انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 552/علي محمود طه شاعر الفن والجمال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 552/علي محمود طه شاعر الفن والجمال

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1944


4 - علي محمود طه شاعر الفن والجمال

للأستاذ دريني خشبة

مما يأخذه بعض أصدقائنا الشعراء على زميلهم علي محمود طه الذي يُكبرهم ويعزهم ويعرف لكل منهم قدره حرصه على (تزويق!) دواوينه بهذه الصور الملونة وغير الملونة، وتلك الرسوم التي يوحيها إلى الفنان بيت أو أبيات من شعره فيمثل فيها فكرة أو خيالاً من أخيلة الشاعر المتمردة أو. . . المتجردة!

فأما ما يسمونه (تزويقاً) فأنا أعده تجنياً منهم على زميلهم، لأن إبراز مؤلفاتنا على هذا النسق الذي يربي أذواق القراء بما يمتزج فيه من خيال الشاعر ودقة الفنان، وما يتساند فيه من البيان الناصع وتأثير الألوان. . . هو عمل يسد فراغاً موحشاً في طباعتنا العربية، وكان الأولى أن نستزيد منه لا أن نصرف المؤلفين والفنانين عنه. إلا أن المغالاة في إبراز المعاني التي تجول في روع الشاعر والمبالغة في تصويرها على هذا النحو الذي صورت به في (أشباح وأرواح) مثلاً، هو الجدير بالملاحظة، وهو ما يجب التنبيه إلى خطره على نفوس الشباب الغصة، وقلوبهم الرطبة؛ فلقد كان الفن اليوناني فناً وثنياً، وكان الفنانون اليونانيون مع ذلك يحرصون على إبراز دقائق الجمال الجسماني من جميع نواحيه التي تتصل بفضائلهم المثالية متجنبين النواحي التي تغازل غرائز الإنسان الدنيا، والأوضاع التي تُلمع إلى مغازلة هذه الغرائز، وهاهي تماثيلهم وتصاويرهم على (الأمفورات) الشائقة والجرار الجميلة وأفاريز المعابد والدور العامة لا ترى بينها شيئاً يدني إلى مغازلة الغرائز الدنيا مطلقاً. . . بل هذا تمثال أفروديت ميلوس الذي ينبض كل عضو من أعضائه وكل عضلة من عضلاته بأسمى ألوان الجمال الحي، لا يملأ عين رائيه إلا بروعة الفضائل العليا للجمال الخالص، مع أن أفروديت في الميثولوجيا اليونانية - فينوس - هي ميدان العواطف الملتهبة والغرائز الجياشة، ومعظم الأساطير التي رويت عنها تمثل (العاصفة) في الحب الآثم؛ ومع ذلك لم يفكر فنان يوناني في نحت تمثال لربة الجمال والحب يودع فيه أسرار فينوس إلا رَمْزاً، ولم يحاول أحدهم كشف هذا الأسرار قط. جميل جداً أن يستعين الأدب بالفن وأن يستعين الفن بالأدب في أن يجلو أحدهما الآخر، وأن يُبرز أحدهما للآخر تلك الدقائق التي لا يغني في إبرازها التمثال أو الصورة إذا كان لا غناء عن القلم، أو القلم إذا كان لا غناء عن التمثال أو الصورة. . . والأجمل من ذاك أن يكون هذا التعاون في ناحية الخير الذي يرتقى بالغرائز، لا في ناحية الشر الذي يسفل بها. وإذا كان فنانو اليونان الوثنيون قد أخذوا أنفسهم بتلك التقاليد الصارمة في فنهم عندما كان يتصل بأخلاق القوة، فأحرى بفنانينا أن يلقوا بالهم إلى ذلك في كل ما يغدون به نهضتنا الفنية التي لن تستطيع أن تتجاهل أنها تنمو في كنف أعظم ديانتين على وجه الأرض، لا في كنف الوثنية اليونانية مثلاً!. . .

