انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 549/كتب وشخصيات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 549/كتب وشخصيات

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 01 - 1944



زهرة العمر. . . لتوفيق الحكيم

للأستاذ سيد قطب

مدرسة توفيق الحكيم الفنية

ترددت قبل أن أكتب (مدرسة توفيق الحكيم) فالواقع أن كلمة (مدرسة) تعني في نفسي شيئاً كثيراً؛ وليست هي مجرد الأسلوب الفني وطريقة التعبير؛ إنما هي هذا وشيء آخر، هي طريقة الإحساس والتفكير؛ بل هي طريقة حياة حين تؤخذ بمعناها الواسع الأصيل.

وليس من الضروري أن يكون هناك أتباع وتلاميذ، كي يتحقق معنى (المدرسة)، فتلك مسألة تأتي مع الزمن؛ إنما المهم أن توحد العالم الواضحة المستقلة التي يلتقي عليها التلاميذ والأتباع حين يوجدون في زمن قريب أو بعيد.

هذه المعالم هي سمات إنسانية وفكرية ونفسية تجتمع أصولها لتلاميذ المدرسة الواحدة ثم تفترق ألوانها وأنماطها حسب الأمزجة الخاصة والملكات الفردية. وتتبعها طريقة التعبير، أي الأسلوب الفني الجامع لتلك السمات.

فهل نستطيع بعد هذا البيان أن نقول: إن لتوفيق الحكيم مدرسة؟

نعم نستطيع! ولكننا نحتاج بعدها إلى التحفظات المحددة لحقيقة ما نعنيه. فتوفيق صاحب أسلوب فني واضح السمات - هذا ما لا جدال فيه - وهو كذلك صاحب طريقة في الإحساس والتفكير، ولكن هذه الطريقة ترجع إلى مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي، أكثر مما ترجع الطبيعة العامة وهذا كلام يحتاج إلى التوضيح!

يجنح توفيق الحكيم إلى أن يعيش في داخل نفسه أكثر مما يعيش في خارجها، فلا تهمه الحياة المنطلقة في الخارج كما تهمه الحياة التي يصورها خياله كما يريد، وهنا تولد وتعيش تلك المخلوقات الفنية التي يرسمها على هواه من أمثال شهرزاد وشهريار وبيجماليون وعنان ومختار. . . الخ.

فما منشأ هذا؟ منشؤه هو إشفاق توفيق من الحياة، وضعف الحيوية في كيانه الجسدي. وقد يكون هذا الضعف علة ذلك الإشفاق، ولكن مما لا شك فيه أن هناك أسباباً أخرى في نشأته الأولى، يمكن أن يقف عليها من يقرأ كتابه (عودة الروح)، وإلا فالضعف الجسدي كثيراً ما يكون سبب دفعة حيوية في الفكر، كما في (نيتشة) مثلاً

وليس بنا في هذا المقال القصير أم نقوم بدراسة جسدية ونفسية؛ ولكن حسبنا أن نشير إلى هذه الأسباب لتوضيح ما قلناه من أن طريقة توفيق في الإحساس والتفكير مردها إلى مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي.

فالذين يشبهون هذا الفنان في مزاجه وتكوينه هم الذين سيكونون أتباعه وتلاميذه في هذه الحياة الفكرية الباطنة التي ترسم الشخوص رسماً فنياً خاصاً. ولا بد لكل فنان من قسط من هذه الحياة الباطنة ينقص أو يزيد. ولكن يبقى أن يوهب هؤلاء التلاميذ - كما وهب - أسلوباً قوياً فنياً في التعبير، وأداة فنية ناضجة في الحوار، ليكونوا تلاميذ حقيقيين. وهو سالم يوجد بعد، على الرغم من المقلدين الكثيرين في مصر وفي بلاد الشرق العربي الذين حسبوا الحوار هو كل موهبة توفيق الحكيم، وحسبوا استيحاء الأساطير هو كل ما يميزه بين الفنانين!

نعم إن الطاقة محدودة، وقد يأتي - في هذا المجال - من هو أكبر طاقة وأبعد غوراً من توفيق الحكيم؛ ولكن سيبقى له فضل السبق، وابتداع الطريقة وإكمال الأداة

في هذه الحدود نستطيع أن نقول: إن لتوفيق الحكيم مدرسة؛ ولكننا نعود فنرد إليه حقه كاملاً حين نثبت له النضوج الكامل في أسلوبه الفني عامة والقوة البارعة في حواره على وجه الخصوص. هنا موهبة متفردة لا شك فيها، مهما قيل في الطاقة التي يعمل بها وفي الموضعات والتي يتناولها وبعد فما العنوان الذي يمكن أن نضعه لتلك المدرسة أو لهذه الطريقة؟

هو عنوان (التنسيق الفني)

يقول توفيق الحكيم في إحدى رسائله إلى (أندريه) في كتابه (زهرة العمر)

(إن فن الإغريق هو تجميل الطبيعة إلى حد إشعارها بنقصها. . . لكأنهم يريدون أن يقولوا للطبيعة: انظري. . . كان ينبغي أن تصنعي هكذا!. . .)

