انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 556/إيوان كسرى بين شاعرين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 556/إيوان كسرى بين شاعرين

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 02 - 1944



للأستاذ حسن الأمين

- 1 -

وقف البحتري على إيوان كسرى وقفة طويلة جالت فيها عيناه في جوانب الإيوان وتطلعت إلى صوره ونقوشه، وترامت في جوانبه وأركانه، فأدهشته فخامة البنيان وروعة الفن وجلالة الصنعة فاستوحى خياله واستنطق شاعريته فجاءنا بقصيدته السنية الخالدة التي اشتهرت كل الاشتهار

وكما وقف البحتري على الإيوان وقف عليه بعد البحتري شاعر شهير، فأرسل بطرفه إلى سوامقه الشاهقة. وتلفت إلى بقاياه الهائلة، فهاجت شاعريته، وفاضت قريحته. فرفد الأدب العربي بقصيدة عضماء لم يكتب لها من الشهرة ما كتب لقصيدة البحتري؛ فظلت في ديوان الشاعر مغمورة بين قصائده الكثيرة قل أن يذكرها ذاكر أو يشير إليها مشير. وهكذا تواتي الحظوظ شعراً فيحلق في الأجواء، وينتشر في الآفاق، وتعاكس شعراً فينزوي بين طيات الأوراق، لا يرفع رأساً، ولا يسمع همساً فيضيع أي ضياع!

هذا الشاعر الذي عنيته هو الشريف الرضي، فقد تقاذفته النوى حتى حطت به على إيوان كسرى فنظم قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي، ولكنها ظلت مهملة، فلم نجد بين كتاب العربية ونقادها من أولاها عناية، أو أشار إليها إشارة، مع ما فيها من الإحساس العميق والشعور السامي الذي يرفع صاحبها إلى أسمى المراتب بين شعراء الأمجاد العربية.

وقف الشاعران على الإيوان وتطلع كل منهما إليه بعينين تختلفان عن عيني الآخر، وأثار الإيوان في نفس أحد الشاعرين غير ما أثار في نفس الشاعر الآخر؛ فجاءت قصيدتاهما متباينتي الروح والعاطفة والغاية

فالبحتري كان في وقوفه على الإيوان شاعراً فحسب، لم يهج فيه الإيوان إلا عاطفة الشعر. فوصف ما شاهد وصف الشاعر المجيد الفنان فأبدع في الوصف ما شاء الإبداع، وأوحى له خلو الإيوان من بناته، وانقراض حماته عاطفة الأسى العميق فقال:

أتسلي عن الحظوظ وآسي ... لمحل من آل ساسان درْس

ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وت وهُم خافضون في ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخسى

مغلق بابهَ على جبل القب - ق إلى دارتي خلاط ومكس

فهو في هذه الأبيات متدكر معبر يتأسى عن الجدود العاثرة بالطلول الداثرة، فيذكر آل ساسان وحياتهم الهنيئة في ظل الإيوان، وعيشتهم الرغيدة في أبهائه، وما كان لهم فيه من سلطان أي سلطان. ثم هو يقارن بين هذه الأطلال الساسانية الضخمة وبين الأطلال البدوية التي شغلت شعراء الجاهلية فوقفوا عليها وبكوها وفاض شعرهم بالتغني بها وترديد ذكرها، فكأنما يريد أن يقول إن مثل هذه الأطلال هي التي يجب أن تشغل الشاعر فيعوج عليها ويستنطقها أخبار الظاعنين لا أطلال القفار البسابس التي لم يكن لها أن تشغل الشعراء ذلك الإشعال:

حُلل لم تكن كأطلال سعدي ... في قفار من البسابس ملس

ثم يندفع الشاعر بصف خلو الدار وإقفارها حتى كأنها أرماس أو مآتم بعد أعراس. ثم يشير إلى ما تدل عليه هذه الآثار من عجائب مشيديها وإبداع موجديها، ثم يسهب في وصف ما فيها من النقوش والصور الماثلة، مجيداً في كل ذلك كل الإجادة:

وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان منهم بلبس

فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجي الصفوف تحت الدرفْس

في اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال في صبيغة ورس

وعراك الرجالِ بين يديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومُليح من السنان بترس

وفي هذه الأبيات نستدل على ما كان عليه الإيوان من فن رائع تتحلى فيه صور المعارك الحربية بين الروم والفرس وصور ملوك بألبستهم الزاهية يقودون جيوشهم المنتصرة، وصور المتقاتلين هذا يهوى برمحه وذاك يتقى بترسه إلى غير ذلك من المشاهد المتنوعة

ويبلغ إعجاب البحتري بهذه الصور والنقوش أقصي حدوده حتى ليحسبها أشخاصاً حية، وحتى أنه ليمعن في هذا الحسبان فيغالط نفسه فيتقدم إليها ويلمسها ليتأكد من خمود الحياة فيها: نصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس

يغتلى فيهم ارتيابي حتى ... تنقراهم يداي بلمس

ثم يمضي البحتري على هذا النسق في الوصف والشعور والتوجع في تسعة أبيات ينتقل بعدها إلى ما أصاب الإيوان من كوارث وأرزاء ثم لا ينسى أن يعزيه عما نزل به مشيراً إلى أن ذلك لا يعيب عظمته الخالدة ما دام لا يزال مشمخراً عالي الشرفات:

عكست حظه الليالي وبا ... ت المشتري فيه وهو كوكب نحس

فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلا كل الدهر مرسى

لم يعبه أن يُزَّمن بسط الديبا ... ج واستل من ستور الدمقس

مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس

لابسات من البياض فما تب ... صر منها إلا غلائل برس

وبعد ذلك يظهر البحتري دهشته فيسائل نفسه أيستطيع الإنسان أن يبدع هذا الإبداع أم هي بدائع الجن للإنس:

ليس يدري أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس

ومهما يكن من أمر فهو يؤمن أن الباني لم يكن ملكاً خاملاً ولا إنساناً حقيراً بل هو بانِ كانت تغص نواديه بالوافدين، وتعج مقاصيره بالقيان والمغنين، وهو من هؤلاء الملوك الذين سادوا الزمن فعنا لهم وانقاد إليهم فعاشوا حياة كلها رغد وهناء

فكأني أرى المراتب والقو ... م إذا ما بلغت آخر حسي

وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الرخام وجَلس

وكأن القيان وسط المقاص ... ير يرجحن بين حُوّ ولعس

وكأن اللقاء أول من أم ... س ووشك الفراق أول أمس

وبعد كل هذا يبرز البحتري شاعراً لا يهمه من كل ما رأى إلا أنه مظهر حي يهز النفوس الشاعرة الحساسة فتبكي العز الزائل والملك الهاوي وتشيد بذكر الأمجاد أيا كانوا:

عمرت للسرور دهراً فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي

فلها أن أعنيها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس

ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي ثم يعقب على ذلك ببيته الختامي الذي يظهر فيه مذهبه الشعري الإنساني:

وأراني من بعد أكلف بالأش ... راف طراً من كل سنخ وجنس

- 2 -

يستهل الشريف الرضي قصيدته استهلالاً فروسياً جميلاً تتجلى فيه روحه الوثابة وتبرز سجاياه الشماء، بل تبدو إحساساته المكبوتة وعواطفه المقهورة. فالرضى فتى ملء بروده الرجولة التواقة إلى العلياء، الطماحة إلى المجد، وقد اجتمع له من كريم نسبه ونبل خلاله وسمو مكانته ما جعله يأنف حياة الدعة والخمول وعيش الصغار والهوان. وتحكم في عصره بالناس من هم دونه كفاية وشهامة وحسباً ونسباً فحاول أن يشق طريقه فأقعده الزمن وردته ظروفه فظل مهضوماً مغبظاً يفرج كرباته بالشعر:

