انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 558/الجمعية الملكية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 558/الجمعية الملكية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1944



للأستاذ خليل السالم

لم تمتع جمعية علمية بحياة طويلة ثابتة المبدأ متصلة الكفاح باهرة النجاح كما تمتعت الجمعية الملكية في لندن، مع أنها ليست أقدم الجمعيات العلمية في العالم؛ فهي تعود في تاريخ تأسيسها إلى الحرب الأهلية، إذا اجتمع سنة 1645 نفر من رجال العلم الذين يفيضون غيرة وحماسة، ويأنفون أن تتخبط البلاد في المنازعات السياسية والعصبيات الدينية، وأرادوا أن يتوجهوا بالفكر إلى ميادين أسمي وأكثر جدوى، وجعلوا غرضهم المباشر فهم قضايا الفلسفة التجريبية التي ظهرت على مسرح فكرهم حديثاً. وقد عقد الاجتماع الأول في كلية جريشام في مدينة لندن. ونقل مكان الاجتماع إلى كلية وادهام من جامعة أكسفورد عندما انتسب جون ولكنز مدير هذه الجامعة إلى المؤسسة الناشئة، وكان من أوائل منشطيها ومشجعيها

وفي سنة 1662 أصدر الملك شارل الثاني مرسوماً بتأسيس الجمعية، واعتبارها هيئة تعاونية رسمية. ويصلح هذا التاريخ أن يكون بحق فجراً جديداً في تاريخ العلم، ومبدأ نهضة وهاجة السنا باهرة الإشراق. وكيفما كانت الصورة الماجنة المستهترة التي تقدمها كتب التاريخ عن مؤسس الجمعية الأول شارل الثاني، فلا ريب أنه كان يقدر العلم والعلماء، ويرى ببعيد نظره يمكن أن يدر تشجيع العلم على ثروة البلاد من المغانم الكبرى والربح الوفير. وكان سياسياً حاذقاً ومثقفاً واعياً عندما اكتسب لنفسه لقب مؤسس الجمعية الأول. وكان مدركا لروح العصر الجديد الذي تميز بهدم تعاليم أرسطو على يد نبي العلم (بيكون)، وبنبذ الخرافات والشعوذات، وبالانصراف عن العلم المنقول إلى الطريقة التجريبية والتحقيق العلمي

وكان هدف الجمعية كما ورد في مرسوم تأسيسها (تحسين المعرفة الطبيعية). وناضلت الجمعية في سنيها الأولى نضالاً عنيفاً قاسياً، فلم يمدها مؤسسها الأول بالمال الذي رصده لها، كما لم يتمكن أعضاؤها من دفع رسم الاشتراك، أو لم يرد بعضهم ذلك. إلا أنه لما تبوأ نيوتن كرسي الرياسة (1703 - 1727) تحسن دخل الجمعية، لأن العلم المنظم وصل مستوى عالياً من النجاح والتطبيق على يد العالم العبقري الفذ نيوتن الذي فرض احترامه واحترام نظرياته واكتشافاته على الوسط العلمي، واستفاد وشعروا بشرف الاشتراك معه في العمل والبحث. ولم تحظ الجمعية برئيس بعث الدم فيها وأحياء مواتها وجدد حياتها ورفع من قيمتها كنيوتن إلا في القرن الثامن عشر عندما تولى مقاليدها السر جوزيف بانكس ; فقد تحددت مرامي الجمعية في ذهنه واضحة صريحة، وانتهى إلى أن الفائدة المرجوة والثمرة المنشودة لن تدنو قطوفها إلا بحماية رسمية، فقبل في عضوية الجمعية أشخاصاً لم يكونوا علماء بكل ما في الكلمة من معنى. وبالرغم من اتهامه بالتفريط في حق العلم والعلماء والهجوم الشديد الذي وجهه إليه أعداؤه، فإنه استطاع أن يجعل من أولئك الأعضاء أصدقاء للعلم واستخدمهم لجمع المال الضروري للبحث العلمي. لم يتسن للحكومة أن تسيطر على الجمعية وتستغلها في مصالحها الخاصة، ولكن علاقات وثيقة ودية كانت تربط الجمعية بالسلطة. فاستعان بإرشاداتها ملوك وساسة ومديرو مصالح، وعرضت الجمعية خدمتها على الحكومة في كل مناسبة كانت مصلحة الوطن فيها تستدعي الجهد العلمي الرسمي. واعترافاً بمثل هذه الخدمات القيمة رصد البرلمان الإنجليزي سنة 1778 وما بعدها مخصصات باهظة لتضخيم ميزانية الجمعية.

