انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 521/لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 521/لكي ننتفع بتجاريب غيرنا

مجلة الرسالة - العدد 521
لكي ننتفع بتجاريب غيرنا
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1943


3 - المسرح في أوربا بين حربين

(في ألمانيا والنمسا)

للأستاذ دريني خشبة

ألمعنا في الكلمة السابقة إلى انتشار المسارح الشعبية الحرة في ألمانيا، وعرفنا ما يدخل في صناديق هذه المسارح من الإيراد الضخم بطريق الاشتراك بين الأعضاء، ويبلغ عددهم في أحد مسرحي برلين حوالي ستين ألفاً معظمهم من العمال! أي أن المبلغ المتحصل من الاشتراك فقط يربو على ثلاثة آلاف من الجنيهات شهرياً - إذ يدفع العضو شهرياً خمسة قروش أو نحوها - أضف إلى ذلك مثل هذا الإيراد من غير المشتركين، وأضف إليه أيضاً إعانة البلدية للمسرح؛ وقد عرفنا أن بلدية كولونيا تُعين مسرحها الشعبي بخمسة وعشرين ألفاً سنوياً، كما أن مدينة ثورن، أو بالأحرى قرية ثورن، تعين مسرحها الصغير المتواضع بألف جنيه كل عام. . . وقبل أن نتكلم عن المذهب يسود المسرح الألماني والذي ارتفع به إلى الأوج قبل قيام الاشتراكية الوطنية لا نرى محيصاً من الرجوع قليلاً. . . إلى ما قبل الحرب الكبرى، وربما إلى ما قبلها بخمسين سنة أو يزيد. . . إلى هذا الوقت الذي كانت فيه فينا - عاصمة النمسا - هي مركز المسرح الألماني العتيد، حينما كان الأدب المسرحي في شمال ألمانيا ما يزال في المهد، وما يزال أدباً رومانتيكيا (إبداعياً) يقصد به التلهي وإشباع غريزة التشوُّف الأدبي فحسب. . . وقد كنا نؤثر أن نرجع إلى أكثر من ذلك. . . إلى أيام عاهل الدرامة النمسوي الأكبر فرانز الذي بدأت تباشير عبقريته تظهر في مشارق القرن التاسع عشر، لولا ما ننتويه من إفراد فصول مستقلة لكتاب الدرامة في الأمم الأوربية المختلفة وذلك بعد الفراغ من هذا الاستعراض السريع لحالة المسرح الأوربي بعد الحرب الكبرى، والذي نريد به استخراج العبرة التي نهتدي بنورها في تشييد دعائم المسرح المصري وخلق العنصر المسرحي المنعدم في الأدب العربي

فحسبنا إذن أن نبدأ من تلك السنة اللامعة ذات البريق في التاريخ الألماني، ألا وهي في سنة 1871، تلك السنة التي تم فيها تكوين الإمبراطورية الألمانية، بعد الانتص السبعينية على الجيش الفرنسي. والعجيب أن تلك الانتصارات، بالرغم مما صحبها من الزهو العسكري، لم تستطع أن تمحو من نفوس الشعب الألماني روح التشاؤم الذي أشاعته فيها فلسفة شوبنهاور، والتي تمكنت من ألباب الخاصة المثقفة تمكناً كان يوشك أن يؤدي إلى اليأس المطلق، لولا ما اضطلع به أدورد فون هَرْتمان من تلطيف تلك الموجة من الشعور الأسود، ولولا أن أصاخ إليه شباب الجامعات وأساتذتها الذين رسموا الطريق للنهضة الذهنية الألمانية، فانحرفوا بها عن طريق الأدب - إلى حين - إلى طريق العلوم، فازدهرت الفلسفة وفقه اللغات والتاريخ والعلوم التجريبية، حتى إذا أينع هذا الشباب ودّوت في أسماعه الصيحات الآتية من خارج ألمانيا. . . تنبه إلى صوت كَنْت العظيم فترك هيجل الألماني وراءه، ولم يلبث أن أتاه الصوت العظيم الآخر من داخل ألمانيا نفسها، فتلفت فرأى قيثارة الشعر والأمل ترقص في يدي جوته الخالد، كما رأى فيلسوف القوة الألمعي فردريك نيتشه ينهض جباراً مرعداً ليهدم شوبنهاور، وليهدم تقاليد الماضي العتيق الذي كان يجثم كابوسه المخيف فوق الذهن الألماني، ثم ليخاصم في سبيل ذلك صديقه الأعز رتشارد ثم لينشر إنجيله الجديد: هكذا تكلم فيقلب به الفكر الألماني ويجعله عدواً لكل قديم؛ ثم ليطلع على الناس بهذه الطوبى الجديدة، طوبى الإنسان الأعلى - أو السبرمان - الذي يعد الناس بالنسبة إليه (حبلاً ممتداً بين الحيوان وبين السبرمان) ثم ليجدف ضد أديان السماء تجديفاً هداماً لا يعرف القيود، ثم ليحدد وظيفة الرجل ووظيفة المرأة، فيجعل الأول للحرب والثانية لتكون متعة لرجل تلك الحرب، فإذا رأى أحداً يقصد إلى زوجه أوصاه ألا ينسى سوطه!؛ ثم ليبرر تسلط القوي على الضعيف وتحكمه فيه، لأن الذي لا يستطيع القيام على شأنه ينبغي عليه أن يسلم قياده للغير. ثم ليعتبر هذه الطائفة من الفضائل المتعارفة بين الناس، كالرحمة واحترام العهود وخفر الذمم والتواصي بالضعفاء، رذائل نشأت عن ضعف كامن في سويداء هذا الحيوان الذي نسميه الإنسان. . . الخ ويفتتن أدباء الشباب بهذا الإنجيل الجديد ويبشرون به ويصفقون له، لأنه في زعمهم جعل الأدب الألماني أدب (أفكار) جريئة حرة لا تعرف هذا الإله التنين الذي يقول: هذا كفر فدعوه، وذاك إلحاد فلا تخوضوا فيه. . . هذا الإله (الشرقي!) الذي يلوح بالنار ويغري بالجنة لا لشيء إلا ليشل تفكير الإنسانية. . . إلى آخر هذا الضلال. . . وقد ترددت أصداء هذا الصوت الجديد في المسرح الذي أخذ بدوره يتحلل من الدرامة الإبداعية (الرومانتيكية) متأثراً بالدرامة الواقعية التي نفذت إليه من فرنسا وسكنديناوه (النرويج والسويد) وأول ما ظهر هذا التأثر في روايات إرنست فون الروايات التاريخية التي هاجم فيها كاتبها روح التشاؤم على هدى من تعاليم نيتشه. على أن معاصراً نمسوياً لهذا الكاتب وأعظم منه نشاطاً وأغزر فناً وأوفره مقدرة، اسمه لدفج قام يخلص الدرامة الألمانية من الإسفاف الذي تردت فيه بالمبالغة التي لا مبرر لها، واستثارة عواطف الجماهير (بالبهلوانيات!). . . استبدل لدفج بهذا النوع المستهتر المألوف - روايات واقعية مستمدة من صميم الحياة الريفية الهادئة وإن تكن لم تخل من التأثر بنيتشه - وفي سنة 1888 افتتح برلين المسرح غرار المسرح وذلك برواية إبسن النرويجي (الأشباح) التي أثرت تأثيراً كبيراً على المؤلفين الثوريين الشباب، ونخص بالذكر منهم جرهارت هوبتمان، ثم هرمان ألفا لمسرح برلين المستقل كثيراً من الروايات التي كانت نواة الأدب المسرحي الألماني الحديث. ولقد كان سودرمان يتأثر الدرامة الواقعية الفرنسية ويجري دائماً في أذيال دوماس، وقد بلغ من ظهور طابعه على المسرح الألماني أن اعتبره النقاد المثل الأعلى الذي يقاس عليه، ولا يجوز أن يحاد عنه حتى انتهى الأمر إلى تفشي الروايات المتشابهة ذات الموضوع كأنما صبت جميعها في قالب بعينه، وهو نفس المآل الذي انتهت إليه الدرامة الفرنسية الـ التي كانت تؤلف دائماً في موضوع الحب الخاطئ مما أشرنا إليه في الفصول السابقة. وقد فطن سودرمان إلى هذا الخطر فحاول هجر ميدان الدرامة الواقعية إلى المأساة السيكلوجية، ثم إلى تقليد شيلر في دراماته الكلاسيكية إلا أنه فشل في ذلك. أما هوبتمان فكان أضعف شخصية وأوهى استقلالاً من سودرمان. . . كان يقلد كل من تدخل سمعته في المسرح الألماني من الخارج على حد ما عبر بعض نقاده. وكان تأثره بكتاب سكنديناوه أوضح من غيره، على أنه بتجاوب أصداء المسرح في أوربا عن طريقه داخل ألمانيا قد خدم المسرح الألماني من غير شك. فهذان هما أشهر مؤلفين واقعيين ظهرا في ألمانيا في تلك الفترة من فترات الانتقال الهامة هناك. على أن الحركة الواقعية لم تلبث أن انكمشت ثم أخذت تختفي جميع المسارح الألمانية، وحلت محلها الدرامة الغامضة الرمزية المجازية. وقد سبقت النمسا كعادتها جميع الشعوب الجرمانية، ولا سيما شمالي ألمانيا إلى الأخذ بهذا النوع الجديد من الروايات الرمزية، حيث ظهر فيها مؤلفون أحيوا درامات القطولة القديمة التي اشتهرت في المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر مع فارق واحد، هو أن أبطال هذه الدرامات لم تظهر على المسرح الألماني كأنصاف آلهة منزهة، ولكن كرجال ونساء ذوي عواطف مشبوبة ولهم مشكلاتهم التي يعرفها الإنسان في كل زمان ومكان. وهكذا لم يلبث المسرح الألماني أن استقل بأدبه عن جميع المسارح الأوربية، وأصبح له مذهبه الدرامي الخاص الذي يتفرد به بين هذه المسارح حتى صار في مقدمتها افتناناً من وجهتي الشكل والموضوع، وحتى صار معهداً دائب الحركة، محتفظاً بجمهوره المشغوف بكل جديد وبكل شاذ. ولا جرم أن مذهب (التعبيرية قد ينشأ من مذهب الرمزية إن لم يكن هو نفسه هذه الرمزية بعينها، وربما اضطر إليه المؤلفون ليخفوا وراءه ما أشربت به قلوبهم من فلسفة نيتشة الكفرية، وذلك اتقاء مجابهة الجمهور المتدين إلى حد ما بأفكارهم الثورية ضد (الشرق) بأديانه وتقاليده، وضد الضعف الذي شقيت به ألمانيا قبل أن تتوحد، وليستطيعوا بذلك أن يبثوا فيه تلك النُّعرة الجرمانية التي تدعى أن الألمان هم أقرب الأجناس البشرية إلى (السبرمان) وأنهم أولى الأمم بالتحكم في بقية القافلة الإنسانية. . . والدرامة التعبيرية لا تصرح بأسماء الأعلام في فصولها - أو في مناظرها بتعبير أدق - فلا تسمي أبطالها زيداً أو عمراً أو إدورد أو شرلوت بل تسميهم الرجل الأول والرجل الثاني والخادم والصانع والمرابي والحبيب والحبيبة والقاتل. . . الخ وهي في ذلك تشبه الدرامة الأخلاقية التي نسخت الطورين الأولين من أطوار نشوء الدرامة الإنجليزية والفرنسية، ألا وهما طور الدرامة السمعية أو الإنجليزية والطور النقابي إذ لا نسمع في الدرامة الأخلاقية أسماء أعلام قط، بل تحل محلهم أسماء الفضائل المجردة والرذائل المجردة، فهذا ممثل يمثل الأمانة وذاك ثاني يمثل الشر وهذا ثالث يمثل الصدق، وذاك يمثل الكذب وهكذا