ثم يقول: (إن فن مصر القديمة هو تحد صارخ للطبيعة؛ فكأنهم يقولون للطبيعة انظري. . لا شأن لنا بك ولا بمخلوقاتك، إننا نستطيع من مخيلتنا ومن تفكيرنا أن نخرج مخلوقات أخرى غريبة عجيبة لم تخطر لك على بال. . .)

ويخيل إلى أن فن توفيق الحكيم هو تنسيق للطبيعة وتهذيب، بالنقص هنا وبالزيادة هناك، حتى يستوي له خلق فيه من الطبيعة مشابه ولكنه منسق على نحو خاص يرضي مزاجه الفني الذي يجد مجاله في مخلوقات الفن المنسقة على طراز مطلوب. . . وكأنه يقول للطبيعة: إنك في منتصف الطريق، ولا تزالين تخلطين بين الجمال والقبح وبين الرذيلة والفضيلة وبين الفكر والغريزة. . . إلى آخر هذه الأمشاج؛ فدونك مخلوقات أخرى مصفاة على نحو خاص، ذات اتجاه موحد لا اضطراب فيه ولا اختلاط. . .!)

وهذه المخلوقات التوفيقية يتفق لبعضها الجمال الفني فيغنيها عن جمال الحيوية ويضعها أنداداً مقابلة لمخلوقات الطبيعة؛ ويخطئ بعضها التوفيق فتبدو باردة هامدة، ولكنها لا تهبط إلى الموت أو الابتذال

وهنا نجدنا ملزمين بأن نرد لتوفيق حقه مرة أخرى فننص على أن هذا الاتجاه لا يستغرق جميع أعماله؛ فهناك أعمال تنبض بالحياة الطبيعية والحركة الحيوية - على نحو من الأنحاء - كيوميات نائب في الأرياف، ورصاصة في القلب، وعودة الروح، والزمار، والعوالم، وراقصة المعبد، وعصفور من الشرق؛ وهي تؤلف جانباً كبيراً من أعماله الفنية المطبوعة بطابعه الخاص

وفي بعض هذه الأعمال تتهيأ الحبكة الفنية والحركة الحيوية، إلى جانب الدعابة الفكهة والسخرية العميقة. وبخاصة (يوميات نائب في الأرياف والزمار) وفيهما معالم واضحة للفن القومي المنشود!

ثم نعود إلى اصطلاح (التنسيق الفني) الذي جعلناه عنواناً لمدرسة توفيق الحكيم فنقول: إننا نعني به معنى آخر بجانب (تنسيق الشخصيات) نعني به معنى في طريقة العرض، في الأسلوب الذي تعرض به الشخصيات والحوادث والأفكار، فهذه الطريقة موحدة سواء كان المعروض قصة أو تمثيلية أو فكرة في مقالة. ولسنا نعني به ما يعبرون عنه بالحبكة، فهو أوسع من ذلك مدى. إنه (التصميم الهندسي) للعمل الفني كله، بحيث يبدو متساوقاً منسقاً مطرداً، وبحيث يتهيأ هذا العمل الفني كله في ذهن الفنان قبل أن يبدأ اللمسة الأولى، كما يضع المهندس تصميم مشروع كامل من المشروعات، ثم ينفذه بعد ذلك حسب التصميم.

وما قرأت عملاً من أعمال توفيق إلا كان هذا (التصميم الهندسي) واضحاً فيه كل الوضوح

ولعل أوضح ما يوضح ذلك هو (زهرة العمر). فهذا كتاب مكون من مجموعة رسائل إلى صديقه أندريه؛ وليس مطلوباً في (رسائل) متفرقة أن تؤلف موضوعاً متناسقاً. فإذا هي كانت كذلك، كان هذا دليلاً على أصالة ملكة (التنسيق الفني)، وظهورها حيث لا يرتقب منها الظهور

وتقرأ هذه الرسائل في تتابع فتلحظ عملية التنسيق الداخلي، وتحس شيئاً فشيئاً أنك أمام قصة: قصة مخلوق حقيقي أو روائي، يسير في الحياة وكأن يداً خفية تسوقه إلى مصير مرسوم، وكلما أراد لنفسه أو أراد له أهله أو أرادت له ظروفه أن يحيد عن هذا المصير ردته هذه اليد الخفية إلى طريقه المرسوم!

شاب يريد له أهله الوظيفة بعد الليسانس فلا يوفقون، ويبعثون به إلى أوربا للحصول على الدكتوراه، فيجاهد في سبيلها بما يستطيع - بعد أن يغرق في الدراسات الفنية إلى أذنيه -

