انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 546/عيد اللغة العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 546/عيد اللغة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1943


للدكتور زكي مبارك

اخترت هذا الموضوع لأنبه إلى حقائق أدبية ولغوية واجتماعية أرى في التنبيه إليها فائدة تنفع الأمم العربية أجزل النفع، لأنها تزيد في ثقتها بوجودها الأدبي، ولأنها تنير الطريق أمام المهتمين بالوحدة العربية، وهي فكرة يمكن تحقيقها بسهولة، إن تعاونا على رفع ما يعترضها من العقبات والأشواك

ولأجل أن يتضح موضوع هذا الحديث أرجو أن تتذكروا ما كنا عليه قبل أعوام قصار لا طوال، فقد كان في كل قطر عربي جماعة يدعون إلى إيثار اللهجة العامية المحلية في الخطابة والكتابة والتأليف، ومع أن هذه الدعوة واهية الأساس فقد كانت تجد سبلاً إلى بعض الأسماع والأذهان، وكان العقلاء يخشون أن تنخدع بها الجماهير هنا أو هناك

والدعوة إلى اللهجة المحلية دعوة سهلة القبول، لأنها تبشر سامعيها بالإعفاء من تكاليف الفصاحة العربية، وهي تكاليف لا يقوى على حملها غير الأقوياء من أهل البيان

كانت هذه الدعوة تجد من يسمع وتجد من يجيب، ثم خفت صوتها بعد أن جلجل وصلصل عدداً من السنين، فما الذي أسكت ذلك الصوت؟

يرجع السبب إلى النهضة الأدبية الحديثة التي ظهرت طلائعها في الديار المصرية والسورية واللبنانية والعراقية، ولم يكن لهذه النهضة غنى عن لغة قوية تستطيع التعبير عن الدقائق والجلائل من المعاني والأغراض

عند ذلك انهزمت اللغة العامية، لأنها لغة العوام، والعوام لا يحتاجون إلى لغة غنية، لأن مطالبهم في التعبير لا تزيد عما تحتاج إليه الحياة اليومية في المنازل والأسواق

ومما يثير الضحك أن الذين دعوا إلى اللغة العامية لم يشرحوا قضيتهم إلا باللغة الفصيحة، وهذا شاهد ناطق بأن العامية أضيق وأعجز وأفقر من أن تعين أنصارها على التعبير عن أغراضهم بإسهاب وإطناب

اقترحت مرة أن يصدر قرار وزاري يجعل اللغة العامية لغة المصريين، لنرجع جميعاً إلى اللغة الفصيحة بعد أسبوع أو أسابيع ولكن كيف؟

كنت أنتظر أن يفكر كل كاتب وكل شاعر وكل خطيب في تجميل لغته العامية، ليتفوق على النظراء، وليمتاز بالأناقة في البيان، ولا يتم له ذلك إلا إذا استعان بذخائر اللغة الفصيحة، وقد تحمله الرغبة في التفوق على أن يعود طائعاً مختاراً إلى اللغة التي مجدتها الأمم العربية في عشرات الأجيال، وبذلك ينهزم دعاة العامية إلى آخر الزمان

وما الذي منع دعاة العامية من أن يجعلوها لغتهم في الشعر والكتابة والخطابة والتأليف؟

هل صدر قرار يحرم عليهم أن يكونوا عاميين؟

هل حاربتهم الحكومة؟ هل حاربتهم الأمة؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما أوحت إليهم عقولهم وأذواقهم أن يسموا بأنفسهم عن الابتذال، واللغة العامية كالثوب الذي نلبسه في البيت، ونحن نعرف أننا لا نتأنق في الملبس بين جدران البيوت

إن اللغة سلاح من الأسلحة، وهي في يد الخطيب كالسيف في يد المحارب، ولا يجوز للعاقل أن يدخل الميدان وفي يده سيف مفلول

نحن لم نهزم دعاة اللغة العامية بالقوة، وإنما انهزموا بأنفسهم لأنهم خاضوا غمار المعركة بغير قلب، ولا عزم لمحارب لا يؤازره القلب.

وهل انهزم دعاة اللغة العامية حين حرصوا على التسلح باللغة الفصيحة؟

إن مكرهم أغرب من مكر الشياطين، فقد رأوا أن يسابقونا الإفصاح، وأن يحاولوا نزع راية الفصاحة من أيدينا ليتفردوا بغنيمة المجد الأدبي، فلنكن أول جيش يسلم وهو فرح جذلان

لقد أراد خصومنا أن يرفعوا أنفسهم فيكونوا خلفاء لأكابر المفصحين، لا خلفاء لعوام المتحدثين في الشوارع والقهوات والبيوت

أقول هذا وأنا أعترف بلغة الشارع والقهوة والبيت، لأنها أماكن يجوز فيها التحلل من التأنق، والتأنق حلية بيانية لا نفكر فيها إلا حين نقف موقف المحاربين بلسان البيان

اللغة العامية هي ثوب البيت عند رفع التكليف، ومن هنا جاز أن تكون لكل أمة لغتان: لغة عامية ولغة فصيحة. وهذه قضية لا تحتاج إلى براهين ولا محامين

وأين خصومنا في هذه القضية؟ أين؟ أين؟

للنوابغ منهم أغراض أدبية واجتماعية، فهم يحاولون أن يصلوا إلى أسماع العرب في المشرق والمغرب، وهذا لا يتيسر بغير الأسلوب الفصيح، لأن الأسلوب العامي يعجز عن تخطي الحدود

ولم يبق إلا الجهالة من دعاة اللغة العامية، وهم أطفال يهمهم أن يتحذلقوا بمضغ الحديث عن فكرة نبتت على شواطئ الجهل، كما تنبت البقلة الحمقاء على مدارج الغدران

نحن في هذه القضية بين صورتين اثنتين: صورة العواطف وصورة المنافع، فما موقف خصومنا من هاتين الصورتين؟

إن فرضنا أنهم لا يبالون ما صنع آباؤهم وأجدادهم في إعزاز اللغة الفصيحة إعزازاً حماها من الاندحار في عصور كانت كلها ظلمات في ظلمات، فكيف نفرض أنهم لا يبالون منافعهم وهي من الصميم في وجودهم الحيوي؟

أيستطيعون الاستغناء عن الشرق؟

هذا ممكن، إن أرادوا العيش في ظل الخمول، ولكنه مستحيل إن أرادوا الاتصال بالشرق، في الحدود التي توجبها أواصر الأدب ومنافع الاقتصاد

لو انتصرت دعوة خصومنا - ولن تنتصر - لكان من الحتم أن يحتاج المصري إلى مترجم حين يزور فلسطين أو الشام أو لبنان، وقد يحتاج إلى مترجمين حين يزور العراق، لأن الدعوة إلى العامية قد تحيي في العراق عدداً من اللغات

وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقرر أن العصبية المحلية قد تحوج القاهريين إلى مترجمين حين يزورون بلاد الصعيد، بغض النظر عن بلاد النوبة والسودان ودار فور وكردفان!

يجب حتماً أن نترك هذا السخف الممقوت، سخف الدعوة إلى اللغة العامية، لأنه من شواهد الانحطاط، ونحن في طريق الاستعلاء

ويجب أيضاً أن نقتدي بما تصنع الأمم القوية، وهي تفكر في توحيد اللغة قبل أن تفكر في توحيد الأقاليم، لأن وحدة اللغة هي حجر الأساس في بناء القومية

يجب أن تكون للعرب والمسلمين لغة واحدة في المشارق والمغارب، لغة يتلاقون عندها كما يتلاقون في جبل عرفات، وكما يتلاقون في توحيد الله عند الصلوات

فإن لم يفعلوا - وسيفعلون - فستضيع جهودهم في الدعوة إلى الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، ولن يضيعوا أبداً، لأنهم أعقل من أن يتعرضوا إلى مخاطر الضياع لقد استقر الرأي في البيئات الفنية المصرية على أن من حق لغة المسرح والسينما أن تتحرر من القيود التي تثقل اللغة الفصيحة مادام موضوع القصة المسرحية أو السينمائية موضوعاً خاصاً بالمجتمع المصري الحديث، وتلطف الفنانون المصريون مع اللغة الفصيحة فجعلوها لغة الروايات المنتزعة من حوادث التاريخ

فما الذي وقع بعد ذلك؟

رأينا أولئك الفنانين يقبلون على اللغة الفصيحة في المواقف التي تحتاج إلى روعة البيان، وهذا ما يصنع الفنان يوسف وهبي وما يصنع زملاؤه من المؤلفين المسرحيين والسينمائيين

وأنتم في غنى عمن يدلكم على تلك المواقف، فما خلت رواية مسرحية أو سينمائية من مشاهد لا يستطيع الممثل أن يؤدي فيها واجبه الفني بغير الأسلوب الفصيح

كانت (الفرقة المصرية) تلتزم اللغة الفصيحة، وقد نجحت كل النجاح، ولكن ناساً قالوا إنها عجزت عن غزو الأوساط الشعبية، واقترحوا أن تتحرر من قيود الإفصاح

وقد غير نظام تلك الفرقة إجابة لصراخ الصارخين من عوام الناس، وألقى الأستاذ محمد بك صلاح الدين خطبة قرر فيها أن المسرح ليس مدرسة لتعليم اللغة الفصيحة، وأنه لا بأس من أن يجري الحوار باللغة التي يتكلم بها الناس فيما يتصل بموضوع المسرحية

ولكن الأقدار قضت بغير ما قضى به هذا الرجل الأريب، فقد بدأت الفرقة موسمها في هذه السنة بمسرحية شعرية، هي قصة قيس ولبنى، وأقبلت الجماهير على شهود هذه القصة أكثر من عشرين ليلة، مع أن المفهوم أن الشعر الفصيح أصعب من النثر الفصيح

فما تفسير هذه الظاهرة الأدبية؟

تفسيرها سهل، فالجمهور المصري يؤمن بأن اللغة الفصيحة هي لغته الأصيلة في المواقف الجدية، بدليل أنه لا يتصور صحة صلاة الجمعة إذا ألقى الخطيب خطبة الجمعة باللغة العامية

ومن أغرب ما يقع في هذا العصر أن يجهل بعض رجال الآداب والفنون روح الشعب المصري، فهم يتوهمون أنه شعب يستريح إلى المطالب الهينة، ويثقل عليه الجد الصريح

وبسبب هذا الفهم المنحرف ضاعت جهود ذلك من الأدباء والفنانين أتحداكم أن تقيموا مباراة في حديقة الأزبكية بين شخصين أحدهما خطيب فصيح، وثانيهما مهرج ظريف

إن أجبتم دعوتي فسترون أن الجمهور يقبل على الفصاحة وينصرف عن التهريج

كان في عصر شوقي وحافظ ألف زجال وزجال، فإلى من استمع الشعب المصري؟ استمع إلى الزجالين وتصام عن شوقي وحافظ!

اتقوا الله في وطنكم يا دعاة العامية بهذه البلاد، فإن لم تتقوا الله في وطنكم فاتقوه في أنفسكم، قبل أن تحل عليكم عواقب الإهمال

وما أقوله عن المصريين أقوله عن إخوانهم في سائر الأقطار العربية، وهي أقطار تنتظر من يسمو بها إلى أرفع منازل البيان

لقد جدت بنا الأيام، والأيام لا تعرف الهزل، فلينصرف الهازلون عن إفكهم المرذول، إن كانوا يعقلون

اللغة الفصيحة هي لغة العرب في هذا العهد وفيما يليه من العهود، فليعرف من لم يكن يعرف أن اللغة العامية لغة العوام لا لغة الخواص، وأن العرب قد برئت عيونهم من غشاوة الإسفاف والابتذال

أنا أدعوكم إلى الاحتفال بعيد اللغة العربية، فقد انتصرت على أبنائها، لا على أعدائها؟ فما كان للغة العربية أعداء غير أولئك الأبناء

في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا إذاعات عربية لا تعرف غير اللغة الفصيحة، لأنها تريد أن تخاطب العرب بلغتهم الدولية لا المحلية، واللغة الفصيحة هي لغة العرب الدولية، كما يفهم الأوربيون والأمريكيون، وهم أهل الخبرة بطبائع النفوس في هذا الجيل

اسمعوا صوت الزمن، إن لم تسمعوا صوت الحق، واحتفلوا معي بعيد اللغة العربية في عيد القمر، وهو عيد التضحية، وعيد الوفاء.

زكي مبارك