ويأخذ النقاد الإنجليز والفرنسيون على هذه البدعة من بدع الدرامة الألمانية أنها إحياء لمذهب قديم ثبت فساده، لأن الأسماء المجسمة - أي أسماء الأعلام - أثبت في الذهن من هذه الرموز التي لا تؤثر في الجمهور، حتى ولا في الخاصة، كما تثبت وتؤثر أسماء الأعلام. . . فشخصيات هملت وعطيل وشيلوك ورومير ولير وطرطوف وما إليها من الشخصيات الخالدة لم يكن من الممكن أن تكسب هذا الخلود لو سميناها الشباب والغيرة والربا والحب. . . الخ أو لو سُمِّيت الشاب والأسود واليهودي والعاشق. . . الخ

وذلك لأن الرابط التذكري في أسماء الأعلام أقوى منه في الصفات والمصادر. ويتساءل النقاد الذين ذكرنا فيما كانت النقلة من الدرامة الأخلاقية التي لا نذكر فيها أسماء الأعلام والتي استوعبت الطور الثالث من أطوار نشوء الدرامتين الإنجليزية والفرنسية إلى المأساة التي استوعبت الطور الرابع العظيم من تأريخ تلكما الدرامتين؟ لابد أن التجربة قد دلت على فساد تلك الرموز التي كانت تطلق على شخصيات الدرامة الأخلاقية، ولابد أن الجمهور قد مل هذه الألغاز الذي لا مسوغ له ولا ضرورة تلجئ إليه ولا خبر يرجئ فيه إلا أن يكون وسيلة لذلك الغرض الخفي المستتر الذي أشرنا إليه، وهو الخوف من مجابهة الجمهور بالحقائق السافرة، وإيثار اللف والطرق الملتوية على الجادة الواضحة والنهج السوي. ولو فطن مبتدعو المذهب الرمزي - والتعبيري - ممن يدينون بنيتشه، لآثروا الصراحة على الالتواء، لأن فيلسوفهم دعا إلى الشجاعة قبل أن يدعو إلى فضيلة أخرى من الفضائل. . . وأي شجاعة، بل أي تهور، أشد من الدعوة إلى الثورة على الله!

يتساءل هؤلاء النقاد: لم لم ترتفع أية درامة تعبيرية - درامة واحدة - إلى الأفق السامي الذي ارتفعت إليه درامات شيكسبير وبن جونسون وسنج وشو وشريدان وإبسن ومترلنك وشيكوف وموليير وساردو وسارسي وبيراثدلو وجاكنتو بينافنت إلى آخر هذا الثبت الحافل العظيم من مؤلفي الدرامة الأوربية الخالدة من غير المؤلفين الرمزيين؟. . . وهذا في الواقع سؤال له وجاهته. ويزيد في دلالته على أنه الحق، أن مسارح المستودعات ما تزال قائمة في ألمانيا وما تزال تعرض درامات هؤلاء المؤلفين الذين سمينا هنا وغيرهم فيقبل عليها الشعب الألماني إقبالاً عجيباً يترجم عما يكنه هذا الجمهور من النظارة من الشغف بتراث الإنسانية العظيمة النيرة و (لسنا نقول هذا غضاً لقيمة الدرامة الرمزية في ألمانيا؛ إذ أن لها جمهورها الراقي المثقف الذي يتألف من خلاصة رجال الفكر الألماني. . . إلا أننا نرى أنها ليس مما يلائم جماهير النظارة ممن يقصدون إلى المسارح الشعبية)

دريني خشبة