انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 545/مسابقة الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 545/مسابقة الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1943


ديوان علم الدين المحيوي

للدكتور زكي مبارك

غرائب التاريخ الأدبي

إن تاريخ اللغة العربية أعجب من العجب، فقد مر بها عهد قدرت فيه على أن تغزو قلوباً من الجفاء بمكان. ونستطيع أن نحكم بأنه لم يتفق لأية لغة من اللغات الغنية أن تجتذب الغرباء كما اتفق ذلك للغة العربية. وصحة هذا الحكم في غاية من الوضوح والجلاء. فالإنجليز مثلاً سيطروا على كثير من بقاع الأرض، ومع هذا لم يتيسر النبوغ في الأدب الإنجليزي في البيئات الأجنبية لغير آحاد. وكذلك يقال في الأدب الفرنسي، فالنبوغ فيه مقصور على أهله، ولم ينبغ فيه من الأجانب غير أفراد

وقد قلت مرة إن الفرنسيين لا يعترفون بالأدب البلجيكي ولا يعدونه من الأدب الفرنسي إلا بتحفظ، مع أن البلجيك يتكلمون بلغة الفرنسيس منذ أجيال

فما هي الأسباب التي جعلت لغة العرب لغة محبوبة يتسابق إليها الأجانب؟ وكيف أمكن أن تكون الكثرة من أدباء اللغة العربية ترجع إلى أرومات عربية؟

السبب الظاهر هو الإسلام، وهو دين لا يعترف بالعصبية القومية، ولا يقيم لها أي ميزان، فمن حق المسلم في أي أرض أن يقول إنه من ورثة الرسول، ومن حقه أن يتسامى إلى المنازل العالية ما دام يعتصم بمبادئ الدين الحنيف

ولكني أعتقد أن هذا السبب الظاهر تؤيده أسباب خفية موصولة بروح اللغة العربية، فهي لغة خلقت للحياة ولم تخلق للموت، بدليل أنها لم تنهزم بانهزام الإمبراطورية الإسلامية، وهي إمبراطورية لم تسيطر على العالم سيطرة حقيقية أكثر من قرنين اثنين، فلو كانت اللغة العربية لم تعش إلا بحراسة الإمبراطورية لوجب أن تزول، ولكنها لم تزل، ولن تزول

للغة العربية خصائص ذاتية تستحق الدرس، فمتى ندرس تلك الخصائص؟ ومتى نعرف بالبراهين القواطع كيف استطاعت الانتصار على الموت، مع أنها تعرضت ألوف المرات للموت؟

هذه قضية تستحق الدرس، فمتى تدرس؟ ومتى تفهم أن هنالك أسراراً لحيوية اللغة العربية غير الأسرار التي تحدث عنها الأسلاف؟

فخر الترك

أكتب هذا بعد ساعات قضيتها مع فخر الترك، وهو علم الدين أيدمر المحيوي، أحد شعراء مصر في القرن السابع، وهو تركي الأصل بإجماع من تحدثوا عن شعره البليغ، وهم الذين سموه (فخر الترك) لأنه في نظرهم أشعر من عرفوا من الأتراك في ذلك الزمان

وقد سكت التاريخ الأدبي عن هذا الشاعر فلم يذكره إلا في مناسبات قليلة جداً، ولولا عناية (دار الكتب المصرية) بطبع المختار من شعره لظل من المجاهيل

وهل التفت أحد إلى هذا الشاعر بعد أن نشرت مختارات أشعاره في سنة 1931؟

الذنب يقع على رأس دار الكتب المصرية، فقد غلت في ثمن تلك المختارات فجعلته ثلاثة قروش، وبثلاثة قروش نشتري علبة سجائر، وهي أنفع من أي ديوان!

مؤلف مجهول

تعب الأستاذ أحمد نسيم رحمه الله في البحث عن ترجمة وافية لعلم الدين المحيوي، ثم انتهى إلى أنه شاعر نبغ في منتصف القرن السابع، وقرر أن ديوانه ضاع، ولم يبق غير مختارات دونها أحد الأدباء المجهولين

وأقول إن في هذه المختارات قطعة تشهد بأن المحيوي كان شغل نفسه بالتأليف، على نحو ما كان يؤلف عشاق الأدب في العصور الخوالي، فأين الكتاب الذي ألفه هذا الشاعر البليغ؟

لم يقل أحد إن المحيوي كان مؤلفاً، ولم يلتفت قارئو ديوانه إلى أنه كان من المؤلفين، وأنا قد التفت إلى هذه الناحية عن غير قصد، حين رأيته يقول في إهداء مجموع له إلى الصاحب محيي الدين محمد بن سعيد:

العبد أيدَُمرُّ تْطلَّب تُحفةً ... تُكسَى القبول لسيد الأصحاب

فرأى أجل هدية تُهدَى له ... ذَوْبَ النُّهى ونتائج الألباب

فأجال في روض القرائح فكره ... ثم انتقى منه لُباب لباب من طيب نادرة ولطف فكاهة ... وبديع بادرة وحسن خطاب

وسوائر الأمثال قد وشّحتها ... فيه بمعجز سنّةٍ وكتاب

ثم مضى فذكر أن كتابه جمع بين الجد والهزل، وجمع نوادر الحكماء والبلغاء الخطباء الشعراء والكتاب، جمع بين رقة الحضر وجزالة الأعراب. فأين ذلك الكتاب؟

نرجو البحث عن هذا الكنز الدفين

طيف البحتري

عن هذا التركي المستعرب أطياف بخترية، فله قصيدة تضاف إلى ديوان البحتري بدون عناء، لو كان البحتري زار الروضة ورأى المقياس، مقياس النيل

هي قصيدة قافية تقع على نحو مئة بيت، وهي من الشعر الجزل الرصين، وفيها لفتات في غاية من الجمال

الروضة والمقياس

نحن اليوم لا ندرك معنى شعرياً لهاتين الكلمتين، بسبب طغيان القاهرة على الفسطاط، وهل نعرف اليوم أين الفسطاط؟

لقد قضى شعراء مصر مئات من السنين وهم يتحدثون عن الروضة والمقياس، بفضل ما صنعت هاتان البقعتان في إذكاء العواطف، وإيقاد القلوب

كان الحديث عن الروضة والمقياس سنة شعرية. وأنا رحمت البارودي في دراسات السنة الماضية فلم أقل إنه تحدث عن غرامياته بالروضة والمقياس حديثاً هو المحاكاة لما قرأ من قصائد الشعراء القدماء

وأين القاهري الذي يسأل عن الروضة والمقياس، بعد أن انتهت حروب العيون والقلوب حول الروضة والمقياس؟

هل كانت للبارودي غراميات في هاتين البقعتين؟

أنا استبعد ذلك، وأرجح أنه بكى واستبكى فوق أطلال الذكريات الموهومة لقدماء الشعراء

يوم التخليق

كان للمصريين يوم كل عام يسمونه يوم التخليق، والتخليق وضع الخلوق على عمود المقياس، والخلوق هو أنواع من الطيب أشهرها الزعفران

وكان ملوك مصر في العهد الإسلامي يحرصون على أن تكون لهم آثار باقية بجانب الروضة والمقياس، وقد اهتم الملك الصالح نجم الدين أيوب فأقام الأبنية الشامخة في الروضة (وكانت تسمى جزيرة مصر) وجدد البرج القائم على المقياس، وانتهز فرصة الفراغ من هذه الأبنية ليحتفل بها في يوم التخليق

فأين الشاعر الذي يسجل مجد ذلك اليوم المجيد؟

قصيدة وقصائد

من المؤكد أن ذلك اليوم لم تنشد فيه قصيدة واحدة، وإنما أنشدت فيه قصائد، فقد كانت مصر تموج بأفواج من الشعراء

وهذا الحديث لا يتسع لأخبار ذلك المهرجان، فلنكتفي بقصيدة التركي المستعرب، أو العربي المستترك، فما نظن أن له تاريخاً عند الأتراك

هذا الشاعر عربي اللغة، وإن كان تركي العرق، وقد وصف بالعتيق، فهل كان مملوكاً لأحد الأمراء؟

إن تعقبنا هذه القضية فسنزعج التاريخ في مرقده، وسنثير حوله مضجرات لا تطاق

المهم أن نسجل أن الشاعر كان معروفاً بالجمال والظرف، وأنه قهر أحد الوافدين من حلب على أن يقول فيه هذه الأبيات:

وكنت أظن الترك تختص أعين ... لهم إن رنت بالسحر فيها وأجفان

إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان

فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان

وعيون الأتراك لها في الشعر المصري مكان دل عليه ابن النبيه حين قال:

يصدّ بطرفه التركيّ عني ... صدقتم إن ضيق العين بُخلُ

والذين رأوا المحيوي لم يفتهم النص على أنه كان فتى خفيف الظل، ولطيف الروح، ويكفي أنه عاش في عصر البهاء زهير، فتحت يدي نص صريح بأن البهاء كان نهاية النهايات في دمامة الوجه وقبح الخلقة، واضطراب الملامح، ومعنى هذا أن البهاء ستر دمامته بحلاوة اللسان، كما صنع الجاحظ في قديم الزمان! القصيدة اليتيمة

هي قافية المحيوي في تهنئة الملك الصالح بالأبنية التي أقامها في جزيرة الروضة، والبرج الذي جدده حول المقياس. ويحسن أن نذكر قراءنا بأن الملك الصالح بقيت له ذكرى هناك، فأول جسر على النيل في مشارف الفسطاط اسمه (كوبري الملك الصالح) فليترحم عليه من يمر فوق ذلك الجسر في الصباح أو في المساء، وليتذكر كل عابر أن تلك البقعة كانت ملاعب صبابة ومدارج فتون، بأقوى وأعنف مما كانت حومل والدخول

بدأ الشاعر قصيدته بوصف أيام الربيع وصفاً لو ترجم إلى لغة من لغات الغرب لاعترف الغرب بأن وطن الشعر هو الشرق، ولننظر كيف يقول علم الدين:

الروض مقتبِل الشبيبة مونقُ ... خَضِلٌ يكاد غضارة يتدفقُ

نثر الندى فيه لآلئ عِقدهِ ... فالزهر منه متوج ومنطَّق

وارتاع من مرِّ النسيم به ضحَي ... فغدت كمائم زهره تتفتق

وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تُشرق

والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالنعيم ويُغبق

والطير ينطق معربا عن شجوه ... فيكاد يُفهم عنه ذاك المنطق

غِرداً يغني للغصون فتنثني ... طرباً جيوب الظل منه تشقق

والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق

فتملَّ أيام الربيع فإنها ... ريحانة الزمن التي تستنشق

إن الصياغة جيدة إلى أبعد حدود الجودة، بحيث يظن أنها لشاعر من صميم العرب لا من الترك، والمعاني مألوفة، فقد طاف حولها كثير من الشعراء، ولكنها مبتكرة مبتدعة، لأن إحساس الشاعر بها غاية في التوقد، فهو لا ينقل ما قرأ، وإنما يصور ما أحس. وهنا سر الابتكار والابتداع، وهل يمكن الامتراء في أصالة هذا البيت:

والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يُصبح بالنعيم ويُغبق

(والنعيم) هنا هو الخمر، وهي كلمة قليلة الورود في الخمريات، ولكنها لا تعظم على من ينافس أبا نواس فيقول في هذا القصيد:

وسلافة باكرتها في فتية ... من مثلها خلق لهم وتخلق قد عُتِّقتْ حتى تناهت جدَّةً ... وكذاك يصفو التبر حين يحرق

شربت كثافتها الدهور فما تُرى ... في الكأس إلا جذوة تتألق

يسعى بها ساق يهيج به الهوى ... ويُرى سبيل العشق من لا يعشق

تتنادم الألحاظ منه على سنا ... خد تكاد العين فيه تغرق

راق العيون غضارة ونضارة ... فهو الجديد ورق فهو معتَّق

ودنا كما لمع الحسام المنتضى ... ومشى كما اهتز القضيب المورق

لا غرو أن ثملت معاطفه فما ... ينفك في فيه الرحيق يصفق

وأظله من فرعه وجبينه ... ليل تألق فيه صبح مشرق

وكأن مقلته تردِّد لفظة ... لتقولها لكنها لا تنطق

فإذا العيون تجمعت في وجهه ... فاعلم بأن قلوبها تتفرق

وهذا والله من نفيس الكلام، كما يعبر محمد بن داود في كتاب الزهرة، على روحه اللطيف ألف تحية وألف سلام!

كان أبو نواس يشتري المعاني من الشعراء، يشتريها بالدنانير، ويهدد باغتصابها إن رفض البائع، وكانت حجته أنه الباقي وأن من يساومهم إلى فناء

فما الذي كان يصنع أبو نواس لو عاصر المحيوي وقرأ هذه الأبيات في وصف الخمر والتغزل في الساقي؟

كان يقدم أيامه لا دنانيره ليضيف هذه الأبيات إلى أشعاره في الخمريات

هذه أبيات نفيسة جداً، والشرح يفسدها، فنتركها بلا شرح، فهي كمقلة ذلك الساقي، تردد لفظه ولكنها لا تنطق!

ثم ماذا؟ ثم ينطلق الشاعر في مدح الملك الصالح بأسلوب يشتهيه البحتري المتفرد بإجادة المدائح فيقول:

إيهٍ مديحي لا خُطاك قصيرة ... يوم الرهان ولا مجالك ضيق

هذا مقام الُمْلك حيث تقول ما ... تهوى وتطنب كيف شئت فتصدق

في حيث لا شرف الصفات بمعوز ... فيه ولا باب المدائح مغلق

هذا شاعر كان له ملك يتذوق الشعر فأبدع في الغناء، وطاب له أن يقول: فالله نحمد ثم (أيوب) الذي ... أمن الغنيُّ به وأثرى المملق

والشطر الثاني من هذا البيت يصور المجتمع المصري في ذلك الزمان، فقد كانت الغاية أن يأمن الغني سطوات الناهبين، وأن يصل المملق إلى الإثراء

في وصف الأبنية يقول المحيوي:

شيدت أبنية تركت حديثها ... مثلاً يغرِّب ذكره ويشرق

من كل شاهقة تظل تعجباً ... من هول مطلعها الكواكب تشهق

لبس الرخام ملوناً فكأنه ... روض يفوّقه الربيع المغدِق

وَاختال في الذهب الأصيل سقوفه ... فكأنه شفق الأصيل المشرق

يا حسنها والنيل مكتنف بها ... كالسطر مشتملاً عليه المهرق

فكأنها طرف إليه ناظر ... وكأنها جفن عليه محدق

وافاه مصطفقاً عليه موجه ... فكأنما هو للسرور مصفق

وتّجاذبت أيدي الرياح رداءه ... عنه فظل رداؤه يتمزق

وسرى النسيم وراءهن برفقه ... فرفا الذي غدت الرياح تخرق

تلك المنازل، لاَ حديث يفترى ... مما سمعت ولا العراق وِجلّق

ويوم المقياس عند الشاعر هو ثالث العيدين ولكنه عيد لا يذهب الناس فيه إلى المساجد، وإنما يذهبون إلى ملاعب الصبوات

يومٌ تجلَّى الدهر فيه بزينةٍ ... لما غدا المقياس وهو مخلَّق

هو ثالث العيدين إلا أنه ... للهو ليس على العبادةُ يطلَق

جُمعتْ لمشهده خلائقُ غادرت ... فيه رحيب البَرّ وهو مضيّق

وعلى عُباب البحر من سُبّاحهِ ... أممٌ يغضّ بها الفضاء ويَشرقَ

كادت تَبين لهم على صفحاتهِ ... طرق ولكن يفتقون ويرتق

خفت جسومهم لفرط صبابة ... هزت إليك فما خشوا أن يغرقوا

متجردين عن المخيط لأنهم ... حجاج بيتك غير أن لم يحلقوا

طافوا به سبعاً على وجناتهم ... سعياً وأرخا ستره فتعلقوا

ومن هذه الأبيات نعرف أن الاحتفال بوفاء النيل كان يشترك فيه السباحون من فتيان القاهرة وفتيان الفسطاط، ونعرف أن (ثوب البحر) لم يكن معروفاً في تلك العهود، فقد حدثنا الشاعر أن السباحين كانوا يتجردون على المخيط، ومنها أيضاً نعرف أن العاب السباحة في ذلك الوقت لم تكن مقصورة على الفتيان المرد، فقد كان يشترك فيها الكهول، بدليل قوله إنهم لم يكونوا يحلقون، والحلق هنا لا يراد به شعر الرأس وحده، وإنما يشمل حلق الذقون، وكان حلق الذقن مما يعيب الرجال في ذلك الزمان

أما بعد فقد ضاق المجال عن تشريح هذه (القصيدة اليتيمة) فلينظر فيها المتسابقون بتحقق وتدقيق، لأني أرجح أن يسألوا عنها في الامتحان، لأنها أعظم أثر خلفه هذا الشاعر البليغ

ولكن مفهوماً عند المتسابقين أن اللجنة لن تسألهم إلا عن المسائل الأساسية، فمن البعيد أن لا يرد سؤال عن هذا القصيد لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا

زكي مبارك.