انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 526/المسرح المصري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 526/المسرح المصري

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 08 - 1943


3 - المسرح المصري

لغته وماذا تكون؟

للأستاذ دريني خشبة

الذين يزعمون أن اللغة العربية هي لغة أجنبية عن هذه البلاد هم قوم متعصبون يتجنون على الحقيقة كما يتجنون على أنفسهم، ويسيئون إلى الحقيقة بقدر ما يسيئون إلى بلادهم. . . فلقد أثبتت اللغة العربية حيويتها وصلاحيتها لسكان وادي النيل فلم يمضي قرن أو قرنان بعد فتح العرب مصر حتى كان المصريون جميعاً. . . بما فيهم سكان الأديرة والواحات، يتكلمون اللغة العربية ويعجبون بطواعيتها، وقيامها بأغراض حياتهم قياماً كاملاً غير منقوص، فأنسوا لغتهم الأصلية وآثروا عليها اللغة اللينة السهلة التي مرت بها ألسنتهم في غير مشقة، وأسلست لهم في غير عسر. . . ولتكن أسباب انتشار العربية في مصر ما تكون، فما لا جدال فيه أن المصريين لم يرغموا على التكلم بها وأنهم لم يتعاظمهم أن يهجروا لغتهم إلى لغة الغزاة الفاتحين برغم ما في هذا الترك من مرارة على أنفسهم، وبالرغم مما في تعلم لغة جديدة من عنت وإرهاق

إن انتقال أمة بأكملها، بل أمم كثيرة، من لغة إلى لغة هو ضرب من السحر لا يفسره إلا امتياز اللغة الجديدة وتفردها بفضائل ليست للغة القديمة. وإذا احتج أحد بالعامل الديني لم يستطع تعليل إبقاء الملايين من مسلمي الهند والترك وغيرهم على لغاتهم، ثم لم يستطع تعليل فناء اللغات القديمة في العربية التي جذبت إليها الأقليات الدينية فعربوا كتبهم المقدسة وأغفلوا اللغات الأصلية التي كتبت بها مع ما يكنونه لأصول هذه الكتب من إعزاز وتقديس

هذه مقدمة أوشكت أن تغرينا بكسر الكلام على اللغة العربية وصرف النظر عن المسرح. . . على أننا نعود فنتساءل: هل تصلح العربية أن تكون لغة للمسرح المصري. . . ولست أدري لماذا لا نتساءل: هل تصلح اللغة العامية أن تكون لغة هذا المسرح؟

أما السؤال الأول فله أعداء كثيرون قامت عداوتهم على روح شعوبية منكرة، كما قامت على كراهية للغة العربية التي هم ضعفاء فيها أغلب الأمر، والتي لا علم لهم بأسرارها ولا ذوق أصيل يغريهم بطلاوتها وحلاوتها، وكل أولئك الأعداء هم ممن شدوا لغة أجنبية فثقفوها وبرعوا فيها قبل أن يتاح لهم نصيب موفور من اللغة العربية. ومنشأ ذلك فساد نظام التعليم في مصر. . . ذلك النظام الذي أوهى من دعائم قوميتنا - ورمزها الأول اللغة - كما أوهى من عصبيتنا لكل ما هو مصري. . . فإن مصر توشك أن تكون الدولة الوحيدة - وربما يشبهها في ذلك الشام - التي تسمح لعدد ضخم من أبنائها ممن يتعلمون بالمدارس الأجنبية أن يتعلموا جميع المواد التي تدرس في هذه المعاهد بلغة غير لغة البلاد. . . فالحساب والجغرافيا والتاريخ والعلوم والرسم والهندسة والأشغال وما إلى ذلك يدرس كله بلغة أجنبية وبواسطة معلمين من الأجانب. . . وهكذا يفقد هذا العدد الجم من أبنائنا مصريتهم، وينسون لغتهم، لأنهم يذهبون إلى تلك المدارس وهم صغار لم يعدوا الرابعة أو الخامسة من عمرهم، أي في السن التي يصلحون فيها للتكييف حسبما تشاء المدرسة وعلى الصورة التي تهوى سياستها أو سبب إنشائها. . . ولقد آن أن نفهم أن الاستمرار في السماح لتلك المدارس بأن يظل منهاج الدراسة بها على هذا النحو هو أشنع ضرب من ضروب الخيانة الوطنية. ولا يقل عنه سماحنا لأبنائنا بالذهاب إلى تلك المدارس. . . وهو هذا الجزء البغيض من تلك الخيانة الذي نصنعه بأيدينا. على أن الآباء الذين يدفعون بأبنائهم إلى تلك المدارس يدفعون اعتراض كل معترض بحجج لها وجاهتها أحياناً. . . ولسنا نرى ماذا يمنع وزارة المعارف من تدارك أوجه النقص التي تعتور نظام التعليم في مدارسها حتى لا تنهض لأولئك الآباء حجة في العدول بأبنائهم عن مدارسها؟ على أن التفات المدارس الأجنبية إلى تعليم البنات وتطبيعهن على الطابع الأجنبي كان خليقاً أن يفتح أعين وزارة المعارف فتقاومه بفتح المدارس المصرية الراقية في كل مدينة بها مدرسة أجنبية تغشاها الفتاة المصرية التي لا تجد مدرسة أخرى في بلدتها لتتعلم بها. . . ولحق أنه لم يعد معنى مطلقاً أن توجه الدولة 95 % من اهتمامها إلى تعليم الذكور، ولا توجه إلى ما تبقى من تلك النسبة المئوية التافهة لتعليم الإناث. وسنظل فقراء في قوميتنا، مدخولين في مصريتنا، بائسين في لغتنا، ما دامت الدولة تقصر هذا التقصير الشنيع في تعليم الفتاة المصرية، صارفة معظم عنايتها إلى تعليم الذكور دون الأناث، مع علمها بأن البنت هي التي تصنع الأمة، وأن نصيبها في ذلك هو أضعاف نصيب الذكر

ونحن إنما نسوق هذا الكلام في معرض الحديث عن لغة المسرح لما له من الصلة الوثيقة به. . . لأننا نتكلم باللغة العامية ونتعامل بها في حين أننا نقرأ الكتب والصحف ونصغي إلى الراديو والخطب الضافية في المساجد والكنائس، والمحاضرات الضافية في النوادي ودور العلم. . . ثم نحن نكتب في مدارسنا وفي معاملاتنا باللغة العربية الفصحى، أو ما يقارب من اللغة العربية الفصحى. . . وفي مصر اليوم أكثر من ثلاثمائة جريدة ومجلة تصدر يومياً أو أسبوعياً أو كل شهر وكلها مدبجة بهذه اللغة العربية الفصحى. . . من هذه الجرائد ما كان يصدر يومياً في ست عشرة صفحة وفي ثماني وأربعين صفحة محررة باللغة العربية الفصحى وندر ما كان يعثر القارئ فيها جميعاً بغلطة في اللغة. . . ومن مجلاتنا عدد لا بأس به يعني بالأسلوب فلا يسمح بركاكة أو لحن أو إسفاف أو دنو من العامية حتى في أبسط ألفاظها. . . فهل قال أحد إن أي مستمع من عامة الشعب ممن لا يتكلمون العربية الفصحى وممن لا يخطر لهم استعمالها على بال، لا يفهم ما يصغي إليه من موضوعات تلك المجلات وتلك الصحف وما يستمع إليه في خطب المساجد وعظات الكنائس ومحاضرات الوعاظ العامة وإرشادات الإذاعة وأغانيها المنظومة بالعربية من قصائد وموشحات؟

الحق أن عامة المصريين، بل عامة الأمم العربية، تجيد فهم الأساليب العربية وتسيغها. . . ولو لم تكن هذه العامة متعلمة، ولو لم يكن لها بصر بطبيعة تراكيب تلك الأساليب. . . وما دامت هذه العامة تفهم تلك الأساليب ولا تضيق بها، بل هي تلتذها أحياناً وترددها في أغاني كبار المطربين وفي أحاديث الرسول الكريم التي تحفظها عن ظهر قلب، وفي آيات القرآن التي ترددها وتمزج بها حياتها في صلواتها وأدعيتها، وفي آيات الكتب المقدسة الأخرى. . . فليس من العسير أن تحاول الدولة التمهيد لإحلال العربية الفصحى محل هذه اللهجات الدارجة المتعددة، وذلك بتعليم الفتاة المصرية وتنشئتها في بيئة مدرسية عربية لا يؤذن فيها بتعلم لغة أجنبية حتى تبلغ الفتاة الثانية عشرة على الأقل، وحتى تكون قد أنضجت فيها قوميتها المصرية التي نعتبر اللغة العربية أكرم مقوماتها. . . ونحن نلاحظ أن الطبقات المتعلمة في مصر وفي الشرق العربي عامة، أقل استعمالاً للهجات الدارجة من سائر طبقات الشعب غير المتعلمة. . . فمعظم طبقات المتعلمين في مصر وفي الشام وفي العراق يداولون أحاديثهم بينهم باللغة العربية، أو ما يقرب أن تكون لغة عربية خالصة، اللهم إلا ما تقضي به العادة من استعمال العامية في مجرى الحديث في غير وعي. . . فالتعليم إذن هو الوسيلة الوحيدة لإحلال العربية الفصحى محل العامية الدارجة. . . أما عنايتنا بتعليم الفتاة خاصة فذاك أنها هي التي تتولى تربية أطفالنا في سنيهم الأولى، فهي كفيلة إذن أن تصقل ألسنتهم، وأن تفهم عن المدرسة ما تهدف إليه من مطامح وأغراض، فهي على مساعدتها أقدر من الأم الجاهلة المغرقة في الأمية، ومن الأم التي تعلمت في مدرسة مصرية عرجاء، أو في مدرسة أجنبية تعنى أول ما تعنى بمحاربة القومية المصرية في كل مشخصاتها وأهم تلك المشخصات اللغة التي لا تسيحي بعض طبقاتنا الراقية ممن تعلموا - أو تعلمن - في مدارس أجنبية من هجرها واحتقارها ومداولة الحديث بلغة أجنبية حيث لا يكون في المجلس أجنبي واحد. . . هذه كارثة اجتماعية ينبغي أن تعالجها الدولة بما يجب لها من جهد. . . وليس على الأرض قاطبة لغة أشرف من لغتنا لو وجدت من يخدمها في إخلاص ونصح. . .

وإلى أن يتم هذا الإصلاح، وإلى أن تلتفت الدولة إلى خدمة اللغة العربية على النحو الذي تراه، لا نرى مندوحة من الصراحة في القول ونحن نتحدث عن لغة المسرح المصري وما ينبغي لها أن تكون في الوقت الحاضر، من أن نوصي باللغة العامية خيراً في هذا الحديث. . . فللغة العامية محاسنها التي لا تنكر، ومن هذه المحاسن ما تتفرد به، وما لا يؤديه شيء في العربية الفصحى إلا حيثما تفشو، هذه العربية الفصحى، بين الناس بحيث تختلط بدمائهم وألسنتهم كما تختلط العامية الآن. . . وليس الخير الذي نريد أن نوصي به للغة العامية هو الخير المطلق الذي يجعلها لغة المسرح عندنا. . . كلا. . . وإلا كنا ندعوا إلى شر لا إلى خير، وإلى نكسة لا إلى نهضة، فليست لغة غير اللغة العربية تصلح للمسرح المصري خصوصاً في الروايات المترجمة التي كان يقبل الجمهور عليها إقبالاً شديداً في فجر نهضتنا المسرحية التي كان يضطلع بها الشيخ سلامة جازي وجورج أبيض وعبد الرحمن رشدي والشيخ أحمد الشامي وأحمد سماحة، والتي ازدهرت أيما ازدهار في السنوات الأولى من حياة مسرح رمسيس قبل الانشقاق المشئوم الذي مزق وحدة الممثلين المصريين البارزين والذي انتهى إلى تلك العواقب المحزنة التي لم يسلم منها إلى اليوم. ولا يفوتنا أن نذكر الفرقة القومية بهذه المناسبة. . . فقد كانت اللغة العربية هي لغتها الرسمية، وكان يرجى الخير كل الخير من هذه الفرقة العتيدة التي قضت عليها سياسة قصر النظر. . . تلك السياسة المرتجلة التي كانت تريد أن تجعل من هذه الفرقة مشروعاً تجارياً فلم تعرف لها حقها الثقافي، ولم تعرف لأبطالها مقدرتهم على الاضطلاع بالنهضة المسرحية وحسن استعدادهم لأداء مهمتهم فضربت بهم عرض الأفق، وقبضت عنهم كفها؛ مما نرجو أن نعرض له عند الكلام عن فرقنا التمثيلية. . . ونأمل أن لا يغضب كلامنا هذا أحداً من أبطال التمثيل في مصر، وألا يترك ثناؤنا على زيد غضاضة في نفس عمرو. . . فقد آن أن يكون عمل الجميع خالصاً لخير المسرح

وقصار النظر هم الذين يزعمون أن تمسك المهيمنين على الفرقة القومية باللغة العربية هو الذي قضى عليها. . . بل قضت عليها عوامل أخرى سنعرض لها في حينها إن شاء الله. . . فاللغة العربية يجب أن تكون اللغة السائدة في جميع الروايات المترجمة. أما الروايات المصرية فمسألة فيها نظر. . .

