انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 55/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 55/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1934



تطور فكرة النظام الشمسي عند اليونان

بقلم فرح رفيدى

. . . هذه أول مقالة من عدة مقالات في تطوير فكرة النظام الشمسي عند اليونان وعند الكنيسة في العصور الوسطى، وعند العرب، ثم الانقلاب الأخير الذي حدث على عهد كويرنيكس وجاليليو.

وقفت في مساء ليلة من ليالي الصيف متأملاً انحدار الشمس إلى المغرب انحداراً بطيئاً، وكان الشفق بألوانه ممتعاً للأنظار، محركا للنفوس. لكني لم أبال بجمال المنظر أكثر من أن الشمس ستتوارى عني وراء الجبال بضع دقائق

وأجهدت نفسي في تلك الآونة لأرى الشمس واقفة وأشعر نفسي متحركاً مع الأرض، لكن جهدي ذهب عبثاً، إذ مازلت أرى الشمس تهوي مسرعة لتختفي عن ناظري، والشفق يزداد احمراراً كلما دنت من المغيب. فبالرغم عني لم أرها إلا متحركة وبالرغم عن كل شيء لم نلاحظ الشمس تقف ثانية واحدة في مجراها اليومي، فهي أبداً في كل يوم نشاهدها صباحاً في المشرق، ترتقي رويداً في هذه القبة الزرقاء، إلى أن تصل أوجها في منتصف النهار، ثم تأخذ في الانحدار والاختفاء وراء الأفق الغربي، فتضئ هناك ما كان مظلماً، وتبقى خلفها الظلمة ترتقبها النجوم بأعين ساحرة متلألئة.

وقد نشاهد القمر أحياناً يظهر بعد اختفاء الشمس، فيسلك مسلكها، ويتبع خطاها واحدة واحدة، إلى أن يتدرج في انحداره وراء الجبال أو وراء البحار. ففي أثناء هذه الدورة العظيمة من الشمس، أو هذا الانقلاب الخطير المتعاقب من ليل ونهار، من بفكر أو يشعر أنه دائر حول محور الأرض بسرعة تقرب من الألف ميل في الساعة، وأنه في اثنتي عشرة ساعة ينقلب أسفله إلى أعلاه وأعلاه إلى أسفله؟ وكيف يكون هذا الدوران السريع ولا نرى البنايات تتهدم، والأشجار تتساقط، والمياه تتطاير في الفضاء والناس تقع وتقوم؟. إن هذا الدوران حركة عنيفة قادرة على تفتيت الأرض وهدمها. فبما أن كل هذه الأشياء لا تحدث، فالأرض إذن ثابتة لا تتحرك في وسط هذه القبة المستديرة. نعم ذلك ما اعتقده اليونان الأقدمون وجاهر به بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد. فثبات الأرض في مركزها كان النقطة الأساسية في النظام اليوناني القديم.

لنقف الآن قليلاً، ولنتصور أنفسنا في يوم 22 يوليو عند ما يكون النهار على أطوله، والشمس مشرقة تماماً على الخط المار بين الغرب والشرق منا. لندع الشمس تدر حول الأرض كعادتها ونحن نرقبها كل يوم من مسقطها ونعين موضعها بين الجبال أو ان شئنا بين النجوم، فبعد أيام نرى أن الخط المار بنا وبها قد بدأ في الانحراف قليلاً عن خط الشرق والغرب، ولا يزال الخط في الانحراف ولا تزال الشمس متنقلة بين النجوم إلى أن يأتي الخريف بعد الصيف الحار، ويقترب الشتاء ببرده القارس، ويأتي يوم 22 ديسمبر حيثما يكون النهار على أقصره، فبلغ الخط منتهى انحرافه، وبدأ بالرجوع إلى مكانه الأول. ثم لحق الربيع الشتاء، وما كاد يطرب بنضارته وجماله الشعراء حتى يباغته الصيف بحره وجفافه، ويأتي يوم 22 يوليو حيث يرجع الخط لمكانه الأول. وذلك بعد أن أنهت الشمس مسيرها بين النجوم. لأن ذلك كان ما اعتقده أرسطو وبطليموس في النظام الكوني وعللاه بقولهما: إنه لو كانت حركة الشمس هذه ظاهرية فقط ومسببة عن حركة في الأرض في جهة معكوسة، لكنا رأينا النجوم أيضاً تسير بهذه الحركة الظاهرية مع الشمس، وبما أنا لا نلاحظ أي انتقال أو تغيير في النجوم فالأرض إذن ثابتة لا محالة، وأي تغيير قد يحدث في بعض هذه اللوامع في الليل فانه راجع إلى الأجرام نفسها لا إلى حركة الأرض أو دورانها. وهذا التعبير الذي أذاعه المعلم الأول أرسطو تعبير منطقي يسلم به العقل، ولذلك ظل معتقداً راسخاً في قلوب الناس قروناً عديدة

