مجلة الرسالة/العدد 518/إنشاء معهد لفنون التمثيل
مجلة الرسالة/العدد 518/إنشاء معهد لفنون التمثيل
ضرورة لا غنى عنها
للأستاذ زكي طليمات
المدير الفني للفرقة المصرية للتمثيل والسينما
(تحية للأستاذ دريني خشبة الذي يعنى بشئون المسرح المصري ويفسح لها من علمه وأدبه)
إن ما تجري عليه الحكومة من وسائل ترقية فن التمثيل وتشجيع القائمين به - وأبين مظاهرها قيام الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى - إنما هو علاج مؤقت لحالة يجب أن يشملها إصلاح واسع يرتكز على سياسة إنشائية ترسم الوجهة التي يجب أن يولي المسرح المصري وجهه شطرها، ويكون من أول ما تسعى إلى تحقيقه إنشاء معاهد لفن التمثيل تعلم فيها فنونه وصناعاته على حقيقتها، وتكفل نشر ثقافة حقة لهذا الفن الجميل
وإنا إذ نقرر هذا ونشير به لا ننسى اعتباراً آخر له أهميته في تدعيم أساس لفن التمثيل وأدبه، وأعني به المسرحية المحلية ومؤلفها، بيد أن إيجاد هذا المؤلف النابه لا يتم بمجرد استشعارنا الحاجة إليه والبحث عنه، إذ أنه من فعل البيئة الثقافية وصنع الواعية الباطنة للمجتمع، وهذه أشياء تخرج على طوقنا لا حيلة لنا في السيطرة عليها. غير أنه مما لا شك فيه أن إذاعة ثقافية منظمة لهذه الفنون وتنظيم فرق تمثيلية تتسامى في عملها على الارتجال والجهل والتهويش والعرض الزائف لمما يساعد على خلق البيئة الفنية الصالحة التي قد ينجم منها المؤلف المسرحي الذي يسجل سمات الإنسانية العامة في معالم جيله، ويكشف عن القلب البشري في مسرحياته. لهذا نتجاوز عن هذا الاعتبار على أهميته، لنعالج عنصراً آخر له أيضاً أهميته لأنه مما يقوم عليه المسرح في كل زمان ومكان، ألا وهو الممثل والمخرج
إن إنشاء معاهد للتمثيل ضرورة ملحة مأتاها أن فن التمثيل باللسان العربي ليس أصيلاً في الأدب العربي، ولا هو من مرائي الحياة الاجتماعية في مصر، بل هو لون من الفن والأدب منتحل من الغرب، دخيل على المجتمع المصري منذ أن تفتحت أبواب من الأدب العربي على الأدب الغربي في أواسط القرن الماضي، فتقاليده غير ممتدة في التربة المصرية، وفنونه وصناعاته غير مستبطن دخائلها، والقائمون بأمره ليسوا كلهم مما يرتفع بهم هذا الفن ويسمو، وذلك لخفة مؤونتهم من التعليم العام والثقافة الفنية. وإن ما انتهى إليه المسرح المصري في شتى نواحي هذا الفن، ولا سيما فن الأداء التمثيلي والإخراج، إنما هو ثمرة الجهاد الذي يقوم على الموهبة العاجزة والميل الشديد أكثر مما يقوم على الموهبة المثقفة والدراية الكاملة بمعارف هذه الفنون ولمقاليدها، وهو جهاد كان يسفر ولا شك عن مستوى أرفع مما انتهى إليه لو أنه أحيط بالدراسات التي تنمي مواهب القائمين به وتوسع في آفاق تفكيرهم وتردهم دائماً إلى الموثوق بصحته من التعاليم الفنية، إذ أن كل فن جميل إنما يقوم على عمادين: الدراسة والميل، ولا يقوم على واحد منهما
ولا أغالي إذا قررت أن فن التمثيل في مصر يتفرد بين جميع الفنون بأنه قائم من غير مدرسة ولا خطة تعليمية ما، وهذه حال تثير العجب والأسف في وقت واحد