فلا بد إذن من (مؤاخذة) شاعرنا الفنان الموهوب على هذا، لأن شعره العالي الجميل المصقول لم يكن بحاجة إلى هذا اللون من الفن (المكشوف) ليجلو منه شيئاً، وإن كان لابد من تعاون بين شعره هذا العالي الجميل المصقول وبين الفن، فقد كان أحجى أن يتم هذا التعاون على منوال آخر يعرفه شاعرنا الرقيق النابه ولا بجهله، كما يعرفه الفنان الذي كان سبب لومنا هذا ولا يجهله أيضاً. وأخشى أن تكون ثمة علامة بين الفن المصور والفن المكتوب (في أشباح وأرواح) التي لم يكتب هذا المقال في نقدها، وأخشى أن يكون لقب (شاعر اللذة والجمال) الذي يضفيه أُستاذنا الزيات على شاعرنا الرقيق النابه، والذي وضعه بيده في رأس مقالنا السابق، يعني من اللذة والجمال شيئاً غير الذي نعرفه ويعرفه أستاذنا الزيات وشاعرنا علي محمود طه من اللذة البريئة. . . لذة الطهر. . . اللذة التي لا تثور بعرف ولا تعصف بخلق. . . ويحلو لي جداً بهذه المناسبة، أن أدافع عن الشاعر الكبير بكلامه هو، لا بكلامي أَنا، وما يعرفه هو، لاما أعرفه أنا، عن اللذة الآثمة، (التي دفعت إليها تاييس شاعر (أرواح وأشباح) فلم يلبث أن أفاق منها، وقد رأى مدى انهيار روحه وفنه)

فهذه كلمات قدم بها الشاعر لمقطوعة جيدة يقول في أولها

ولفّتْ ذراعين كالحيتين ... علىّ وبي نشوة لم تطرْ

وقد قربت فمها من فميِ ... كشقين من قبس مستعرْ

أَشم بأنفاسها رغبةً ... ويهتف بي جفنها المستعرْ

تَبَيَّنتُ في صدرها مصرعي ... وآخرة العاشق المنتحرْ

ويختمها بقوله: دعيْنيَ حواء، أو فابعدي ... دعيني إلى غايتي أنطلقْ

أخمر ونار؟ لقد ضاق بي ... كياني وأوشك أن أختنقْ

أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم ... رائحة الجسد المحترق

فيالك أفعى تشهيتها ... ويالي من أفعوان نزقْ!!!

فاعتراف الشاعر الناظم في المقدمة المنثورة بانهيار روح شاعر الملحمة وانهيار فنه، لأن تابيس قد دفعته إلى اللذة الآثمة ثم اعترافه في المنظومة بأنه تبين في صدرها مصرعه - وآخرة العاشق المنتحر؛ وأن حواء أفعى تشهاها أفعوان نزق. . . كل هذا ينفي عن علي محمود طه، الشاعر الرقيق النابه، ذهابه مذهب اللذة، وأعني اللذة الآثمة. . . ولله شاعرنا حيث يقول في الكرمة الأولى: صهباء ما كانت=من غرس إبليس

بل كرمة زانت ... خلق الفراديس

تسمو بها الأرواحْ ... عن عالم الإثم

شفافة الأقداحْ ... في رقة الحُلم

فهل رأيت الخمر التي تسمو بها الأرواح عن عالم الإثم؟

رحم الله ابن الفارض الذي يقول:

وقالوا شربت الإثم قلت لهم بلى ... شربت التي في تركها عنديّ الإثم

فتلك لذة علي محمود طه التي تعرف الإثم والتي لا تعرف إلا الطهر. . . الخمر التي يقول فيها:

خمرة ما قَبْلتْ غير شفاه الأنبياء

خمرة في الغيب كانت قطرت من ضياء

خُتمت بالشفق الوردي في أصفى إناء

جُبلت فخّارتاه من صفاء ونقاء

لشد ما أكره أن يلقب شاعرنا الرقيق النابه بشاعر اللذة! وما أحب أن ندعوه جميعاً إلا: بشاعر الفن والجمال!

