مجلة الرسالة/العدد 53/زرياب
مجلة الرسالة/العدد 53/زرياب
بقلم محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب
رجل من رجال الفن، خلق له وفطر عليه، لعل في سيرته الطريفة مثلا للموهبة الطبيعية، ترفع من شان صاحبها فتبلغ به الذروة وتجعله شيئاً مذكورا، يتحكم في حياة أمة بأسرها، فيبدل فيها ويغير منها، ويؤثر وحده في طبائع أهلها وما ورثوه من تقاليد، ويخلق فيها من العادات والفعال ما لم يكن بها وما ليس يخطر لأهلها على بال.
هو أبو الحسن علي بن نافع مولى المهدي الخليفة العباسي كان أسود اللون، حلو الشمائل، وكان شاعراً مطبوعاً فصيح اللسان، لقبه قومه بزرياب تشبيهاً له بطائر عندهم أسود اللون، عذب الصوت، حلو التغريد، وكان زرياب رقيق الحس، دقيق الشعور، له حنجرة لم تخلق لغير الغناء، وأنامل كأنما أعدت للعود، ونفس تميل إلى الفن، وروح يهفو إلى الطرب، تتلمذ لأسحق بن إبراهيم الموصلي ببغداد يدرس عليه أصول الصناعة ويتعلم منه دقائق الفن، وكان اسحق يعلمه الأغاني ويلقنه الألحان، حتى إذا خلا زرياب بنفسه خلق من فن اسحق فناً جديداً، وهداه صفاء نفسه وسمو روحه إلى كل معجب مطرب، واسحق لا يعلم من أمر تلميذه شيئاً ولا يدري أنه أخذ منه فتفوق عليه.
وذهب اسحق إلى مجلس الرشيد يبعث فيه السحر كعادته وينطق فيه العود بالغناء الشجي والنغم العذب، والخليفة مصغ إليه معجب به، تأخذه حلاوة التوقيع وتروقه عذوبة الألحان، حتى إذا فرغ اسحق من غنائه التفت إليه الرشيد يثني عليه ويمدحه ويحادثه في صناعة الغناء، فما هو إلا أن يتشعب بهما الحديث حتى يقترح عليه الرشيد أن يسمعه مغنياً غريباً يجيد فنه ويحسن صنعته ممن لم يشتهروا عنده ولم تبلغ مكانتهم إليه، فيذكر له اسحق تلميذاً له قد علمه وأعجب به يتوسم فيه الإجادة وعلو الكعب في صناعة الغناء.
مثل زرياب أمام الخليفة فسأله عن معرفته بالغناء قال (نعم! أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه. . . فان أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك) وأخذ يصف له عوده وما ركب عليه من أوتار لها في الترنم والصفاء والعذوبة ما ليس لغيرها وما أن يأذن له الرشيد حتى يوحي إلى عوده فيغنى معه: يا أيها الملك الميمون طائره ... هرون راح إليك الناس وابتكروا
ويظل يغنى والرشيد يسمع حتى يتم أبياته في نغم لم يسمع الخليفة مثله، ولحن لم تردد نظيره جنبات القصر، ويطير الرشيد طرباً ويسمع من الأنغام جديداً لم يُسمعه اسحق مثله فيعاتب اسحق كيف ترك الرجل من قبل فلم يعلمه به، ثم يأمره أن يأخذه لديه فيعنى به حتى يفرغ هو له.
أما اسحق فأسرها لتلميذه، ولم يكد يخلو به حتى عنفه واشتد في تعنيفه وصارحه بما هاج به من الحسد له والغيظ منه، وخيره بين اثنتين لا ثالث لهما، فأما أن يغادر تلك البلاد فلا يراه بعد ذلك أبداً ويعطيه على ذلك أغلظ الأيمان وأوثق العهود وله عليه ما يريد من مال أو عطاء، وإما أن يقيم على كره منه وشركة له في الصناعة وعند ذلك لن يأمن غدره ولن يغنيه الحذر شيئا، وأما زرياب فلم يكد يرى أستاذه ينفس عليه رضاء الخليفة، ولم يكد يسمع منه هذا الوعيد المخيف حتى قام من فوره يبغي بلاداً غير هذه وناساً غير هولاء، وأما الرشيد فانه لم يكد يفرغ من بعض شؤونه حتى سأل عن زرياب أستاذه فزعم له اسحق أنه رجل غر أحمق ما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين حتى رحل غضبان ينعى على الأيام أن أوقعته فيمن لا يقدرون النبوغ ولا يكرمون النابغين ولا يعرفون الغث من السمين فسكن الرشيد إلى قول اسحق.
