انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 536/منهج البحث الاجتماعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 536/منهج البحث الاجتماعي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1943



للأستاذ إميل دوركايم

يقترن اسم إميل دوركايم بعلم الاجتماع؛ فهو الذي أخرجه في صورته الجديدة التي هو عليها الآن، وجعل منه علماً مستقلاً له منهج مستقل لا يعتمد على العلوم الأخرى، بعد أن كان العلماء يعتمدون في تفسيرهم للظاهرات الاجتماعية على أحد منهجين: إما المنهج البيولوجي الذي وضعه هربرت سبنسر في إنجلترا، وهو ينظر إلى المجتمع على أنه كائن حيوي يمكن تفسير ظاهراته تفسيراً حيوياً يعتمد على علم الحياة وعلم وظائف الأعضاء؛ وإما المنهج السيكولوجي، ومن أكبر أنصاره تارد الفرنسي الذي يفسر المجتمع بغريزة التقليد. أما دوركايم فقد جعل علم الاجتماع موضوعاً قائماً بذاته لا يعتمد في تفسير ظاهرات المجتمع على غير هذه الظاهرات نفسها، فجعله بذلك علماً في مصاف العلوم الأخرى من جهة الموضوع والمنهج؛ وقد كتب دوركايم كتابه الشهير (قواعد المنهج الاجتماعي يبين فيه طبيعة العلم والمنهج الذي يجب اتباعه في دراسته، ثم لخص ذلك كله في مقالته: (علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية التي نشرت في كتاب مناهج البحث في العلوم وهي التي نقدم لقراء الرسالة تلخيصها.

تناول دوركايم موضوعه من الناحية التاريخية مبيناً نشأة علم الاجتماع وتطوره، ثم قسم العلم إلى الأبواب التي يدرسها؛ وأخيراً بين المنهج المتبع في الدراسات الاجتماعية، وهو منهج يعتمد عند دوركايم على التاريخ والإحصاء؛ لا كعلمين بل كطريقتين للبحث العلمي

أولا: من الناحية التاريخية

إن أحسن وسيلة تتبع في دراسة علم من العلوم التي لا تزال حديثة مثل علم الاجتماع، لتوضيح طبيعته وموضوعه ومنهجه، هي الرجوع إلى الوراء لنبين كيف ابتدأ وكيف تطور. . . لقد كان أوجست كونت أول من وضع لفظ (سسيولوجيا في القرن التاسع عشر قاصداً به علم المجتمعات. . . فالاصطلاح إذن جديد والعلم جديد، وإن كان هناك دراسات نظرية عن الموضوعات السياسية والاجتماعية وجدت قبل كونت: في (جمهورية) أفلاطون و (سياسة) أرسطو، وكتابات كامبانيللا وهوبز وروسو وكثيرين غيرهم. ولكن هذه الدراسات كلها تختلف اختلافاً جوهرياً عما يصدق عليه الاصطلاح الجديد. إ تصف ولن تفسر المجتمعات على ما هي عليه، ولكنها كانت تبحث عما يجب أن تكون عليه تلك المجتمعات؛ بينما علم الاجتماع يدرس المجتمعات على ما هي عليه في الواقع ليعرفها ويفهمها كما هي مثلما يفعل الفيزيقي، والكيميائي، والبيولوجي، في دراستهم للظاهرات الفيزيقية والكيميائية والحيوية. فعلم الاجتماع إذن لا يريد إلا أن يعين الظاهرات التي يتناولها بالبحث وأن يكشف عن القوانين التي تنتج بمقتضاها هذه الظاهرات دون أن يهتم بالناحية العملية أدنى اهتمام