وليس فن الأداء التمثيلي وصناعات المسرح وفن الإخراج مما يرتجل ارتجالاً بدفعة الميل والرغبة، وإمداد الجرأة، ومواتاة المدارك فحسب، وإنما هي فنون تقوم على التثقيف النظري الواسع والممارسة السليمة من الزيف، بعد أن تناولها العلم بالصقل والتوليد، فقعّد لها القواعد وأصّل الأصول
نقرر هذا من غير أن نجحد ما للمواهب التي تركبها الطبيعة في الخلق من أثر كبير في نتاج الفنان، فقد وعت حافظة المسرح في مختلف الأقطار أسماء ممثلين اتسم عملهم بالنبوغ من غير أن يخضعوا لتعاليم معهد أو كتاب فن، ولكن هذا النبوغ قليل، يكاد يخرج على كل قاعدة وتعليم، فهو أمر خارق وشاذ لا يؤخذ به في وضع النظم التعليمية العامة
وفن الأداء التمثيلي وفن الإخراج، عنصران لهما خطرهما وأهميتهما في هذا الفن. وذلك باعتبار أنهما أداة الاتصال بين المسرحية والجمهور. المخرج والممثل: الأول يرسم وينشئ، والثاني يؤدي ويطالع الجمهور، فبطريقيهما يجري التأثير وتتم الفائدة من حضور الرواية
وقد سبق لوزارة المعارف العمومية أن أخذت بوجهة النظر هذه بعد أن سجلتها في تقريري الذي قدمته إليها مفصلاً معززاً بأقوال الثقاة من رجال الفن المسرحي في أوربا، وهو تقرير قدمته عام 1929 عقب عودتي من البعثة الفنية في مسارح أوربا ومعاهدها، فكان أن أنشأت معهداً حكومياً للتمثيل عام 1930، ولكن هذا المعهد لم يقطع من سني حياته غير العام الأول، ثم ذهب ضحية المنازعات الشخصية التي كان يختلج بها صدر الوزارة في ذلك الوقت، فأغلقت أبوابه بدعوى أنه مخالف للتقاليد الشرقية!
وكان من جراء هذا أن انهار ركن كبير من سياسة إنشائية مرسومة، وحرم المسرح العربي من أن تعمل فيه وجوه جديدة لها مستواها الثقافي العالي ومواهبها الممتازة، فكان ذلك القصور المشهود في فنون المسرح، وكانت هذه المعاناة في سبيل إصلاحه. وها قد مرت اثنتا عشرة سنة منذ أن أغلق المعهد الحكومي أبوابه، بذلت أثنائها جهود مختلفة للارتقاء بمستوى المسرح، ولم تسفر عن شيء في سبيل تحقيق هذه الغاية، وبقيت الفرق العاملة تشكو ما كانت تكابده من ضعف في وسائل الأداء، وما تعانيه من افتقار إلى وجوه جديدة تحمل المشعل بأيد فتية وتواصل الجهاد إلى جانب ذلك النفر العزيز من الممثلين والممثلات المقتدرين، وهم نفر قليل عددهم قد برزوا في فنهم بخصب مواهبهم وفيض مؤهلاتهم. وإنني أتساءل ماذا يحل بالمسرح المصري في ناحية فن الممثل لو أن هذا النفر العزيز تنحى عن خدمة المسرح مختاراً بدافع الشبع والزهد، أو مجبراً بعامل المرض أو الوفاة؟.
إن إنشاء معهد للتمثيل أصبح ضرورة لا مندوحة عن مواجهتها لوزارة الشؤون الاجتماعية التي آل إليها أمر الفرقة المصرية وإعانات التمثيل والموسيقى
وما دامت الوزارة قد أولت المسرح المصري هذه العناية المأثورة إذ تتعهد الآن بنفسها أمر توجيهه وتقويمه ورعاية القائمين بأمره، فما أظن أن رعايتها تقصر عن إنشاء معهد للتمثيل يكون حجر الزاوية لمرحلة جديدة ينتقل إليها المسرح وقد رسخت له قدم ثابتة فيها هي جوهر له وأساس.
زكي طليمات