مجلة الرسالة/العدد 550/بركه خان
مجلة الرسالة/العدد 550/بركه خان
أول مسلم من ملوك التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
انقسمت مملكة جنكيز خان بين بنيه الأربعة: جوجي وجقتاي وأوكتاي وتولوي، وذرياتهم. تسلط تولوي أصغر أبنائه على مغولستان الشرقية، فورث ملك أبيه في مملكته الأصيلة.
وكان من أولاده الذي فتحوا إيران والعراق، وأزالوا الخلافة العباسية من بغداد. وتولى أوكتاي على جونغاريا في أواسط آسيا. وماك جغتاي فيما وراء النهر. وحكم بنو جوجي وهو أكبر بني جنكيز في صحراء القفجاق (دشت قبجاق) وما يجاورها.
- 2 -
وكان جنكيز أعطى ابنه الأكبر جوجي الأرض التي شمالي نهر سيحون حيث قامت من قبل مملكة قراختاي، ولكن جوجي سار صوب الغرب فاتحاً ثم خالف على أبيه، ومات في حياة والده، فورث ملكه ابنه الأكبر أوردا
وكان لجوجي أربعة أبناء آخرين: باتو وتوقاتيمور وشيبان ونوغاي، تولوا هم وذرياتهم الملك في شرقي أوربا، صحراء القفجاق وما يتصل بها كما تقدم، وقد دام الملك في شعبة منهم حكمت في القريم حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (1783م). وفي شعبة أخرى ملكت في بخارى وخيوه إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)
وكان أعظمهم شأنا وأوسعهم سلطانا باتو وذريته؛ ودام الملك لهم زهاء قرن ونصف (612 - 760 ق). وكانت دار ملكهم مدينة سراي على نهر إتل (نهر الفلجا)
- 3 -
توفى باتو سنة 653 فخلفه ابنه سرتاق سنة واحدة، ثم تولى بركة (بركاي) عشر سنين بين سنتي 654و664 بركاي حفيد جنكيز وسليل هؤلاء المغول الذي دمروا الحضارة الإسلامية، دخل في أخوة الإسلام، وصار من بناة الحضارة الإسلامية، وحماة علمائها، فلم يعرف بعد باسم بركاي، ولكنه صار (أبا المعالي ناصر الدين بركة خان)، وحالف المسلمي ولاسيما ملوك مصر على ابن عمه هلاكو ليرد عدوانه عن المسلمين، ويكف يده عن تدمير حضارتهم.
كان إسلامه من بركات الشيخ نجم الدين كبرى الصوفي المعروف؛ فقد بث دعاته في الأقطار للدعوة إلى الإسلام. وكان من تلاميذه الشيخ سيف الدين الباخرزي فأرسله إلى بخارى وأرسل سيف الدين أحد تلاميذه إلى بركاي فدعاه إلى الإسلام، وبين له عقائده وشرائعه، فاستجاب له وأسلم، ثم ذهب إلى الشيخ الباخرزي، فأكرمه وأجله وجدد إسلامه ورجع إلى دار ملكه يدعو إلى الإسلام، ويعظم شعائره، ويبر علماءه، فأسلمت زوجه ججك خاتون واتخذت مسجداً من الخيام يحمل معها إن سارت
وكاتب ناصر الدين بركة الخليفة المستعصم وبايعه وأرسل إليه الهدايا. يقول ابن عربشاه وهو عليم بأحوال بركة وأمور مملكته؛ أقام في مدينة سراي دار الملك سنين وتزوج بها وولد له فيها أولاد:
(ولما تشرف بركة خان بخلعة الإسلام، ورفع في أطراف الدشت للدين الحنيفي الأعلام، استدعى العلماء من الأطراف والمشايخ من الآفاق والأكنان، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، ويبصروهم بطريق توحيدهم ويقينهم. وبذل على ذلك الرغبات، وأفاض على الوافدين منهم بحار الهبات، وأقام حرمة العلم والعلماء، وعظم شعائر الله وشعائر الأنبياء. وكان عنده في ذلك الزمان وعند أوزبك خان بعده وجاني بك خان، مولانا قطب الدين العلامة الرازي، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والشيخ جلال الدين شارح الحاجبية، وغيرهم من الفضلاء الحنفية والشافعية، ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي ومولانا أحمد الخجندي رحمهم الله تعالى. فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات، مجمع العلم ومعدن السعادات، واجتمع فيها من العلماء والفضلاء، والأدباء والظرفاء، ومن كل صاحب فضيلة، وخصلة نبيلة جميلة ما لم يجتمع في سواها، ولا في جامع مصر ولا قراها)
ويقول ابن بطوطة عن مدينة سراي: (وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية. وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً.)