وعلم الاجتماع الحديث ليفترض أن المجتمعات تخضع لقوانين معينة؛ وأن هذه القوانين تصدر بالضرورة عن طبيعة تلك المجتمعات وتعبر عنها. وكان تكوين هذا التصور بطيئاً، فقد كان الناس يظنون أن ليس ثمة شيء - حتى الجمادات نفسها والمعادن - يخضع لقوانين معينة، بل إن كل شيء يمكنه أن يتخذ أي شكل كان، وأن يكتسب كل الخصائص الممكنة ما دام هناك قوة كافية لذلك. ونفس هذا التفكير كان يسيطر على عالم الظاهرات الاجتماعية. والواقع أنه لما كانت تلك الظاهرات الاجتماعية معقدة تمام التعقيد، كان من الصعب أن ندرك النظام الذي يمثلها، وبذلك ظن الناس أن ليس ثمة نظام بينها، وأن كل شيء ممكن في الحياة الاجتماعية. أليست الظاهرات الاجتماعية تتعلق بنا نحن أفراد المجتمع، وبنا وحدنا؟ وإذن يمكننا بإرادتنا أن نعدل فيها وأن نصوغها في أي شكل نريد. ومن هنا انصرف التفكير إلى البحث عما يمكن أن نفعله كيما نصوغها في أحسن صيغة ممكنة. . . ولكن في القرن الثامن عشر ابتدأ الناس يرون أن (المملكة الاجتماعية) لها قوانينها الخاصة ككل (ممالك الطبيعة) الأخرى؛ فأعلن مونتسيكو أن (القوانين هي العلاقات الضرورية التي تستخرج من طبيعة الأشياء)، وقوله هذا ينطبق على (الأشياء الاجتماعية) انطباقه على جميع الأشياء الأخرى ثم جاء كوندرسيه فأراد أن يضع النظام الذي يسير على رأيه التقدم البشري، وأن يرسم أحسن حالة توضح أن ليس ثمة شيء يحدث عرضاً أو يأتي اعتباطاً، بل إن كل شيء يحدث حسب علل معينة. وفي نفس الوقت كان الاقتصاديون يرون أن ظاهرات الحياة الصناعية والتجارية يسيطر عليها قوانين خاصة تسير بحسبها مع أن هؤلاء المفكرين كانوا يمهدون السبيل للفكرة التي يرتكز عليها علم الاجتماع الحديث، فإن فكرتهم عن قوانين الحياة الاجتماعية كانت لا تزال غامضة مبهمة؛ فهم لم يقولوا - ولم يريدوا أن يقولوا - إن الظاهرات الاجتماعية تسير في تسلسل وارتباط وحسب علاقات علية - علاقة معلول بعلته - وأن تلك العلاقات محددة ثابتة لا تتغير كما هو الحال في العلوم الطبيعية. فكانوا يرون أن الإنسانية يمكن أن تنقلب من حال إلى حال بدون استثناء

ولكن في القرن التاسع عشر ظهر فهم جديد على يد سان سيمون أولاً ثم - على الخصوص - على يد أوجست كونت: فقد استعرض كونت في كتابه المعروف (دروس في الفلسفة الوضعية جميع العلوم في عصره، فرأى أنها تقوم على أن الظاهرات التي تعالجها تربطها علاقات ضرورية، وأنها ترتكز على مبدأ الجبرية فذهب إلى أن ذلك المبدأ الذي يتحقق في جميع ممالك الطبيعة من أول مملكة الرياضيات، حتى مملكة الحياة يجب أيضاً أن يتحقق في المملكة الاجتماعية، وبذلك ذهب المفكرون في أيامه عن النظر إلى المجتمعات كنوع من لمادة المائعة المطاطة التي يمكن للإنسان تشكيلها كيفما أراد؛ وإنما هي حقائق ووقائع لا يمكن تغيرها إلا بمقتضى القوانين التي تسيطر عليها وتوجهها. وعليه فإن نظم الأمم المختلفة مثلاً لا يمكن اعتبارها نتاجاً لإرادة الأمراء والحكام والمشرعين بل على أنها نتائج ضرورية لعلل معينة. فنحن نجد أنفسنا إذن أمام نظام للأشياء ثابت معين، وأمام علم يقوم لوصف هذا النظام وتفسيره وتبيين خصائصه وإظهار أي العلل تعتمد عليها هذه الخصائص. وهذا العلم نظري بحت ليس للجانب العملي فيه أي دخل؛ وهو علم الاجتماع. وكان أوجست كونت يسميه أولا بالفيزيقا الاجتماعية كما يبين العلاقات التي تربطه ببقية العلوم الأخرى