سار زرياب إذن من المشرق وكان المغرب قبلته فولى نحوها وجهه، وراح في الأندلس يلتمس ما لم يظفر به في العراق من بعد الصيت ورفعة الشأن، وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم يعلمه بمكانه من الصناعة ويسأله الأذن له في الوصول إليه، وما هو إلا أن يقرأ عبد الرحمن الكتاب حتى يرحب بصاحبه ويوصي عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وفى قرطبة يبدع زرياب ويملك على الأمير نفسه فيطرح كل غناء سواه ويقدمه على جميع المغنين ويقطعه الأرض ويمنحه المال ويبلغ إعجابه به حداً لا مثيل له، فيفتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده، وزرياب يذهب في الغناء كل مذهب ويضرب في التجديد بسهم وافر: هذه أعواد القوم لها أوتار أربعة، فليزد هو عليها وتراً خامساً يستهوى النفس بما يحدثه من النغم، وهاهي أعواد المغنين كبيرة الحجم ثقيلة الوزن فليكن عوده خفيفاً مرهفاً دقيق الصنع، وهذا مضراب العود قد استعمله الناس من خشب فهو ثقيل في اليد قاس على الأوتار ما يلازمها قليلا حتى يقطعها أو يفسدها، فليكن مضراب عوده من قوادم النسر فهو خفيف على الأنامل رفيق بالأوتار وان طالت ملازمته لها، وهاهي ألحان القوم معدودة وأغنياتهم معروفة فليجدد هو في اللحن، وليأت من النغم بكل طريف وليُسمع القوم من أغانيه وألحانه ما يعد بالآلاف.
وكان زرياب أيضاً قد جمع إلى براعة الفن وحلاوة الترجيع سلامة الذوق وترتيب الذهن فهو سمير إذا جالس الأمير أو أشراف الأمير، وهو طيب الحديث إذا تحدث، ماهر في خدمة الملوك، يجيد استقبال الضيوف والزائرين، متأنق في ملبسه يعني بزينة نفسه حتى صار مثالاً في الأناقة يحتذى، أخذ عنه أهل الأندلس وحاكوه، فلم يعودوا إلى إرسال الشعر مفروقاً وسط الجبين مسدلاً إلى الخدين والحاجبين وإنما فعلوا كما يفعل زرياب ونساء زرياب، فحذفوا شعورهم وقصروها دون الجباه وسووها مع الحواجب ودوروها إلى الآذان وأسدلوها إلى الخدود ولم يعودوا إلى ملاحف الكتان يلتحفون بها، وإنما فعلوا كما يفعل زرياب فآثروا على الكتان أنطاع الأديم الناعمة، ولم يبق الناس على ما هم عليه من خلط بين ملابس الشتاء وملابس الصيف، وجهل بما يلائم الربيع وما يناسب الخريف، وإنما علمهم زرياب أن لكل زمان ثيابا، فللربيع الملون الزاهي، وللخريف الخفيف الملون، وللشتاء الثياب الكثيفة ذات الحشو والفراء، وللصيف البياض من الثياب، وكذلك عرف الناس مذ جاءهم زرياب صنوفا من الطعام لم تكن لهم بها دراية ولا بطعمها علم واستعمل القوم في الأندلس من العطور ما لم يألفوه من قبل، وفضلوا آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة لأن زرياباً كان يؤثر الزجاج ويتناول شرابه فيه.
وكان زرياب أيضاً قد علم بناته وجواريه أحسن الأغاني وأدبهن بأدبه فبرعن في الغناء وأتقنَّ الصناعة، فكانت حمدونة ابنته عند أهل بيتها في الصدر، وكانت أختها علية كذلك، وتزوجت من الوزير هشام بن عبد العزيز، أما جاريته مصابيح فقد جمعت إلى جمال الصوت جمال النبل كتب صاحب العقد الفريد إلى مولاها وقد حجبها عن الناس واختص بها مجلسه يقول له:
يا من يضن بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضن من أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد فادخله مولاها إلى مجلسه وأذن له في سماعها.
ووضع زرياب المراسم لافتتاح الغناء فما يفتتح غناء في الأندلس إلا وأوله النشيد وآخره الاهزاج فأكسب زرياب المحافل روعة وأهدى المجالس باقات من الفن زاهيات، وكان وحده فناً انتقل إلى الأندلس، وحضارة عمت قرطبة.
محمد قدري لطفي