مجلة الرسالة/العدد 551/القصص
مجلة الرسالة/العدد 551/القصص
الاعتراف. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
بقلم الآنسة درية رستم
كانت مرجريت دي تيرول تعاني سكرة الموت وهي بعد في الواحدة والخمسين من سني حياتها؛ إلا أنها كانت تبدو لرائها على الأقل في الخامسة والستين. . . وراحت تتنفس وهي أشد أصفراراً من أدثرتها. . . تخالج جسدها رعشات هائلة. . . شاحبة الوجه. . . زائغة البصر، كما لو كان شيئاً هائلاً يلوح لها. وراحت شقيقتها الكبرى (سوزان) تنتحب، وهي تكبرها بعشر سنوات، وكانت جالسة بالقرب من السرير، وكان بالقرب من فراش المحتضرة منضدة عليها مفرش من فوقه شمعتان مشتعلتان. . .
كانتا في انتظار القس الذي كان من واجبه أن يقوم بمباركتها البركة الأخيرة ويقدم القربان المقدس. وكان للمسكن ذلك المنظر المشؤوم لحجرات الموتى، منظر الوداع الذي لا لقاء بعده. . . زجاجات الدواء على كل قطعة من الأثاث. . . والملابس ملقاة في كل ناحية من نواحي الغرفة. . . مدفوعة بركلة قدم أو بضربة مكنسة. . . حتى الأرائك كانت في غير أماكنها المعدة لها. نعم فقد كان الموت المروع ثم مختبئاً منتظراً. . .
كانت قصة الشقيقتين تستدعي رحمة القلوب وإشفاقها. . . وراح القوم يروونها من زمان بعيد وهي بعد تستدر عبراتهم
كانت سوزان في ميعة صباها يحبها فتى إلى حد الجنون. . . وكانت تبادله الحب. . . وإذ لم يعد على زواجهما غير أيام معدودات مات (هنري دي سابير) فجأة. . .
ولقد كان يأس الفتاة قاتلاً حتى لقد أقسمت ألا تتزوج أبداً. . . والحق أنها برت بقسمها وعاشت عيشة العوانس، ولم تشذ عن عادتها مطلقاً
. . . وذات صباح جاءتها شقيقتها. . . شقيقتها الصغرى (مرجريت)، ولم تكن بعد قد تعدت الثانية عشرة وألقت بنفسها بين ذراعي شقيقتها الكبرى وقالت لها:
يا شقيقتي الكبرى. . . إنني لا أريد أن تكوني تعسة. . . لا أريد أن تبكي طول حياتك. .
أبداً لن أغادرك أبداً. . . وأما عن نفسي فلن أتزوج، وسأظل دائماً إلى جوارك دائماً. . . دائماً. . . واحتضنتها سوزان متأثرة بهذا الإخلاص من طفلة. ولكن الطفلة عملت بقولتها، وعلى الرغم من توسلات أبويها وتضرعات شقيقتها لم تشأ أن تتزوج. . . ولقد كانت جميلة بارعة الجمال، وردت كثيراً من الشبان الذين كانوا يلوحون أنهم يحبونها. . . لم تغادر أختها مطلقاً!
وعاشتا معاً طيلة إقامتهما دون أن تفترقا مرة واحدة. وظلتا متعاشرتين تربطهما عروة وثقى. . . إلا أن (مرجريت) كانت تبدو دائما حزينة مهمومة. . . أكبر حزنا من أختها، كما لو كان من المحتمل أن تكون تضحيتها الغالية قد قوضت حياتها، وراحت تدلف في طريق الشيخوخة بخطوات حثيثة، ووخط الشيب شعرها وهي لا تزال في الحلقة الثالثة من عمرها. . . دائماً تعاني، كما لو كان خطراً هائلاً يهددها.
وهاهي ذي الآن تموت قبل أختها! ولم تنفرج شفتاها عن كلمة منذ أربع وعشرين ساعة. . . فقط قالت عند الومضات الأولى للفجر: هيا ابحثي يا أختاه عن القس؛ فإنني مشرفة على الهلاك. . .
وبقيت بعد ذلك مستلقية على ظهرها. . . تنتفض انتفاضاً مرتجفة الشفتين، كما لو كانت كلمات هائلة تصعد من أعماق قلبها، ثم تقف حائرة على شفتيها!
وراحت أختها، وقد أرمضها الألم، تبكي بحرقة من خلف السرير، وهي تردد:
يا مرجو. . يا مرجو التعسة. . . يا صغيرتي، وكانت دائماً تناديها بيا (صغيرتي)، كما كانت مرجريت تناديها دائماً بيا (أختي الكبرى). . .
وسمعنا وقع أقدام على الدرج. . . وفتح الباب ولاح طفل من الكنيسة، ومن خلفه قس كهل في لباسه الكهنوتي. وما إن وقع بصر المحتضرة عليه حتى انتفضت وفغرت فاها، وتمتمت بكلمات غير مفهومة. . . وتقدم منها الأب (سيمون) وتناول يدها وقبلها في وجنتها، وقال لها في صوت حلو النبرات:
- إن الله ليعفو عنك يا طفلتي. . . تشجعي. . . هاهي ذي اللحظة قد دنت. . . تكلمي
. . . وتمتمت مرجريت التي راحت تنتفض من فرعها إلى قدمها. . . وراح مهادها يهتز بتأثير حركاتها العصبية لتجلسي يا شقيقتي الكبرى. . . ولتسمعي. . . وانحنى القس يأخذ بيد (سوزان) وهي قابعة كعادتها عند قدم السرير وأجلسها على الفوتيل وأخذ بكل يد من يديه يد كل من الشقيقتين، وقال:
رباه. . . لتبعث فيها القوة. . . ولتنزح عليها رحمتك. . .
وشاءت مرجريت أن تتكلم، فخرجت الكلمات من حلقها الواحد بعد الأخرى جزئية متقطعة
عفوك. . . عفوك يا أختاه. . . لتصفحي عني. . . آه لو أنك تعلمين كم كنت أشفق على نفسي من هذه اللحظة. . . طول حياتي. . . وتمتمت سوزان من بين عبراتها. . .
عم أصفح عنك يا صغيرتي. . . وقد منحتني كل شيء. . . وضحيت بكل ما تملكين. . . إنك ملاك
ولكن مرجريت قاطعتها قائلة:
خلي عنك
دعيني أتكلم ولا تقاطعيني. . . هذا مريع. . . دعيني أقل كل شيء حتى النهاية. . . دون تتحركي. . . أصغي. . . إنك تذكرين. . . تذكرين هذي. . .
وانتفضت سوزان ونظرت إلى شقيقتها التي استطردت قائلة: يجب أن تنصتي لتفهمي. . . كنت في الثانية عشرة من عمري حياتي. . . في الثانية عشرة فقط وإنك لتذكرين ذلك جيداً أليس كذلك؟ ولقد كنت مدللة؛ كنت أعمل كل ما أريد عمله. . . أتذكرين جيداً كيف كانوا يدللونني؟ أصغي. . حينما جاء لأول مرة كان يحمل باقات نضيرة ونزل من فوق جواده أمام الدرج
ولكنه كان يحمل نبأ إلى والدي. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟ لا تقولي شيئاً، أصغي. . . حينما رأيته. . . شعرت كأنني أسرت، فقد كان جميلاً، فاتن الجمال. . . وظللت واقفة في ناحية من الصالون طوال الوقت الذي كان يتكلم فيه
وزارنا مرات عدة، فكنت أحدق فيه، بكل عيني. . . من كل قلبي. . . فلقد كنت أكبر من سني!
وعاد بعد ذلك كثيراً. . . ولم أكن أفكر إلا فيه. . . وكنت أقول في صوت خافت:
هذي. . . هذي دي سامبير. . . وبعد فقد قيل إنه سيتزوج منك. . . فأصابني ألم. . .
أواه!
لشد ما تألمت. . . لشد ما تألمت!
وظللت ثلاث ليال متتاليات دون أن يزورني الكرى، وشرع يزورنا كل يوم، وبعد الظهر. . . بعد أن يتناول طبعاً الغداء. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟ لا تقولي شيئاً. . . أصغي. . . كنت تعدين له (الفطير) الذي كان يحبه كثيراً من الدقيق. . . أواه. . . إنني لأعرف تماماً، كيف كنت تقومين بذلك!
وبعد أن كان يرشف قدحاً من الخمر. . . يقول: كم هو شهي! وإنك لتذكرين كيف كان يقول ذلك. . . لقد غدوت حقودة. . . حقودة. . . وكان يوم زواجكما. . . يقترب حتى لم يبق عليه إلا خمسة عشر يوماً. . . غدوت مجنونة. . . فكنت أقول فيما بيني وبين نفسي
سوف لا يتزوج من سوزان. . . كلا، لا أريد ذلك. . . إنه سيتزوج مني حينما أكبر. إنني لم أجد أبداً من أحبه هذا الحب. . . ولكن. . . ذات مساء قبل عقد زواجكما بعشر أيام كنت تسيرين معه. . . في ضوء القمر. . . هناك تحت شجرة السرو. . . شجرة السرو السامقة. . . ضمك. . . ضمك. . . بين ذراعيه طويلاً. . . إنك لتذكرين. . . أليس كذلك؟. . . وكان ذلك محتملاً أول مرة. . .
