يتقلب من جنب إلى جنب

فإذا قلنا على هذا أن الاختلاف يتراوح بين السنة الرابعة وبين السنة السادسة فذلك صحيح ما دام الاختلاف هنا هو الفاعل الذي يقول مرة بسنة من السنين ومرة بسنة أخرى، فهو يتراوح بين القولين تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك

ويكون صاحبنا إذن قد عرف الجزازات والفهارس ولم يفهم معنى اليازجي ولا معاني المفرقين بين المراوحة والترجح، لأن الترجح انتقال دائم، أما المراوحة فهي ثبوت في حالة من الحالات ثم ثبوت في حالة أخرى، وهذا هو المقصود بما ذكرناه

ولكن هذا الكلام إنما يفهم بدماغ، ومن أين للفهارس والجزازات دماغ؟

وأعجب من هذه التخطئة وما شابهها في اللغة تخطئة في الجمع والطرح يحسبها ذلك الدعي من علم الجامعات، وهي لا تعدو علوم المدارس الإلزامية وكتاتيب القرى، إذا كان قصاراها أن (14 + 2=16) كما أراد أن يقول بعد مجهود في الإحصاء والتعديد

فنحن حين عرضنا لسن السيدة عائشة رضى الله عنها عند بناء النبي بها لم نقل إننا حصرنا سنها بشهادة الميلاد، ولا كان يعنينا أن نحصرها بتلك الشهادة أو بغيرها وإنما عنانا أن نبطل قول القادحين في النبي أنه عليه السلام بنى ببنت صغيرة لا تصلح للزواج، وقد أبطلنا ذلك بالأدلة التي لا نكررها هنا لأننا في غنى عن هذا التكرير

فإذا جاز مثلاً أن تكون سنها ست عشرة سنة في أيام غزوة بني المصطلق ولم يكن ذلك قولاً قاطعاً لا تردد فيه فسبب ذلك أن عزوة بني المصطلق يتراوح القول فيها بين السنة الرابعة والسنة السادسة، ولا ضرورة لتكرير الشك في عدد السنين كلما عرضت لنا مناسبة لاختلاف التواريخ

إنما هذا هو علم الفهارس والجزازات الذي لا يعنينا ولا نلتفت إليه، ونحن لم يفتنا تحقيقه لأن جمع (2 + 14) عسير علينا أو على جامع أو طارح في أصغر المدارس الإلزامية، ولكننا تركناه للتقدير والترجيح إذ كان القطع فيه غير مستطاع، وإذ كان تكرير الاحتمالات كل مرة عبثاً لا يدعونا إليه داع

وبحسبنا أن نعلم أن عائشة خطبت قبل خطبتها للنبي، وأن الذي خطبت له كان المشركين - بحسبنا أن نعلم هذا لنعلم أنها خطبت قبل الدعوة الإسلامية وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينة، وهو البرهان الراجح على أنها حين خطبت لمحمد عليه السلام وبني بها بعد الخطبة بسنوات قد كانت في سن صالحة للزواج

تلك هي الحقيقة التاريخية التي تحتاج إلى بحث وتنقيب وموازنة للوقائع والتواريخ. أما (14 + 2=16) فهي كما أسلفنا من حقائق الكتاتيب الإلزامية لا من حقائق السوربون ولا من حقائق المدارس التي تجاوزت أوائل دروس الهجاء والحساب

على أن التخطئة في المنطق أصعب من التخطئة في اللغة والحساب، ولهذا كان فهم هذا الدعي وأمثاله لطريقتنا في الاستدلال فهماً يشوبه العي والغباء، كما يشوبه سوء الذوق وسوء التعبير

فنحن لم نقل إن الخطأ بعيد عن السيدة عائشة لأنها مؤمنة بالله ونبيه، فهذا دليل رخيص لا نتنزل إليه ولا ندين أحداً به ولو كان من المسلمين. وما قال أحد أن المؤمن معصوم من الخطأ وقد طال البحث بين أناس في عصمة الأنبياء

كلا. نحن لا نعتمد يوماً من الأيام على دليل يقبله المسلم ويرفضه غير المسلم، ولا على دليل يأخذه من يشاء ويرفضه من يشاء، ولو أجزنا ذلك لأنفسنا لأثبتنا آيات القرآن الكريم في تبرئة السيدة عائشة ووقفنا عندها مكتفين بها أو متوسعين في شرحها، ولكننا كما يعلم قراء كتابنا قد أشرنا إلى تلك الآيات حين أشارت إليها السيدة عائشة ولم نزد على الإشارة بقليل ولا كثير

إنما دليلنا على براءة السيدة عائشة أنها إن كانت قد أخطأت - وبرأها القرآن - استحال عليها أن تؤمن بالكتاب وأن تصدق بأنه وحي من عند الله، وأيسر شئ عليها إذن أن تخترع الأحاديث على النبي عند مسيس الحاجة إلى الاختراع، وأي حاجة إلى الاختراع أمس من لجاج الخصومة بينها وبين على أو بينها وبين عثمان، بل أي حاجة إلى الاختراع أمس من تشيعها لطلحة أو الزبير ورغبتها في تقديم المسلمين إياهما وهي قادرة على تعزيز ذلك بكلام تعزوه إلى زوجها العظيم ويصدقه الأصدقاء والخصوم!

فإيمانها بالقرآن وبالأحاديث النبوية وتقديسها لحرمة تلك الأحاديث هو الدليل القاطع على براءتها من التهمة التي افتريت عليها. إذ هي لو كانت قد أخطأت وبرأها القرآن لكان إيمانها بالقرآن والأحاديث من المستحيلات، واستحالة الإيمان هنا حقيقة مقررة يقبلها عقل المسلم، ويقبلها عقل المسيحي، ويقبلها عقل الملحد الذي لا يدين بدين

ومن ثم يخطئ الأستاذ المسلم - الشيخ محمد يوسف موسى - إذ يقول: (إنه استدلال أن صدقه من يرى لأم المؤمنين النزاهة والجلالة من أجل دينه فحسب فقد لا يصدق به من لم يكن كذلك)

لأن التصديق هنا قضية عقلية لا فكاك منها. . . هل يقوم الدليل القاطع عند عائشة على أن القرآن برأها من ذنب جاءت به ثم تظل على إيمانها بالقرآن؟

الجواب هنا من المسلمين وغير المسلمين: كلا. بل هو مستحيل، وهذا هو الذي قصدنا إليه

وعلى ذكر الأستاذ المسلم - الشيخ محمد يوسف موسى - نرى من الواجب أن نعقب على كلامه ببعض التعليق المفيد

فهو يقول في كلمته (إني لم أتشرف بعد بصداقة الأستاذين، ولكني أعرف لكل منها حقه من التقدير)

فإن فهم أحد من هذه الكلمة أن الشيخ محمد يوسف لا يعرفنا ولا علاقة له بنا فذلك فهم يحتاج إلى تصحيح وتصحيحه أن الشيخ قد عرفنا ولقينا وأهدى إلينا كتاباً في تاريخ الأخلاق وسألنا أن نكتب عنه وعاد إلى هذا الرجاء بوساطة من أصدقائنا، فاعتذرنا إليه آسفين لأن وقت القراءة عندنا محدود في هذه الأيام

ولا شك أن هذا التصحيح تعقيب مفيد على ما قال أو على ما يفهمه من كلامه بعض القارئين.

عباس محمود العقاد