قربوهن ليبعدن الخِفارا ... ويبدلْن بدار الهون دارا

واصطفوهن لينتجن العلى ... بالعوالي لا لينتجن المهارا

إنه ليترنم بالخيل ويهتف بإسمها ويصيح برهطه ليقربوها إليه!. . . وماذا في الخيل؟. . . إن فيها مظاهر القوة والعظمة، مظاهر النضال والكفاح، مظاهر الفروسية الباسلة. والشريف يرى نفسه رجل الخيل المغيرات وقد حيل بينه وبين أعنتها فهو يزفر من أعماق صدره هذه الزفرة الحماسية جامعاً فيها ما يتأكل نفسه من الحرمان المرير، ومضمناً لها ما يجول في خاطره من التوثب إلى معالي الأمور، فهو وقد وقف على إيوان كسرى لا يتغزل بالحسان الساحرات، ولا يستبكي للأطلال الداثرات، بل يفتتح قصيدته بدعوة الخيل لا للتسلي بأعنتها، ولا للتلهي بصهواتها، بل للغارات البعيدة، ولتبدل له بدار الهوان التي تأويه دار العز التي يطمح لها. فهو يرى أنه إنما يحيا في دار الذل ومنزل الضيم بالرغم مما كان يحاط به من تكريم وإعظام.

وتراه في البيت الثاني يعلن زهده في المادة فهو لا يريد الخيل لتنتج له العلا

وبعد أن يمضي الرضي في واحد وعشرين بيتاً يضمنها نوازعه وخواطره يصل بنا إلى ذكر الإيوان فيخبرنا أنه نزل فيه داراً لم تكن دار ذل، وأن بناته كانوا ذوي مجد رفيع استقلوا فيه عن الناس وشغلوه عن أن نعار لغيرهم:

قدَ نزلنا دار كسرى بعده ... أربُعاً ما كن للذل طوارا أسفرت أعطانها عن معشر ... شغلوا المجد بهم عن أن يعارا

تصف الدار لنا قطانها ... المعالي والمساعي والنجارا

وهنا يتجلى إنصافه واعترافه بالحق؛ فهو بالرغم من مزعته القومية المتحمسة لا يبخس الناس أشيائهم ولا يغض من ذوي المواهب، بل يتكلم عن الناس بما كانوا عليه؛ فقد وصفت الدار له قطانها، فهي باذخة البناء رحيبة الفناء، وهي محكمة الصنعة متقنة العمل، وهي في كل ذلك ناطقة بفضل من أبدعوها وحلوها تخبر عنهم بلسان فصيح ولغة واضحة

ثم نراه يلم بما أصاب هؤلاء القطان من نزول عن مجدهم واضمحلال لأمرهم، فهو يرى أن الدهر استرد منهم ما أعارهم ليعيره إلى غيرهم فكأنما نعم الحياة عاريات يجود بهما الدهر على ناس، ثم يبدو له فيستردها ليجود بها على آخرين وهكذا تتداول الأمم المجد فيما بينها:

آل ساسان حدا الخطب بهم ... واسترد الدهر منهم ما أعارا

بعد ما شادوا البُنى ترفعها ... عَمَد المجد قباباً ومنارا

كل ملموم القرى صعب الذرى ... يزلق العقبان عنه والنشارا

ثم ينتقل إلى وصف الإيوان كما رآه في عهده ولكنه لا يصف لنا صوره ونقوشه ولا يتحدث عن عجائب صنعه وبدائع فنه، بل إن ذلك لا يشعل ذهنه ولا يثير اهتمامه فلا يسترسل كالبحتري في وصف دقائقه، بل يعطينا صورة إجمالية عنه تملأ النفس رهبة ووحشة:

حمل الدهر إلى أن رده ... ضاغط العبء ضلوعاً وفقارا

مطرقاً إطراق مأمون الشذا ... غمر النادي حلماً ووقارا

أو مليك وقع الدهر به ... فأماط الطوق عنه والسوارا

أوهنت منه الليالي فترة ... لا يلاقى وهنها اليوم جبارا

إذ لم يكن يهم الرضي أن يستوفي وصف الإيوان، فنحن لا نستطيع أن نتعرف من قصيدته إلى حال الإيوان يوم ذاك ولا إلى ما كان لا يزال مائلاً من زخارفه؛ فكأنه لا يعنيه أن يسهب في ذلك، بل يريد أن يستخرج العبرة من موقفه هذا، فيتحدث عن حملة الدهر على الإيوان حتى تركه (ضاغط العبء ضلوعاً وفقاراً) ثم يصوره تصويراً فنياً رائعاً فيتخيله مطرقاً إطراق من كانت له صولة فزالت، وأمن الناس نفعه وضره، فهو مطأطئ الهامة أسفاً على ماضيه وتفكراً بحاضره، ولكن هذا الإطراق المحزن لا يذهب بوقاره وحلمه فهو - على شجاه - يملأ النادي حلماً ووقاراً. وهو على ما نزل به لا يزال محتفظاً بجلاله وهيبته، ثم يشبهه بملك وقع الدهر به وحلت كوارثه في ساحته فسلبته ملكه وأماطت عنه تاجه وذهبت بطوقه وسواره؛ فهو لا يزال كما كان رجلاً كامل الهيبة، ولكنه عاطل من حلل الملك وحليه، وكذلك الإيوان، فهو لا يزال قصراً شامخاً، ولكنه خال من كل ما كان له من شأن

وهذه الأبيات هي كل ما يظفر به الإيوان من الشريف الرضي من الوصف، ثم ينتقل بعدها إلى ما يريده من أغراض قومية، فيسائل أين معالي الإيوان الجمة وأين حماه الأفيح وأين رجاله الذين غلبوا الناس:

أين لا أين المعالي جمة ... والحمى أفيح والرأي مغارا

ورجال شدخت أوضاحهم ... غلبوا الأعناق مَناً وإسارا

فيجيب عن ذلك بجواب تتجلى فيه نزعته القومية، وروحه الإسلامية واضحة جلية:

عمروا لم يعلموا أن لنا ... جائز الأمر عليهم والإمارا

ثم هو يشير إلى ما كانت عليه الأمم المجاورة للعرب من النظر إليهم نظر الاستهانة وقلة الاكتراث غير عالمة بما وراء هذا الهمود من الاندفاع العجيب، ولا حاسبة بأن تلك الأمة الممزقة الرأي المقطعة الأوصال ستهب هبة تدهش الدنيا:

قدروا جَد تزار واقفاً ... ومشى الجد فما عزوا نزارا

ثم يصف الوثبة العربية العظيمة وما رافقها من بطولات وتضحيات وكيف أذهلت الناس فعنوا لها مستسلمين

لاوَذوا لما رأوا من دونهم ... وادياً يلقى به السيل غمارا

عينوا الضرب دِرَا كافي الطلى ... يعجل الفارس والطعن بدارا

ثم يشبه العرب بالأسد يهب مصحراً بعد طول الخور:

أصحر الليث العفوني فانثنى ... يطلب اليربوعُ في الأرض وجارا

وبعد هذا الاعتزاز بقومه والتفاخر بأمته يتحدث عما أفضت إليه نهضة العرب وعن رسالتهم الإسلامية التي حملوها إلى الآفاق تجلو دياجير الشرك وتمحو معالم الوثنية وتنشر التوحيد حيث حلت:

قهروا الشرك على أعقابه ... بعد ما استخدم غياً وضرارا

وأثاروا الدين من مربضه ... وأطاروا عن مجاليه الخمارا

داينوا المجد بأطراف القنا ... فغدا عينا وقد كان ضمارا

وهكذا ترى أن موقف الرضي على الإيوان غير موقف البحتري؛ فإن الإيوان أثار من البحتري شاعريته، ولكنه في الرضي أثار قوميته.

حسن الأمين