أول ما يلاحظ الناظر في الليل إلى السماء هو الاختلاف البيّن في لمعان النجوم، فاستدل اليونان من ذلك على أن النجوم الأشد لمعاناً هي أقرب إلى الأرض من غيرها، وقد وجدوا أن من غريب أمر بعض هذه النجوم، أنها تنتقل من مكان إلى أخر، لذلك سميت بالنجوم السيارة فبثوا العيون وراءها ترصدها أينما حلت، واعتقد أرسطو أن هذه النجوم السيارة إن هي إلا أجسام طبيعية تدفعها إلى الحركة أرواح حالة فيها. وبما أن الأرواح تسير بقوة الإله الأكبر، والكاهن هو الواسطة بين الله والإنسان، فالكاهن إذن عالم بأمر هذه النجوم. فادعى الكاهن هذه المعرفة فأخذ يدرس حركاتها، فلما لم يعلم بسر حركتها ظن أن الروح تحركها، ولما رآها تسير بنظام لا يدركه قال هي تسير بلا نظام، وأن بعضها يسلك على حسب حظ الواحد وسعده، فمنها ما يتحرك لخير ومنها يتحرك لشرّ. ومن ذلك انتشر الاعتقاد بمعرفة حظوظ الناس من معرفة حركات النجوم، فصار العالم بالأرواح عالماً بالنجوم ومسالكها، وأصبح صاحب الدين في الدنيا وهو صاحب العلم أيضاً، ولم يمكن عند ذلك التمييز بين الاثنين.

عرف اليونان من الكواكب خمسة غير الشمس والقمر.

عرفوا: (1) الزهرة، وهي الكوكب المتألق في السماء عند الصباح أو عند المساء، وقد دعاها الرومان إلهة الحب لجمالها وافتتانهم بها؛ وليس من الغريب أن يقرن نابليون حظه بها، إذ قال لأحد جنوده ذات ليلة: (انظر! هذه نجمتي، ما دامت متألقة فلا شك في نجاحي).

(2) عطارد، رسول الآلهة، يُرى أحياناً في الشفق فقط بعد مغيب الشمس، يلبث قليلاً ثم يتبعها، وهو كالزهرة يرى أيضاً في الصباح.

(3) المريخ، ونراه أحياناً متألقاً، وأخرى ضعيف الإشعاع، أحمر اللون، وهو إله الحرب عند الإغريق.

(4) المشتري، إله الآلهة، وهو كزوس عند اليونان، وثاني الكواكب بشدة لمعانه، فلا عجب إن عرفه الناس من زمن قديم.

(5) زحل، المعروف ببطء حركته بين النجوم الثوابت، عرفه الأقدمون كأبعد سيار عن الأرض.

ليس لنا أن نبين الأبحاث التي قام بها علماء اليونان في علمي الهيئة والنجوم، ولكن المهم الآن أن نعرف بعض من قاموا بتأسيس فكرة النظام الشمسي التي عرفت بالنظام البطليموسي، والتي ما كانت إلا تعديلاً لما اعتقده أرسطو العظيم في هذا الكون العجيب.

في سنة 532 ق. م قام فيتاغورس وأنشأ أخوية دينية كان لها اعتقادها الخاص في كروية الأرض، وكان هو أول من فرض حركة الأرض حول الشمس، لكن أرسطو رفض هذا الفرض لعدم ظهور دواع تؤيده، وكان أيضاً هبارخس أول من أظهر استدارة فلكي الشمس والقمر حول الأرض.

وفي سنة 370 ق. م، أظهر يودكس فكرة الكرات المتراكزة، فبنى على هذه الفكرة من بعده أرسطو ورؤساء الكنيسة في العصور الوسطى.