ونتعب إن حاولنا تقصي المناسبات التي حلت فيها الجمعية مشاكل رسمية. ولكننا نرى اليوم عشرات القرناء منهمكين في الاختبارات العلمية التي تسرع بربح الحرب والتي تختلف بين تأمين الطعام لجميع أفراد الأمة وبين ابتكار أقوى الأسلحة الحربية فتكا وتدميراً.

يبلغ عدد أعضاء الجمعية 450 عضواً منهم 50 عضواً أجنبياً. وبينما كانت مقاعد الجمعية تضم في وقت ما كل علماء إنجلترا أصبحت اليوم ضيقة بهم؛ مما جعل الانتساب إلى الجمعية حلماً عبقرياً يتردد في ذهن كل عالم، وشرفاً كبيراً تتجه إليه الهمم. . . والواقع أن العضو في الجمعية يحرز فوائد مادية جمة فضلاً عن مظاهر التكريم والإجلال. سئل أحد القرناء الأطباء عن معنى الأحرف الثلاثة التي تلحق باسمه. فأجاب بأنها تعني:

أي أن أجوره ارتفعت بعد أن أضيفت هذه الأحرف إلى اسمه. ومن هنا كان الانتساب إلى الجمعية يقتضي كفاية نادرة وسبقاً علمياً معترفاً به في أحد ميادين المعرفة. ولا يرشح أحد العلماء للعضوية إلا بعد أن يزكيه ستة أعضاء على الأقل بشرط أن يكون بينهم ثلاثة خبروا معلومات المرشح ومؤهلاته واكتشافاته واتصلوا به اتصالاً شخصياً. وبعد مشاورات طويلة يعرض مجلس الجمعية كشفاً بأسماء المرشحين ويجري الانتخاب في آذار من كل عام. وتوزع الجمعية يوم 30 نوفمبر دائماً عدداً من الأنواط على السابقين من أعضائها المشهود لهم بالفضل والنبوغ

ويدير شئون الجمعية مجلس يتألف من (21) عضواً يجدد انتخابهم كل سنة. أما رئيس الجمعية وسكرتيرها للمراسلات الخارجية فيبقيان في منصبيهما خمسة أعوام. ويحتفظ أمين الصندوق وسكرتير الجمعية للأبحاث البيلوجية وسكرتيرها للأبحاث الطبيعية بمناصبهم عشرة أعوام. ولا يحق لقرين غير هؤلاء أن يخدم في مجلس الجمعية أكثر من عامين متتالين

وتساعد لجان خاصة مجلس الجمعية على تنظيم الميزانية وتوجيه البحث العلمي وطبع الكتب. وترصد الجمعية مبالغ طائلة لتمويل الجهود العلمية. ولكن أهم وظائف الجمعية نشر البحوث التي يتمها القرناء وشرح كشوفهم، فهي تطبع سجلاً سنوياً يضم أحدث الأبحاث العلمية التي يحرص رجال العلم المنتشرون في كل بقاع الأرض على درسها وفهمها

ولا تتأثر الجمعية بنزعات الجنس والدين؛ ولها اليد الطولي في شيوع النظريات العلمية والدعوة إلى اتحاد علمي عالمي، والبلوغ (بدولية العلم) مستوى يكاد يقرب من الكمال

وتضم مكتبتها ما يزيد على (150) ألف مجلد، وتقتني أوفى مجموعة لمتشورات الأكاديميات العلمية في جميع أقطار المعمورة؛ وقيودها وسجلاتها مصدر تاريخي لا نظير له استفاد منه كثير من طلاب العلم

وكلمة أخيرة، عن كنوز الجمعية. ففي ردهاتها لوحات رسمها أمهر الفنانين البريطانيين لأشهر علمائهم منذ القرن السابع عشر حتى اليوم. وسجل الجمعية الذي وقع فيه جميع القرناء منذ تأسيس الجمعية كنز لا يثمن. وفيها صولجان أثرى يضعه الرئيس أمامه أثناء انعقاد الاجتماعات. وفيها المرقب العاكس الذي صنعه نيوتن. ومخطوطة كتاب (المبادئ) - ومنها نقلت الطبعة الأولى - وهناك فرجاران من مخلفات كرستوفر رن، ومفرغة هواء هوكسي، وساعتا وقف من عمل أرنولد استعملهما كوك في رحلتيه الثانية والثالثة حول العالم؛ ومصباح الأمن الذي اخترعه ديفي، وغير هذا كثير من الأجهزة العلمية التي كانت ملكا للجمعية ومنحتها لمتاحف العلم.

(السلط - شرق الأردن)

خليل السالم