ولكن، لا يعني ذلك أن المجتمع خاضع لنوع من القدرية لا يمكن الإفلات منها، وأن الناس لا يمكنهم أن يعدلوا من مجتمعهم وبذلك لا يمكنهم أن يؤثروا قط في تاريخ بلادهم؟ الواقع أن لا؛ فإن العلوم الوضعية كلها تخضع لمبدأ الجبرية دون أن يمنع ذلك من وجود تغيرات في كل منها: فعلم الطبيعة مثلاً لا ينكر وجود تغيرات في ميدانه الخاص، ولكن تلك التغيرات تكون حسب قوانين موضوعه الخاصة. وعلم الاجتماع قبل كل شيء أعقد العلوم الوضعية كلها، وإذن فمجال التغيرات فيه أوسع من أي منها. وهو لا ينكر وجود تغيرات وتعديلات في المجتمع ولكن الذي ينكره هو ألا تكون هذه التعديلات متمشية مع طبيعة قوانين المجتمع. وهو يرفض الفكرة القديمة في أن المشرعين يمكنهم أن يغيروا المجتمعات حسب أهوائهم من نوع إلى نوع آخر مختلف عنه تماماً دون مراعاة العادات والتقاليد والبناء العقلي لأفراد المجتمع وهكذا.

وقد اعترض البعض على علم الاجتماع بأنه لا يتميز عن علم النفس، بينما كان من شرائط العلم الحقيقي أن يكون قائماً بذاته لا يختاط موضوعه بموضوعات العلوم الأخرى. ومادام المجتمع لا يتكون إلا من الأفراد، فعلم المجتمعات إذن لا يتميز عن علم الأفراد أي علم النفس، ولكن لو صح هذا الاعتراض لوجب توجيهه إلى علم مثل علم الحياة (البيولوجيا) فهو - حسب هذه النظرة - ليس إلا جزءاً من علم الطبيعة والكيمياء، لأن الخلية الحية مركبة من ذرات من الكربون والأزوت وغير ذلك، وهنا تدرسها الكيمياء العضوية. . . الواقع أن هؤلاء المعترضين ينظرون إلى الكل نظرتهم إلى الأجزاء التي يتكون منها، بينما الأجزاء متى تدخل في الكل تفقد خصائصها الجزئية وتظهر بدلاً منها خصائص أخرى لا توجد في الجزيئات. هكذا الحالة في الخلية التي يدرسها علم الحياة. وهكذا الحال في المجتمعات التي يدرسها علم الاجتماع؛ فإن من ارتباط الناس بعضهم ببعض تظهر حياة جديدة مختلفة بالمرة عن حياة الأفراد لو عاش كل منهم وحده إن الشرائع والمعتقدات الدينية والنظم السياسية والتشريعية والخلقية والاقتصادية، وعلى العموم كل ما يكون الحاضرة، لا يوجد إذا لم يكن تحت مجتمع ما، وبذلك فعلم الاجتماع غير علم النفس

هذا هو علم الاجتماع كما وضعه أوجست كونت

وقد اتسع نطاق العلم وتعددت ميادينه في السنوات الأخيرة وتخصص له عدد كبير من العلماء وخاصة في فرنسا، ولا زال العلم متحفظاً إلى الآن بمبدئه الأساسي: مبدأ الجبرية الكلية في المملكة الاجتماعية كما في بقية ممالك الطبيعة الأخرى. ويعزز من هذا المبدأ ما يذكره علماء الاجتماع من أن هناك نظماً خلقية أو تشريعية أو عقائد دينية معينة توجد مشتركة بين جميع المجتمعات التي تتشابه فيها شروط الحياة الاجتماعية وظروفها. ومهما كانت تلك المجتمعات متباعدة بعضها عن بعض، فإن تلك النظم تتشابه، حتى الدقائق والتفصيلات.

(البقية في العدد القادم) أحمد أبو زيد