وفي القرن الرابع قبل الميلاد قام المعلم الأول أرسطو، الذي تلقى على أفلاطون فيلسوف ذلك العصر، وجمع ورتب التعاليم اليونانية بعد أن حللها وناقشها مع تلاميذه، وقاسها بمقياس العقل والمنطق، وعزا الحوادث والتغيرات في النجوم إلى مسبباتها الظاهرة، وخلّف للملأ خلاصة التعاليم اليونانية منقحة بفلسفته المنطقية، فأكبر العالم هذه العظمة فيه، فمال على كتبه ومؤلفاته يدرسها، فوجدها غاية المنطق، وسداد الرأي، وقوة الدليل، فاقتنع وآمن بها إيماناً ذهب بالشك في صحتها من قلبه

لم يكتف أرسطو بأن جعل الأرض ثابتة، بل تصور النظام الكوني كله مؤلفاً من كريات مستديرة الشكل في أحجام مختلفة والواحدة في جوف الأخرى؛ وعلى هذه الكرات جعل الأجرام السماوية تدور حول الأرض.

وقد حسب النجوم الثوابت كلها على أبعاد متساوية من الأرض، لذلك جعلها على سطح كرة واحدة، وقد علل اختلاف الأضواء المنبعثة من بعض السيارات باختلاف بعدها عن الأرض. ولما زادت العناية بمراقبة النجوم، ودقت ملاحظاتهم لها، تبينوا اختلافات كثيرة في حركاتها، لم يقدروا على تعليلها بكرة واحدة، فزادوا عليها كرات، وقالوا إن هذه الحركة الظاهرة ما هي إلا مجموع حركات دائرية على كرات مختلفة، وزاد أرسطو على هذه الكرات اثنتين وعشرين كُرة، كانت سبباً في تعقيد النظام اليوناني بدلاً من تسهيله.

الاسم الأكبر الذي كثيراً ما نصادفه في كتابات اليونان القديمة في علوم الهيئة وبين مؤلفات العصور الوسطى، وفي الكتب العربية المنقولة عن اليونانية هو بطليموس مؤلف كتاب الماجسطي الذي ترجمه إلى العربية الحجاج بن يوسف بن مطر سنة 786م. وكان لهذا الكتاب المقام الأول بعد أرسطو لمدة أربعة عشر قرناً.

عاش بطليموس من سنة 100 إلى سنة 170 ب. م. وكان مولده على أيام الإمبراطور هدريان، وكان مقيماً طول مدته في الإسكندرية، وهو معدود من أشهر رياضي ذلك العصر. وكتابه الماجسطي يحوي كثيراً من العلوم الرياضية والجغرافية عن أبحاثه في علمي الهيئة والنجوم. وقد وافق هبارخس في تراكز الأجرام السماوية ودورانها حول الكرة الأرضية، ونزع فكرة الكرات فكرة أرسطو، وأدخل نظام الدوائر الصغيرة وهو النظام الذي عرف باسمه من بعده، وهو أن الكواكب تدور في دوائر مراكزها تدور في دوائر أكبر منها حول الأرض.

بهذه الفكرة تمكن بطليموس من تعليل حركات الكواكب السيارة في السماء ذهاباً وإياباً، ومن تعليل ثباتها مدة من الزمن عند تغييرها من ذهاب إلى إياب وبالعكس. فقد قال إن حركة الذهاب والإياب مسببة عن كون حركة الكوكب في جهة عمودية لاتجاه خط النظر وثبات الكوكب مسبب عن كون حركة الكوكب في اتجاه واحد مع خط النظر، وذلك كما يلاحظ في حركة اقتراب أو ابتعاد الكوكب عن الأرض، إذ يعجز الإنسان عن إدراك الحركة فيظن صاحبها ثابتاً.

وأما انحراف السيارات عن دائرة البروج أو فلل الشمس فهو ناتج عن ميلان سطوح الدوائر الصغيرة عن سطح الدائرة الكبيرة.

وهذا النظام الكوني نظام بطليموس وهبارخس، وان كان مرتكزاً على جعل الأرض ثابتة بالنسبة إلى عوالم النجوم حولها فان الأرصادات الدقيقة للحركات الظاهرية لم تذهب قط سدى، وهي من الأهمية بمكان في تقدم علم الهيئة الحديث. والحقيقة في فكرة النظام البطليموسي أنها لم تبتدئ مع بطليموس، فأول من عرض هذه الفكرة كان ابولونيوس في القرن الثالث قبل الميلاد، فقبلها هبارخس في القرن الثاني قبل الميلاد، ولما أتى بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، توسع فيها وزاد عليها وشرحها شرحاً وافياً في كتابه الماجسطي، وظلت أساس معتقد الناس والكنيسة في النظام الكوني أربعة عشر قرناً.

فرح رفيدي