أسلم بركة فشملته أخوة الإسلام الجامعة، وهدته سننه الرشيدة، وتبنته الحضارة العظيمة التي اجتمعت عليها عقول المسلمين وأيديهم منذ قرون. وتقطعت الأسباب بينه وبين قرابته من المغول، وانفصمت بينه وبينهم الأواصر، ووقعت العدواة بينه وبين ابن عمه هلاكو، وثارت الحرب بينهما. فأمر بركة جنده الذين كانوا في جيوش ابن عمه أن يخذلوه ويرجعوا فإن لم يستطيعوا فليتوجهوا تلقاء الشام ومصر ليعينوا الملك الظاهر بيبرس على هلاكو. فانظر إلى أمراء المغول الذين شاركوا في تدمير البلاد الإسلامية، وقاتلوا المصريين في عين جالوت وغيرها، يقودهم الإسلام إلى مصر نجدة للمسلمين على حرب هلاكو وأشياعه
بلغ أمراء بركة دمشق في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ستين وستمائة، وهم زهاء مائة معهم نساؤهم وأولادهم، وأخبروا بانتصار بركة على هلاكو فشاعت البشرى في الشام ومصر، وسر الملك الظاهر بقدومهم، وكتب إلى نوابه في الشام فأكرموا وفادتهم وأرسل إليهم الأقوات والخلع. ثم ساروا إلى مصر، فبلغوا القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة، وخرج السلطان للقائهم يوم السبت، وخرج أهل القاهرة والفسطاط لرؤيتهم، واحتفوا بهم حفاوة عظيمة، وانزلوا في دور بنيت لهم في اللوق، وأرسل إليهم السلطان الأموال والخيل والخلع ولعب معهم الكرة وأمر أكابرهم على مائة فارس. وأسلموا وحسن إسلامهم. ولما بلغ التتار ما نال هؤلاء من الكرامة في مصر وفدوا جماعة بعد أخرى. وقدم البريد من حلب في ذي القعدة سنة إحدى وستين بأن جماعة من التتار يزيد عددهم على الألف ومعهم ثلاثمائة فارس من المغل قادمون إلى مصر؛ فأمر السلطان بالحفاوة بهم، ثم استقبلهم حين قدموا كما استقبل إخوانهم من قبل ولحقت بهؤلاء جماعات أخر
وتوالت الرسائل بين الملك الظاهر بييرس وبين الملك بركة خان وحرضه الظاهر على جهاد هلاكو ومحاربة التتار ولو كانوا أهله (فأن النبي ﷺ قاتل عشيرته الأقربين وجاهد قريشاً، وليس الإسلام قولاً باللسان، والجهاد أحد ما له من الأركان)
كذلك سبق بنو باتر إلى الإسلام وشرع الدين الحنيف يفتح قلوب التتار، ويدخلهم في اخوته وينظمهم في جماعته ويطبعهم بحضارته. وهزم بالدعوة الظافرين بالسيف، وغلب في السلم الغالبين في الحرب، ولم تستعص قسوة التتار على هدى الإسلام ولا كبرياؤهم على عزته، ولا عداوتهم على مودته، ولا إفسادهم على إصلاحه، ولا تخريبهم على تعميره. وإنها لآية من آيات هذا الدين، وحجة على من زعم أن الناس دخلوا في الإسلام كارهين (للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام