انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 54/نقابة للأدباء الشبان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 54/نقابة للأدباء الشبان

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1934



لأديب كبير

أخرج اليوم من معتزلي إذ سمعت ضجة حسبتها ضجة معركة حربية، وتحركت نفسي لمرأى ميدان تلك الضجة، فعز علىَّ أن أرى الصرعى يئنون من الألم وجراحهم تجري بالدماء، وأن أرى العماليق تزأر، وترغي وتزبد، وسيوفها تقطر من دماء ضحاياها؛ وعولت على أن أنزل إلى الميدان لألقى فيه نصيبي من الأذى إذا لم يتح لي أن أنصر ضعيفاً أو أنتصر لمظلوم.

وقد يحسب قارئ أني أهزل في قولي - ولا بأس عليه إذا هو ظن ذلك - فإني لا يضيرني أن يحسب قارئ أني أهزل، ما دام لا يظن فيّ أني أسخر منه أو من سواه، فأني لا أحب أن يظن أحد في أنني اسخر منه، فان السخرية مُرة الطعم، وقد ذقتها فوجدت قبحها فوق كل قبح.

ولكني مع ذلك أرجع إلى نفسي فأقول: إنني لا أخشى من أن يظن أحد فيّ أنني أسخر، فقد طالما سخر كبار الأدباء من قرائهم، ولا يزيد قراؤهم مع ذلك إلا إعجاباً بهم؛ بل إن بعض شيوخ الأدب قد زاد وبرز في ذلك الباب إلى أن قال لقرائه في صراحة عجيبة إنه يسخر منهم، وإنه عالم بأن القراء لا يعجبون بالكاتب الأديب أشد الإعجاب، إلا إذا تفنن في السخرية بهم. فلا بأس عليّ إذن إذا حسب أحد القراء أنني ساخر، فإنني قد أصل بذلك إلى إعجابه وإكباره.

وإني هنا قاصد إلى الأدباء أدعوهم إلى اتباعي والأخذ برأيي، بعد أن شهدت صرعاهم في النضال الأخير مع مشيخة الأدب وكباره. وقد يقول قائل وكيف تجعل نفسك بين الشبان وقد بلغت من السن فوق مبلغ الشبان؟ ولكن ذلك القول لن يثنيني، فأني لا أردع بمثل هذا العنف، وإني لا تزال فيّ بقية من الشباب تكفي لان تبرر مدخلي فيهم وانخراطي في سلكهم. على أن الأديب لا يعد شابا إذا كانت سنه من الشباب، فان الشباب والشيخوخة في الأدب لهما اصطلاح خاص واعتبار موضوع. فالأديب الشاب هو الذي لم يبلغ من الشهرة مبلغاً مذكورا ولو كان قد نيف على الخمسين؛ والأديب الشيخ هو من ضرب اسمه في الخافقين ولو لم يكن ممن بلغوا سن الثلاثين أو الأربعين. وعلى هذا فأنا شاب في عرف الأدباء، لأنني بحمد الله قليل الحظ من ذيوع الاسم، بل أكاد لا أسمع اسمي يذكره ذاكر إلا في أمر من أمور هذه الدنيا البعيدة عن عالم الأدب، ولقد حبب إليّ الخمول والبعد عن الشهرة منذ اقترن ذلك الخمول باسم الشباب، فأني كنت دائماً أحب الشباب واسم الشباب ولو كان مقترناً بالذم؛ وقد كان لي صديق - عفا الله عنه - عرف فيّ ذلك الطبع، وكان يحلو له أن يشتمني؛ ولكنه مع ذلك كان حريصاً على مودتي، فدفعه خبثه إلى أن يجعل سبابه لي مقترناً باسم الشباب، فكان إذا رآني بدرني بقوله: (ما هذا الذي فيك من طيش الشباب؟) وقوله: (إنك تظهر في عملك هذا ضروباً من جهل الشباب) وقوله: (إنك والله ملئ بنزق الشباب). فكنت أقبل الشتم ما دام دفيناً في وصف الشباب المعسول، وبذلك توصل صديقي إلى ما شاء من سبابي، ولم يخش أن يخسر شيئاً من مودتي. ولم أفطن إلى حيلته الخبيثة إلا بعد لأي، ولكنني مع ذلك لم أعاتبه ولم أغضب عليه، بل بقيت راضياً بما ينالني من شتمه لأحظى بوصف الشباب من ورائه. وعلى هذا فلست إلا حفياً بدخولي في زمرة الشبان الأدباء، قانعاً بوجودي بينهم. ومادمت كذلك فإني لابد مذمرهم على الشيوخ، ومعصبهم ومحرضهم. وأول آيات ذلك التعصب أنني أدعوهم اليوم إلى تأليف نقابة لهم، لتكون جامعة لكلمتهم، ورابطة لهم عند الملمات إذا ما فكر الشيوخ مرة أخرى في أن يصبغوا لهم العيون بلون الدماء.

