انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 552/مدينة الخيرات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 552/مدينة الخيرات

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1944


للدكتور زكي مبارك

بالأمس حضرت مع الأخ الزيات حفلة وزير الأوقاف لشرح تخطيط (مدينة الخيرات) بدعوة كريمة من معاليه، واليوم قرأت جميع الجرائد الصباحية والمسائية من عربية وفرنسية لأستروح بعبير الحديث عن المدينة الجديدة، ثم تأملت الخريطة المنشورة في جريدة المصري وجريدة الأهرام، ودرستها مع أحد أبنائي، ليتخير مكانا نبني فيه بيتاً هناك، بإذن الله، وبعون الله، فما نقدر على شئ، إلا إن أعانتنا رعايته السامية، وأظلنا ظله الظليل.

مدينة الخيرات

الوزير سماها في حديثه معنا (مدينة الزهور)، ثم قرأت في جريدة الأهرام أنه قال إن اسمها محل بحث في الوقت الحاضر، وأنا أقترح أن نسميها (مدينة الخيرات) للمعنى الذي أشار إليه الوزير في خطبته، فقد قال إن الذي يبني قصراً في هذه المدينة يضمن قصراً في الجنة، لأن الأموال التي ستحصل من إنشائها ستكون أزواداً باقية للفقراء والمساكين

والخيرات كلمة قوية في اللغة العربية، فهي جمع خَيْرة مؤنث خَيْر، والخير في لغة العرب يتضمن وصفين: الوصف بالخُلُق والوصف بالجمال والرسول عليه السلام سمي (المختار) لهدا المعنى، وقد وردت (الخيرات) في الشعر القديم بمعنى الخصال الشريفة، قال النمر بن تولب:

أعامرُ مهلاً لا تلمني ولا تكن ... خفياً إذا الخيراتُ عُدَّت رجّالها

فمدينة الخيرات هي مدينة الأخلاق الفاضلة، والشمائل الكريمة، والجمال الرائع، وإذن يكون اسمها في معناه من أشرف الأسماء

أرجو معالي الوزير أن يتفضل بإقرار هذا الاسم الجميل، وأرجو حضرات الكتاب والشعراء أن يذكروه فيما يكتبون وما ينظمون، ليسير على الألسنة في أقرب وقت، ولهم مني أطيب الثناء

عبد الحميد عبد الحق هذا فتى من اماجد الفتيان، فتى طيب القلب، صافي الروح، واشتراكه في الوزارة الحاضرة دليل جديد على براعة النحاس باشا في اختيار الرجال

تولى عبد الحميد وزارة الشؤون الاجتماعية وهي وهم من الأوهام، فصيرها وزارة رئيسية، صيرها وزارة يرضي بها وزير مثل فؤاد باشا سراج الدين

وحين نقل هذا الوزير المبتكر إلى وزارة الأوقاف كان مفهوماً للجمهور أنه نُقل إلى ميدان لا يصلح للجهاد، ثم كانت النتيجة أن يبتكر أشياء لم تخطر لمن سبقوه في بال

الأوقاف الخيرية

حدثنا الوزير في خطبته أن الوقف الخيري كاد ينقرض، فلم نعد نسمع شيئاً من أخبار المحسنين الذين يحبسون الأطيان والعقارات على الفقراء والمساكين، وذلك باب من (التأمين الاجتماعي)

وإذن يكون من الواجب أن ننمي الأوقاف الموجودة، وهي لا تزيد عن خمسة وأربعين ألفاً من الفدادين. . . وقد تعجبت حين سمعت هذا الرقم الهزيل، وجال في الخاطر أن الأراضي الموقوفة تعرضت للسرقات، والأرض تُسرق كما تُسرق النقود، وإذا كانت الأراضي التي يسهر عليها أصحابها تُسرَق منها مساحات فليس من المستغرب أن تسرق أراضي الأوقاف، ولم يكن لها حراس فيما سلف من السنين

وقد وجد الوزير أبواباً لتنمية الأوقاف الخيرية، منها بيع الأراضي القريبة من المدن لينتفع بأثمانها العالية، وأهم هذه الأبواب هو إنشاء (مدينة الخيرات) في الأراضي الواقعة على الضفة الغربية للنيل

ارتفع السعر من اللحظة الأولى، فاشترى حلمي باشا عيسى فداناُ وصل ثمنه إلى نحو تسعة آلاف من الجنيهات، وكان الفدان هنالك لا يجد من يشتريه بأبخس الأثمان

أنا متفائل بما صنع حلمي باشا، فهو من جيراني في المنوفية، وسأصنع كالذي صنع فأشتري بضعة قراريط بجوار ذلك الفدان، لنظل جيراناً هنا وهناك!

اللهم آمين!