ولكن تخونه ذاكرته في الامتحان، وتقيض له الحياة متع المرأة الحية جميعاً - مع ساشا الجميلة وسواها - فيمل هذا المتاع ويتعلق بالمرأة الأخرى التي طردته من جنتها بعد أسبوعين وتتركه يتعذب ويتلظى (لأن تعلقه بها جزء في الطريق المرسوم طريق الفن الملعون) ويعود فيوظف وينجح في وظيفته ويأخذ أهله أو يأخذ المجتمع في تكبيله بقيد النجاح العملي ثم بقيد الزواج. . . وهنا يستجمع المؤلف كل قوته الروائية في المشهد الأخير وهو يستعد للوثبة النهائية وللخلاص من جميع القيود؛ فيجمع هذه القيود في مشهد واحد في الرسالة الأخيرة، قيد الوظيفة على أتمه، وقيد الزوجية في إبانه، وقيد المجتمع في احتقار الفنون؛ وفي اللحظة نفسها يبدو كأنه نضج للفن واهتدى إلى سره وأمسك بالأسلوب الذي طال بحثه عنه. . . ثم يسدل الستار بين الهتاف والتصفيق! وبطل القصة أشبه بأبطال الروايات، بل هو أشبه ما يكون (ببجماليون)!

هذا تنسيق يدل على أصالة في فن التنسيق، وهو ظاهره ملحوظة في (زهرة العمر) كل الظهور، وهي كذلك ملحوظة في (يوميات نائب في الأرياف) بمثل هذا الوضوح. وقد اخترت هذين العملين لأنهما ليسا قصة وليسا تمثيلية. فإذا توافر لهما هذا التناسق الكامل، فما أولى القصص والتمثيليات بأن يتوافر لها من أيسر سبيل. وفي (زهرة العمر) رسائل تحوي كل منهما قصة صغيرة كاملة مثل (قصته مع ساشا) يبدو فيها التناسق في أعلى مستواه

ومعنى ثالث نعنيه (بالتنسيق الفني) هو إحالة الحوادث والملاحظات إلى مواد فنية خامة في (الأستوديو) الدائب العمل! فالناس يعيشون الحياة وتوفيق الحكيم يشفق أن يعيشها وينزوي عنها مرتداً إلى نفسه ليحولها إلى عمل فني هناك، وكلما لحظت عينه أو نفسه مشهداً من مشاهدها لم يكن همه أن يستمتع بهذا المشهد وأن يزاوله ويضطرب فيه، ولكن كان همه التقاطه لأنه مادة صالحة (للأستوديو) اللعين! ومرد ذلك إلى مزاجه وتكوينه كما سلف. وكثيراً ما يكون انحراف المزاج مزية للفنان الذي يعرف كيف يحيل كل ما يصادفه إلى مادة فنية. وتوفيق من خذا القبيل. وقصة (ساشا) في (زهرة العمر) من الأمثلة على ما نقول. وغلطة هذا المزاج هي اعتبار الفن مقابلاً للحياة لا متفاعلاً مع الحياة؛ ولكن ليس من الضروري أن توافق توفيق في مزاجه لتستسيغ فنه فقد تخالفه في الرأي والإحساس، ولكنك تجد المتعة في الأثر الناشيء عنهما في الفنون

ثم نلخص إلى الحديث الخاص عن (زهرة العمر) فما قيمة هذا العمل الأخير؟ إن هذا الكتاب يستمد قيمته التي ترفعه إلى مستوى أحسن أعمال توفيق الحكيم من ثلاثة أصول

من اللهجة الإنسانية الأليفة التي صيغت بها معظم الرسائل من الألم والشك والجهاد والقلق والاضطراب والتذبذب المستمر بين الحالات النفسية المختلفة. . . هذه اللهجة التي تعقد أواصر الصداقة بين المؤلف وبين القارئ، وتشعرهما معاً أن بينهما صلة إنسانية، وأن الإنسان ضعيف أمام القوى الخفية التي تسيطر على أقدار الناس وخطواتهم في هذا الكون الكبير!

ومن (التنسيق الفني) الذي يجعل من هذه الرسائل الواقعية وحدة مطردة في سياق روائي، والواقع حين يكتسب التنسيق الروائي تجتمع له بساطة الصدق وجمال الفن، وهذا واضح في (زهرة العمر) لمن يقرؤه متنبهاً إلى التنسيق الفني الخفي الملحوظ!

ومن البيان الحي لمرحلة التكوين الفني الصحيح، حتى ليصح أن يطلق على الكتاب (سفر التكوين). فالطريق إلى النضوج الفني طويل، ووعر، ومليء بالأشواك، والفن عسير، والذي يثبت إلى النهاية هو الذي يحق له أن يتطلع إلى النجاح بعد الجهد الجهيد. . . هذه خلاصة ما يشير إليه المؤلف في (زهرة العمر) وبدلاً من أن يلقيه نصائح وعظات، عرضه مصوراً في حياة إنسانية، فكان أقرب إلى النفوس

وإذا اجتمعت هذه المزايا الثلاث لعمل أدبي كانت حسبه ليعد عملاً فنياً ذا قيمة. ولكنها لا تجتمع وحدها في هذا الكتاب، فهناك الومضات الفكرية والإشعاعات الشاعرية التي لا بد منها لكل عمل حتى تسلكه في عالم الفنون

وعيب هذه المقالات المحدودة المجال أنها لا تتسع للنموذج والمثال، فليعد القارئ إلى أعمال توفيق الحكيم وبيده هذا المفتاح الذي قصرنا عليه المقال!

(حلوان)

سيد قطب