وأي شيء يستنكر في دعوتي هذه إلى تأليف نقابة للأدباء الشبان؟ وهل في ذلك بدعة أو ضلالة؟ إن الأديب الشاب شبيه بالعامل الفقير الذي لم يدخر بعدُ مالاً، ولم يتأثل شيئاً من حطام الدنيا، والشيوخ الأدباء هم الذين ادخروا وتأثلوا. ألسنا نراهم اليوم يقولون للشبان إنكم مدينون لنا بكل شيء؟ أليسوا قد أعلنوا للملأ أنهم الأوصياء على إنتاج الأدب وتوزيعه؟ ومادام هذا هكذا - كما يقول شيخ منهم - فان الأمر لا بدعة فيه ولا ضلالة؛ فقديماً اجتمع ضعفاء العمال لكي يحموا أنفسهم من وقعة أصحاب (رءوس الأموال) بهم، فلما أن فعلوا أظهروا للعالم أن العمل شيء واجب أن يرعى فيه الحق، وأن يتخذ في معاملته العدل. فهلموا إلى العمل أيها الأدباء الشبان.

وإني منذ اليوم أجعل نفسي رداءاً لمن يدخل منكم نقابة الأدباء الناشئين أدفع عنهم عادية الشيوخ، وأوقف دونهم إذا ما سمع أحدهم يزأر أو يزمجر، أو إذا ما رؤى بعضهم يرغي أو يزبد، ولست أقف هذا الموقف لأني آنس في نفسي قوة فوق قوة الشاب أو قدرة على الدفاع لم يؤتها سواي منكم معشر مساكين الأدباء، بل أقف موقفي هذا متدرعا بدرع قلدت فيه بعض شيوخ الأدباء، فقد رأيت أحدهم عفا الله عنه، وزاده بسطة في الأدب، وأمتع به بابي الجد والفكاهة في الكتابة، وحفظ عليه دهاءه وبهاءه - ولا مؤاخذة إذا لم يسعفني الخاطر الكليل بسجعة خير من تلك - أقول رأيت ذلك الصديق القديم قد لجأ إلى حيلة خلقها له عقله القوي، وهي أن يبدأ نزاله وطعانه بأن يتبرأ من كل ما كتب في الماضي وما يكتب في الحال والاستقبال من نثر ونظم، ومن جد وفكاهة. فإذاما وثق من أن الناس انخدعوا بذلك واعتقدوه، أقبل على المسكين أو المساكين الذين اختارهم لطعانه فما زال يخزهم ويضحك، ثم يطعنهم ويضحك وهو يتسلى بما يراه من عنف حركات مساكينه وعلو صراخهم. فإذاما دفع الألم أحدهم إلى الدفاع أو الانتقام وسدد طعنته إلى عضو من أعضائه قال له ثابتاً غير منزعج (ومن أدراك ان هذا العضو يهمني أمره؟ ومن قال لك أني أعبأ بطعنتك لي في هذا الموضع أو ذاك؟) فيصدقه المسكين وتنفجر عيناه بدموع الحنق والعجز ظناً منه أن هذا المنازل متحصن فيما لا مطمع فيه، ثم يرمي بحربته أو سهمه، ويعدل عن انتقامه، وتلك حيلة فطنت لها دون سواي من الأدباء، وستكون لي عدة في نزال الدفاع عن أفراد النقابة إذا ما التأم أمرهم، وتم اجتماعهم، فإذاهم جعلوني نقيبهم جعلت نفسي فداءهم، ولن يصيبني بفضل حيلة صديقي الشيخ أذى ولا ألم، وسأجعل همي أيها الأدباء الشبان إذا ما وفقكم الله إلى اختياري زعيماً لكم أن أقوم فيكم بدعوة أو (دعاية) كما يقول بعضهم تكون لكم فيها بركة إن شاء الله، وذلك أن أنصح لكم أن تقللوا من الاهتمام لما ينالكم من وراء ما تؤلفونه، وأن تقفوا من مؤلفاتكم موقف الناظر (المتفرج) لتروا ما يقول الناس فيها، ولكم الحق في أن تضحكوا ملء أفواهكم من سواكم سخرية إذا رأيتم أنه لم يوفق إلى فهم ما في مؤلفاتكم من جمال أو حقيقة وبذلك تكونون قد وقفتم من ناقدكم على سواة - فإذا لم تستطيعوا ذلك، ورأيتم أن الناقد قد أخذ عليكم مسامع الناس فأساء عندهم ذكركم، فأني أنصح لكم أن تروضوا أنفسكم على فلسفة الأستاذ الذي وصفت لكم حيلته حتى تصلوا بعد حين من رياضتها على تلك الفلسفة إلى مرتبة القدرة على أن تنظروا إلى مؤلفاتكم في شيء من الاحتقار، أليست مؤلفاتكم من صنعكم؟ وإذا لم تكن معجبة ولا باهرة، أليس في طاقتكم أن تخلقوا سواها؟ فإذاكانت باهرة ولكنها قد ظلمها النقاد، أليس في استمراركم على التأليف وإتيانكم بعد الآية الآية الأخرى، وإتحافكم الناس بمؤلف في أثر مؤلف أقوى دليل على حسن استعدادكم، وعلو كعبكم؟

وبعد، فهذه نصيحة أخرى، وهي أن يؤلف من يؤلف منكم لأنه مندفع إلى ذلك بميل في نفسه لا لكي يطلع الناس منه على ما يمدحونه به، فلأديب الصحيح من ألف لنفسه أولاً، ولا تظنوا أنني سأجتزئ من واجبات النقابة بالنصح لكم، بل سأتجه بكم نحو نضال يجعل المشايخ يطلبون عفو الشبان وهم جاثون خاضعون مذعنون، وليس في خطتي شيء عجيب، فإني لن افعل شيئا اكثر مما يفعله نقباء سائر النقابات، فإني إذا ما حزبكم أمر سأدعوكم إلى الاعتصاب والإضراب عن التأليف والكتابة إضرابا تاماً، فيعدل عند ذلك عن الاقتراب من الأقلام كل من يكتب منكم في مجلة أو صحيفة، أو من يؤلف الكتب سواء أكان ممن يكتبون في الجد أم في الفكاهة؛ وإذا ما رأى بعضكم أن ذلك غير ممكن لتغلب شهوة الكتابة عليه مهدنا له السبيل بأن نجعل في دار النقابة مطبعة ونجعل لها صحيفة ونقصر قراءتها على أفراد النقابة أو أعضائها كما يقولون أحياناً، وعند ذلك يجد شيوخ الأدب أنفسهم عدداً ضئيلاً، كما حدث لأشراف رومة من قبلهم منذ قرون، فلا يستطيعون أن يخرجوا جريدة ولا مجلة، ولا يجدون شيئاً ينتقدونه ويظهرون بنقده سيادتهم فتقف دواليب أعمالهم ويعضون البنان أسفاً على إحراجكم واغضابكم، ويلجئهم الحرص على مصلحتهم إلى طلب الصفح وإلى معاملتكم بالعدل والحق. حقاً قد يستريح الجمهور بضعة أيام من القراءة، غير انه قد يستجم في أثناء هذه الأيام قدرته على الاستقلال في التفكير فيكون أقدر على أن يزن أقوال مشايخ الأدباء فيكم وحكمهم عليكم، وعند ذلك لا أتشدد في مطالبي، بل سأقتصر على طلب واحد إلى مشايخ الأدباء، وذلك أنهم إذا شاءوا نقد مؤلف أحدكم فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يذكروا محاسنه ومساويه كما قال أحد قدماء مشايخ الأدب، وأن يعدلوا في الحكم ماداموا يجعلون عنوان كتابهم (نقد كذا) وإما أن يجعلوا عنوان كتابتهم (محاسن كذا) ويكتفوا بذكر محاسنه أو (مساوئ كذا) ويكتفوا بذكر مساوئه، فإذاهم قبلوا ذلك الشرط أبحت لكم العودة إلى معاونتهم ومشاركتهم، وإن هم أبوه مضينا في الإضراب حتى تلجئهم ضرورة الحياة إلى النزول عند العدل.

فهل من مجيب أيها الأدباء الشبان؟

(أديب)