سيعد وسنان الأراضي التي ستقام عليها مباني المدينة الجديدة هي من أوقاف سعيد باشا وسنان باشا، فمن هذان الرجلان؟

أرجو أن يتفضل أحد أصدقاء الرسالة فيكتب كلمة في هذين المحسنين العظيمين، جعلهما الله من سكان الفردوس

شارع الأهرام

الشارع الأعظم في المدينة الجديدة عرضه ثمانون متراً، ومزيته أنه يواجه الأهرام من بدايته إلى نهايته، ومعنى هذا أن السائر فيه يرى الأهرام كلما مدْ بصره إلى الأمام

أتاح هذا الشارع فرصة لخطبة وجيزة عقبت بها على خطبة الوزير، فقد تحدثت عن حرمان القاهرة من مثل هذا الجمال، تحدثت عن شارع الأزهر وهو بدعة البدع في الاعوجاج، وكان يجب أن يسمح لمن يقف بميدان الملكة فريدة أن يرى منارات الأزهر الشريف

وقلت أيضاً إنه كان يجب أن يتمتع من يقف في ميدان الإسماعيلية أو باب الحديد برؤية الواجهة الجملية لقصر عابدين

ارحموا القاهرة

ثم اندفعت فتحدثت عما أخشاه من إهمال القاهرة، وهي عروس الشرق، فالعمران الجديد يتجه إلى الضفة الغربية ويترك الضفة الشرقية، يتركها لأن تنظيمها صعب، أو لأنها من ميراث الأجداد، وهذا هو العذر الذي وصف بأنه أقبح من الذنب؟

أين كان مهندسونا يوم أقيمت إدارة الأزهر بوضعها الجديد؟ وكيف جاز أن تشوّه الجمال المنشود بوصل ميدان الأزهر بميدان الحسين؟ وأين كان مهندسونا يوم أقيمت معسكرات الحرس الملكي كان يجب أن يتصل الميدان بالساحة التي تقع في شمالي تلك المعسكرات، ليزيد في الرونق والبهاء

وكيف جاز السكوت عن تنظيم شارع الخليج حتى يصل إلى مداه من الشمال؟

وإلى متى نسكت عن التلال التي تحيط بالقاهرة من الشرق فتملؤها بالغبار والأقذاء؟

وزير الأوقاف يَعِدنا بغابة تحمي المدينة الجديدة من الرطوبة والغبار، فمتى نسمع أن وزارة الأشغال أقامت غابة تحمي القاهرة من الأتربة والرمال التي تثور من الشرق؟

وعند هذه الكلمة قام الوزير ليقول: إن لوزارة الأوقاف أملاكا في (تل زينهم)، وإنه سيحاول تحويل تلك التلال إلى رياض

ولم يسمح المقام بمعارضة الوزير، فأنا أريد تلال الدرَّاسة لا تلال زين العابدين؟

عثمان محرم باشا

وقف الأستاذ محمد الصباحي ليرد على خطبتي فقال: إن صاحب المعالي عثمان محرم باشا معنيٌّ برفع التلال التي تؤذي القاهرة من الشرق، ومضى فقال كلاماً جميلاً في الدفاع عن وزير الأشغال

وأقول إني معتزمٌ رفع قضية على عثمان باشا، قضية طريفة يعرف بها أن الأديب مهندس يفوق المهندسين، وسأترفق به، فلا أُطالبه بغير عشرين ألفاً من الدنانير الصِّحاح

كتبت في (الرسالة) مقالات كثيرة عن تخطيط القاهرة ولم يستمع وزير الأشغال، بدليل أنه لم يَدْعُني ليسمع أقوالي

وسأقدم للمحكمة وثيقة عجيبة، هي مقالة قدمتها لجريدة المصري في العام الماضي، ثم ردّتها إلىَّ برفق، لأني اقترحت أن يسير وزير الأشغال على قدميه أو يركب الترام عند خروج الموظفين من الدواوين، فإني أعتقد أن راكب السيارة الخصوصية أو الحكومية لا يشعر بما يعاني القاهريون من صعوبة المواصلات

وقد تعب السكرتير العام لوزارة الأشغال، وهو الأستاذ حامد القصبي، في ترضيتي، ليضمن سكوتي عن رفع القضية، ولكنه لن يصل إلي ما يريد، وإن كان أعز صديق

سأقاضي وزير الأشغال بعد أيام أو أسابيع، وهل يكون أعز على من القاهرة وهي الغرة اللائحة في جبين الشرق؟

اعتذرَ عنه أحد أصدقائه بأنه لم يقرأ مقالاتي في تخطيط القاهرة، وأنا لا أقبل هذا الاعتذار بأي حال، فقد كان يجب أن يقرأ الضمائر قبل قراءة المجلات

غرِّبوا كيف شئتم، وابنوا ألوف القصور في الضفة الغربية فستحتاجون إلى ألف سنة ليكون لكم بعض ما للقاهرة من تواريخ

أنت يا قاهرة قاهرة، فلا تحزني ولا تخافي، وأنا الكفيل بأن برجع إليك وديعتك الغالية وهي الجامعة المصرية في دار جميلة هي دار وزارة الأوقاف، يوم تنتقل هذه الوزارة إلى مدينة الخيرات، والله هو الكفيل بالتوفيق.

زكي مبارك