مجلة الرسالة/العدد 523/عيد ميلاد
مجلة الرسالة/العدد 523/عيد ميلاد
للأستاذ عباس محمود العقاد
لم يكن لي عيد ميلاد
ولكنني لم أنس قط أنني ولدت، ولم أشعر قط بحاجة إلى تذكير؛ فهذه الحادثة التي لا تتكرر، وتقادم العهد بها وتعاقبت الأيام والسنون عليها، ولا يلوح لي أنني نسيتها أو أستطيع نسيانها
فما حاجتها إلى تذكار؟ وما حاجتها إلى احتفال؟ ومالي وقد أغفلتها سنين وسنين أبتدئ اليوم بإحيائها، وأحصيها ولات حين إحصائها؟
إنها العدوى
ولأعياد الميلاد عدواها كحوادث الميلاد. ألا يقول المعري في النسل والولادة:
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد ... بعدوى فما أعدتني الثوَباء؟
بلى. ولكنني أنا عُديت بعد طول التعرض والممانعة، فاحتفلت بعد الخمسين بأول ذكرى، واستغنيت عن إعادة الدرس خمسين مرة لأحفظه كما يحفظه المحتفلون به بعد طول التكرار
كنت أدعى إلى عيد ميلاد بعد ميلاد
وأكثر ما دعيت إلى أعياد الأبناء الذين يخمسون سنواتهم أو يسدسونها أو يسبعونها أو لا يزالون فيها بين التثنية والتثليث
درس جديد لهم العذر أن يثبتوه في الواعية وأن يستذكروه ويراجعوه. . . ولكني رأيتهم يكبرونني ويتقدمونني في هذا المجال لأنني أبتدئ الآن وقد سبقوني مرتين أو ثلاثاً أو أربع مرات. فأنا أسأل حيث لا يسألون، وأراجع حيث لا يراجعون، وأستخرج من الأضابير تذكرة جديدة هي عندهم أقدم ما يملكون!
في أي يوم ولدت!
لم أكن أدري؛ لأنني أذكر السنة على التحقيق، وأذكر الشهر على الترجيح؛ ولكنني لا أذكر اليوم بعد أن قرأته آخر مرة في وثيقة الاستخدام، ثم تركت الوثيقة وتركت الخدمة، ووددت لو محوتها من عداد الذكريات فأنا اليوم في موقف من يكتب له شهادة جديدة بالميلاد، وكأنني بهذه المثابة على عتبة الحياة
خير إن كانت الحياة خيراً. . .
وليس بشر إن كنا غارقين من الحياة في شرور
ونويت أن أسأل في أول فرصة للسؤال، ولكن في غير اكتراث ولا استعجال، فقصاراه أنه شئ في البال، ولقد تمضي عليه الأعوام وهو في مكانه من البال!
وسنحت الفرصة على غير ما اشتهيت، لأنها اقترنت بتشييع أخ إلى مثواه الأخير، في موطني الذي درجت فيه خطواتي الأولى
وعند موقف الموت يسأل الإنسان عن موقفه من الحياة
فسألت، وعلمت، وطلبت المزيد من العلم، فظفرت بالعلم اليقين من أضابير المحفوظات
بل ظفرت في حياة واحدة بشهادتين للميلاد!
وكانت نوبة من نوبات الذكريات التي تساق إلينا على غير اختيار منا، فكثيراً ما ذهبت إلى أسوان دون أن تعرض لي دواعي الإياب إلى معاهد الطفولة، وتآلف الشباب. أما في هذه المرة فندر معهد من تلك المعاهد لم أقف ساعة عليه، ولم تجذبني داعية من الدواعي إليه
ومنها المدرسة التي قضيت بها ما بين التاسعة إلى الثالثة عشرة، ولا تزال في جملتها على حالها المعهود
ذهبت إليها وأنا أحسبني في الطريق ذاهباً إلى دار كسائر الدور، ولا أخالني سأهجم فيها على لجة من أعمق اللجج النفسية، ومفاجأة من أعنف مفاجآت الشعور
حتى وقفت عند الباب، ونظرت إلى البواب
فإذا هو البواب الذي كان يستقبلنا هنالك قبل أربعين سنة في ساعة الحضور
هو بعينه بوابنا الأول لم يتغير منه إلا قليل في صورته ومعناه، وإلا النظرة التي كان يعرفنا بها لأول وهلة، وهي الآن لا تعرفنا إلا بعد تثبت واستغراب
قال: من هذا؟ فلان؟ لقد شبت كثيراً يا بني!
وفي لمحة عين لا تتسع لقلب صفحه من كتاب، تنقلب في أعماق النفس صفحات من العمر تضيق بها أسفار كبار لقد شبت كثيراً يا فلان!
ملاحظة صادقة وثبت إلى لسان الرجل كأنه لا يلفظها بل تلفظ نفسها بنفسها، وكم تأخر بها الزمن مع هذا الوثوب السريع!
ولا أعرف في الحياة شعوراً كثيراً أشبه به شعوري عند باب المدرسة التي كنت أدخلها عدواً وأنا الآن جامد لديها كأنني تمثال
ولكنني أذكر شعوراً موصوفاً أحسبه أقرب ما يكون إلى هذه المفاجأة العاصفة، وهو شعور الطيار في طوائر الانقضاض السريع، وقد هبط إلى الأرض وارتفع منها صعداً في خلال لمحات
يختلف ضغط الهواء عليه، فيتفجر الدم من قلبه ويطغى على عينيه، فيوشك أن يحجب عنه الأرض والسماء
ولم يختلف هنا ضغط الهواء بل ضغط السنين!
أربعون سنة ترتفع عن كواهل النفس في خفقة جناح، وغشية كتلك الغشية التي تعصف بالطيار عصفت بي صعداً فارتفعت إلى أجواء الثالثة عشرة، وطرحت عن كتفي أعباء اربعين سنة، كانت ترين هناك
وجلست في إحدى الحجرات أتحدث كما يتحدث المنوم يتقهقر به منومه مرحلة بعد مرحلة من عهود العمر حتى يبلغ به سنة معلومة من السنين فيقول له: قف لديك، وصف ما تراه!
فإذا وصف فهو لا يقول لنا: كان هنا وكان هنا قبل أربعين أو قبل كذا من السنين؛ بل يقول: إني لأرى الساعة وإني لأسمع في أذني ما أروي، وإني هنا الآن، ولا أعرف ما وراء ذلك من مشهود ومسموع.
وانقضت على ذلك خمسة أشهر وجاء موعد اليوم الذي كان في حياتي أول يوم. فلم أحتفل بشيء واحد حين احتفلت به، بل كان أعجب العجائب أنه كان موعد ذكريات يضيق بها الإحصاء، كلها من أخطر الذكريات وأكبر المواقف في الحياة، وآخرها في السنة الماضية ذكرى العلمين!
في هذا اليوم بعينه وصلت جيوش روميل إلى العلمين، وأوشكت أن تعبرها إلى طريق العامرية فالقاهرة والإسكندرية وهو الهوان على أيدي أناس هم أخبر الناس بالهوان، ولا فرار من الموت إن وجب، ولكن البقاء للهوان إخلال بكل واجب يحرص عليه إنسان
وإلى أين الفرار؟ إلى وادي التيه الذي يرجع منه الغائب أو لا يرجع، ولكنه لا يدري أين يذهب ولا كيف يكون الرجوع
وليس هذا أفجع ما في الصفقة الفاجعة
بل أفجع من الليلة التي قبلها، أو هي ليلة المذبحة كما سميناها لأنها جرأة على الماضي تهون معها الجرأة على المستقبل، وعلى المجهول!
كل ما أتركه بعدي لا أباليه
الكتب يصنع الله بها ما يشاء. وما أكتم القارئ أنني على خطوة من إحراقها في كثير من الأوقات، غضباً على تكاليف المعرفة حيث يسعد الجهل بغير تكليف
وماذا اترك غير الكتب مما أباليه إن كنت أترك الكتب ولا أباليها!
هباء أو كالهباء!
إلا أوراقاً متفرقات فيها ودائع العمر التي يموت عنها الإنسان ولا تسخو نفسه بأن تموت قبله
وهي لا تنقل إلى حيث تفتح وتقرأ في مدخل كل أرض مطروقة، وهي لا تودع عند أحد كائناً من كان
فلا موئل لها أكرم من التمزيق، ثم نار الحريق
وانقضت ساعتان قبل تمزيق الورقة الأولى
ولم تنقض إلا دقائق قبل تمزيق الورقة الأخيرة، كالذي يأخذه التردد عند الضربة الأولى ثم يهيم به سعار الضرب بعدها فلا يبقي ولا يذر، ويضرب ويضرب حتى بكل ساعداه وتخلو كفتاه؛ ثم يستريح من فرط الإعياء وبهر السعار
وانجلت الثورة عن كومة من الورق كل قطعة منها موصولة بعرق ممزق، وشعل من النار لم تكن من قديم عهدها إلا شعلاً من النار، ولكنها حارت إلى رماد!
ويلك يا هتلر!
النار التي أشعلتها في العالم لا تنسى، ولا تنسى لك عندي هذه النار التي أشعلتها أنا بيدي تلك أقرب ذكرى من ذكريات اليوم الذي كان في حياتي أول يوم
وقبل ذلك نظائر لهذه الذكرى موزعة في سنوات متباعدات يوشك أن تقنعني بصدق ما يقال من أن للنفس صيحة كصيحة الإهلال في كل موعد ذكرى من ذكرياته!
أفما كان خيراً لي إذن أن أنسى ذلك اليوم في سنتي هذه كما نسيته في السنوات الماضية؟
وأن يكون لي ميلاد، وليس لي عيد ميلاد؟
عباس محمود العقاد