انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 516/العقيدة الدينية وطريق ثبوتها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 516/العقيدة الدينية وطريق ثبوتها

مجلة الرسالة - العدد 516
العقيدة الدينية وطريق ثبوتها
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1943



للأستاذ محمود شلتوت

التكاليف علمية وعملية - العقائد - طريق ثبوتها - النظريات الخلافية الاجتهاد فيما لا قاطع فيه يمنع التأثيم - أثر التعصب المذهبي - تطبيق

قال العلماء: إن للإنسان قوتين؛ إحداهما نظرية، وكمالها في معرفة الحقائق على ما هي عليه؛ والأخرى عملية، وكمالها في القيام بما ينبغي من الشئون في الحياة. وقد قرر الإسلام هذا المبدأ أساساً لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فجاءت تكاليفه نوعين: منها ما يطلب علماً، ومنها ما يطلب عملاً. ونرى ذلك واضحاً جلياً في هذه الكثرة من الآيات القرآنية التي تجمع بين الإيمان والعمل وتربط بهما النجاة والسعادة: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً). (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات). . . الخ.

وقد اصطلح العلماء على تسمية التكاليف التي تطلب علماً (بالعقائد) أو (أصول الدين) كما اصطلحوا على تسمية التكاليف التي تطلب عملاً (بالشريعة) أو (الفروع)

ولما كانت الحقائق التي يمكن أن يعلمها الإنسان كثيرة، وكان أكثرها لا يتصل من قريب بالسعادة التي يقصدها الشارع قضت الحكمة أن يبيَّن للناس ما يجب عليهم أن يؤمنوا به في سبيل الحصول على تلك السعادة. وذلك عند التحقيق يرجع إلى الأصول التي اشتركت فيها الأديان السماوية جميعها من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. . . الخ

حدد الشارع هذه الأمور، وطلب من الناس الإيمان بها. والإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل. ومن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يحصله كل ما يسمى دليلاً، وإنما يحصله الدليل القطعي الذي لا تعتريه شبهة

وقد اتفق العلماء على أن الدليل العقلي الذي سلمت مقدماته، وانتهت في أحكامها إلى الحس أو الضرورة يفيد ذلك اليقين ويحقق الإيمان المطلوب

أما الأدلة النقلية فقد ذهب كثير من العلماء إلى إنها لا تفيد اليقين ولا تحصل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة. قالوا: وذلك لأنها مجال واسع لاحتمالات ك تحول دون هذا الإثبات. والذين ذهبوا إلى أن الدليل النقلي يفيد اليقين ويثبت العقيدة شرطوا فيه أن يكون قطعياً في وروده، قطعياً في دلالته. ومعنى كونه قطعياً في وروده ألا يكون هناك أي شبهة في ثبوته عن الرسول ، وذلك إنما يكون في المتواتر فقط. ومعنى كونه قطعياً في دلالته أن يكون نصاً محكماً في معناه، وذلك إنما يكون فيما لا يحتمل التأويل. فإذا كان الدليل النقلي بهذه المثابة أفاد اليقين وصلح لأن تثبت به العقيدة. وأمثلة ذلك فيما ورد إلينا آيات القرآن التي تحدثت عن التوحيد والرسالة واليوم الآخر وما إلى ذلك من أصول الدين؛ فقد جاءت - كما هي قطعية في ورودها - قطعية في دلالتها، لا تحتمل أكثر من معناها: (فاعلم أنه لا إله إلا الله). (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد). (قل بلى وربي لتبعثن). (قل يحيها الذي أنشأها أول مرة). (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله). (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين)

هذا هو شأن العقائد وطريق ثبوتها. ولا بد أن يعم العلم بها جميع الناس ولا يختص بطائفة دون أخرى، لأنها أساس الدين وبها يكون المرء مؤمناً فكيف يتصور في مؤمن أن يجهلها؟ ومن مقتضيات هذا العلم العام بها ألا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو نفيها

ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العمليات التي لم ترد بطريق قطعي، أو وردت عن طريق قطعي ولكن لابسها احتمال في الدلالة فاختلف فيها العلماء، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين، والتي تعتبر حدَّاً فاصلاً بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون!.