وإليك أيها القارئ بعض الأسئلة التي تتبادر إلى ذهني وذهنك بهذه المناسبة:

هل يجوز أن يدير المعلم (فلان) الجزار أو البواب أو الخادم أو بائع المقانق (السجق ولا مؤاخذة!) حديثة باللغة العربية في زماننا الذي نحن فيه؟

وهل نستطيع أن نخلق جواً كوميدياً (هزلياً) باللغة العربية الفصحى دون أن تنتهي جهودنا إلى الغثاثة والسخف؟

وهل نستطيع الاستغناء في جميع رواياتنا الكوميدية عن لهجتنا المضحكة المرحة من (صعيدي وشرقاوي وبربري وشامي ومغربي؟)

وهل نستطيع الاستغناء عن أمثالنا العامية الفياضة بالحكمة وعن نكاتنا القومية التي لا يعقل أن ترسل بغير اللغة العامية؟

وهل نستطيع الاستغناء عن الفلكلور المصري كله طفرة من غير أن نمنح أنفسنا مهلة ليكون لنا فلكلور آخر لا غنى لحياتنا الأهلية عنه، إلى أن نستعرب تمام الاستعراب؟

. . . ولنسأل أنفسنا هذا السؤال أيضاً:

هل في أوربا أمة استغنت تمام الاستغناء عن لغتها الدارجة في مسرحها المحلي؟

وأحسب أن الإجابة هي بالنفي القاطع عن كل الأسئلة الأولى، ولعل السؤال الأخير فقط هو الذي يحتاج لإيضاح. . .

ولا مراء في أن ولا مراء في أن جورج برنردشو هو أعظم مسرحي عرفه العالم في العصر الحديث، وأكثر النقاد على أنه من أعظم مسرحي التاريخ، ثم هو رجل تدين له اللغة الإنجليزية بفضل كبير. وهو في الوقت نفسه من أكبر كتابها حيث لا ينازعه المرتبة الأولى إلا واحد أو اثنان من أساطين كتبها. . . وقد استطاع شو أن يجعل اللغة الإنجليزية الفصحى معيناً لا ينصب من اللغة العامية، وهو يعتبر هذه اللغة ضرورة لا غنى عنها للكمال المسرحي خصوصاً لشخصيات الرعاع والغوغاء التي يصرح أنه أن أنطقها بالإنجليزية الفصحى التي لا تعرفها ولم يسبق لها أن لهجت بها فأنه يجافي الواقع وينافر الطبع ويقلق الذوق المسرحي، ولذلك تراه في عدد كبير من رواياته، خصوصاً في ملاهيه المرحة، يرسل حديث أحد أبطاله الرئيسيين بالعامية من أول الرواية إلى آخرها، كما في ملهاته كانديد حيث لا يتكلم برجس إلا بالعامية؛ وكما في روايته: (هداية الكبتن براسبوند)، حيث لا يتكلم البطل درنكووتر إلا العامية كذلك. ولو أرنا ضرب الأمثال من روايات كتاب آخرين يرتفعون إلى مستوى شو لما أعوزنا ذلك. على أن الكاتب الإنجليزي سويفت كان أول من تولاه القلق على ضياع العامية الإنجليزية، ولذلك أنشأ مجموعته الفاخرة منها، والتي تعد اليوم معيناً لا ينضب لإمداد الإنجليزية الفصحى بما تفتقر إليه من ألفاظ قد لا تستطيع نحتها فتفضل استعمال المرادف العامي من أن تأخذ عن اللغات الأجنبية مع أنها لا تأبى أن تصنع ذلك. والحقيقة أننا نغلو غلواً لا معنى له في استهجان لغتنا العامية واستقباح استعمالها مع أنها كنز لم نعرف قيمته بعد نستطيع أن نسعف منه العربية الفصحى بما لم تسعفه به بدواتها الأولى التي حرمتها من كثير من مقومات الحضارة

وقصارى القول فيما ينبغي أن تكون عليه لغة المسرح المصري هو وجوب استعمال العربية الفصحى استعمالاً مطلقاً في الروايات المترجمة، واستبقاء اللغة العامية لبعض شخصيات الملاهي ليمكن خلق الجو الكوميدي المرح، كما يجب استبقاء اللهجات العربية الفكهة التي أشرنا إلى بعضها في مجرى الحديث لتساعد في خلق هذا الجو. . . وإن كان رأينا هو أن تقوم الملهاة على موضوعها لا على نكاتها وشتائمها كما هو شائع عندنا اليوم.

دريني خشبة