لست أدري لماذا لا أنتهي من هذا الثناء الطويل على الشاعر علي محمود طه لأفرغ إلى جانبه الآخر. . الجانب الجدير بالنقد. . أو الجانب المظلم الذي لا يتراءى في جانب غيره للكثيرين ممن حاوروني فيه. . . أولئك الذين يظنون أن علي محمود طه لا يملك كتفين عريضتين قويتين تحتملان النقد، ما خف منه وما ثقل، وما جاء منه ممن يفهمون وممن لا يفهمون، وما صدر منه عن إعجاب بالشاعر ومحبة له، وما صدر منه عن موجدة عليه وضيق به

ولست أدري لماذا لا أصارح أصدقائي الشعراء خاصة، وأصدقائي القراء عامة، بأن (الهدم المطلق) ليس من مذهبي، بل ليس من النقد في شئ أن نظلم الأديب من الأدباء، أو الشاعر من الشعراء، في تسعة أعشار إنتاجه، لأن العشر الباقي لا يرضيك، أو لأنك لا (تستظرفْ!) هذا الأديب من الأدباء، أو ذلك الشاعر من الشعراء؛ فهذا اللون من النقد هو الذي يصدر عن هوى لا يعرف العدالة ولا يعرف الاتئاد ولا يعرف الفطنة. والمؤلم في هذا كله أنه يصدر عن قراءة سطحية للأديب أو الشاعر. . . قراءة خاطفة. . . لا تعدو مقالة أو قصيدة في مقهى أو في ترام

وللحديث في هذا الموضوع ظرفه الخاص. . إنما هي إشارة (خاطفة) تشغلني عنها هذه المفاتن التي عرفتها في شعر علي محمود طه منذ أخذت أقرأ شعره

ومفاتن شعره تأتي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، فمن ناحية الشكل، تروقني منه تلك القوافي المتخيرة الشائقة التي تدل على ذوق مُروِّئِ فنان، ومزاج موسيقي مفتتن بالغناء مولع بالألوان. فهو إذا اختار أن يقول من قافية واحدة اختار القوافي الراقصة التي تميس فيها الكلمات وتتلألأ. . . وتكاد تغني. . . وتستطيع أن تتناول دواوينه كلها وتقرأ منها ما شئت، فلن تجد قافية عليلة أو قافية ثقيلة، أو قافية تنبو في سمعك أو تستأذن على هذا السمع. وعلي محمود طه نفحة في هذه الناحية من شاعرنا الخالد شوقي أمير الشعراء عليه رحمة الله. . فإذا اختار أن يقول في المنظومة الواحدة من قواف عدة، وجدت موهبته في ذلك تتدفق. . كدت أقول تتبرَّج. . فهو يتنقل بك، كما يتنقل بك الموسيقي العبقري من لحن إلى لحن، ومن نغمة إلى أخرى، من غير أن يصدم سمعك، أو ينبو على ذوقك. والعجيب أنه يجيد هذا التنقل في منظوماته القصيرة وفي منظوماته الطويلة على السواء. وقد أجاد بوجه خاص في درامته الرائعة (أغنية الرياح الأربع) وكأنما كان يعنيني من دون الناس جميعاً بتجويده قوافيّه حينما كنت أقف وحدي في الشاطئ الآخر، داعياً جهدي إلى استعمال الشعر المرسل في الدرامة المنظومة، تلك الدعوة التي أستمسك بها وأُصر عليها، بالرغم من هذي القوافي المذهبة التي بهر بها علي محمود طه ألباب قرائه، ولبى الفقير في مقدمة هذه الألباب!

(للحديث بقية)

دريني خشبة