لأنني رأيتك شاحبة الوجه حينما عدت إلى الصالون. . . ولقد استطعت أن أرى كل شيء، ذلك لأنني كنت واقفة هناك على الرصيف، فتملكني الغضب. . . حتى لو كان في استطاعتي آنئذ أن أقتلكما. . . لما ترددت في ذلك. قلت فيما بيني وبين نفسي: سوف لا يتزوج من سوزان أبداً، ولا من أية فتاة أخرى. . . غدوت تعسة. . . وفجأة وجدتني أندفع في طريق الحقد. . . الحقد المروع!
أتعلمين ما الذي فعلته إذن؟. . . أصغي. كنت رأيت البستاني يعد كرات صغيرة ليقتل بها الكلاب الضالة. . . فكان يسحق الزجاج بحجر. . . ثم يضع الزجاج المسحوق في كرة صغيرة من اللحم. . . أخذت من غرفة والدتي زجاجة صغيرة من زجاجات الدواء وجعلت أحطمها
وأخفيت الزجاج في جيبي وهو لا يعدو أن يكون مسحوقاً لامعاً. . . وفي اليوم التالي. . . عند ما قمت كعادتك بعمل (الكعك)، شققتها بسكين ودسست الزجاج فيها. . . وأكل هنري منها ثلاثاً. . . وأكلت أنا واحدة. . . وألقيت بالست الباقية في الغدير. . . ولقد ماتت الأوزتان بعد ذلك بثلاثة أيام. . . إنك لتذكرين ذلك. . . أواه لا تقولي شيئاً. . . أصغي. . . أصغي. . . أنا وحدي التي لم تمت. . . ولكنني كنت دائماً مريضة مدنفة. . . أصغي، لقد مات. . . إنك لتذكرين جيداً. . . إنه ليس في ذلك شيء حتى الآن. . . بل إنه بعد ذلك. . . بعد ذلك بكثير غدت حياتي كلها مفعمة بالشقاء، كفنت أقول فيما بيني وبين نفسي: سوف لا أغادر شقيقتي، سوف أقول لها كل شئ. . . عندما يدهم أحدنا الموت
ولقد كنت أفكر دائماً في تلك اللحظة المرتقبة. تلك اللحظة التي أعترف لك فيها بكل شيء. . .
وهاهي ذي قد حانت! هذا مريع. . . أواه. . . يا شقيقتي الكبرى. . . كنت دائماً أفكر. . . في الصباح وفي المساء، في النهار وفي الليل. . . أنه يجب علي أن أكاشفك بكل شيء. . .
لشد ما تألمت! أنصتي. . الآن يتملكني الخوف. . . خوف مروع، أواه. أخشى أن أراه برهة. . . حينما أموت. . . أتدركين ما أعني؟ أتدركين. . . هاأنذا وقد أشرفت قبلك على الهلاك، أتضرع إليك أن تصفحي عني، لأنني لا أستطيع أن أموت دون أن أتقدم بعفوك إليه. . .
اسأله أيها الأب أن يعفو عني. . أتضرع إليك. . . لا أريد أن أموت قبل ذلك
أخفت سوزان وجهها بين يديها، ولم تأت بحركة، وراحت تفكر في فتاها، وكيف كان من الممكن أن تتعهده بحبها طويلاً، وأية حياة جميلة تلك التي كانت لهما، وومض خياله لحظة في ذهنها ثم لم يلبث أن اختفى في الماضي البعيد. . . مات فتاها وشقيقتها العزيزان. . كم يمزق موتهما قلبها. . . أواه. . . صورته. . . صورته الحبيبة. . . إنها لتحتفظ بها في أعمق نفسها. . . ثم لم يبق شيء من حياتها كلها. . .
وفجأة قام القس، وصاح في صوت جهوري واضح:
يا آنسة سوزان، إن شقيقتك تحتضر
وفتحت سوزان ذراعيها، ووضح وجهها المخضل بالدموع واندفعت إلى شقيقتها وراحت تقبلها بكل قوتها وهي تتمتم. . . إنني أعفو عنك، أعفو عنك يا صغيرتي! درية رستم
معهد التربية بالزمالك