وإنك لتجد كثيراً من هذا النوع في كتب التوحيد إلى جانب العقائد التي كلفنا الله أن نؤمن بها، فهي تذكر إلى جانب وجود الله ووحدانيته والرسل واليوم الآخر مسائل: رؤية الله بالأبصار، وزيادة الصفات على الذات، ومرتكب الكبيرة، وما يكون آخر الزمان من ظهور المهدي والدجال والدابة والدخان ونزول عيسى وما إلى ذلك مما يذكر في مثل (خريدة الدردير) و (جوهرة اللقاني) وغيرهما

والتاريخ العلمي يدل على أن هذه مسائل جر إليها البحث في العقائد حين تعددت الفرق وكثرت الآراء والمذاهب الكلامية، فكانت محل اجتهاد بين العلماء كل يرى رأيه فيها، ويدلي بحجته على ما يرى ملتمساً الوصول إلى ما يلائم في نظره العقيدة المتفق عليها وأمثلة ذلك كثيرة، منها أن المسلمين جميعاً قد اتفقوا على أن الله تعالى منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. فهذه عقيدة قاطعة يعلمها كل مؤمن ولا يختلف فيها عالم مع عالم، ولكن البحث جر إلى مسائل تتصل بها: هل يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده؟ هل العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية؟ هل المعاصي التي يفعلها العباد مرادة لله؟ فاختلف العلماء في هذه المسائل: رأى المعتزلة أن ترك الأصلح، وتعذيب العبد على شيء لم يفعله، وإرادة القبيح، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى وجوب الأصلح على الله، وإلى أن العبد خالق لأفعال نفسه، وإلى انه لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب نفسه، وإلى أنه تعالى لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب شيء على الله، وعجزه عن خلق ما يفعله العبد، وحصول ما لا يريد في ملكه، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى أن الله لا يجب عليه فعل الأصلح، وإلى أنه خالق أفعال العباد، وإلى أنه يريد المعاصي. فأنت ترى أن هؤلاء جميعاً لم يختلفوا في الأصل الذي كلفنا الله الإيمان به وهو تنزيه الله تعالى عن النقص ووصفه بالكمال، ولكنهم اختلفوا في أشياء: هل هي نقص فلا يتصف الله بها، اوليست بنقص فيتصف بها، وقد ذكرت كتب التوحيد ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وأوردت الأدلة النقلية التي استدل بها كلٌ على ما يرى.

على هذا النحو جرى الخلاف بين الفرق الإسلامية في المسائل التي جر إليها البحث في العقائد، وهو خلاف كخلاف الفقهاء في أحكام الفروع التي لم يرد فيها نص قاطع محكم. خلاف لا يصح أن يُرمى أحد فيه بأنه حاد عن الصراط المستقيم، أو ضل، أو فسق، أو أنكر مسألة من مسائل الدين. . . الخ ولكن عصور التعصب المذهبي العنيف حملت للمسلمين تراثاً بغيضاً من التراشق بالتهم، والترامي بالفسوق والضلال، فتبادل الفقهاء أصحاب الفروع نوعاً من التهم، وتبادل المتكلمون أصحاب العقائد مثل ذلك، وتلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم وملأوا بها كتبهم، وأسرفوا في الاعتداد بها حتى جعلوها مقياس ما يقبل من الآراء أو يرفض

من هذا كله يتضح:

1 - أنه لا بد في العقيدة من أن يكون دليلها قطعياً في وروده وفي دلالته

2 - وأن ما لم يكن دليله قطعياً، فاختلف فيه العلماء، لا يصح أن يعد من العقائد، ولا أن يكون رأيُ طائفة معينة فيه هو الحق دون سواه

3 - وأن كتب التوحيد لم تقتصر على ذكر العقائد التي كلفنا الشارع بها، وإنما ذكرت بجانبها بعض النظريات العلمية التي تعارضت فيها ظواهر النصوص فكانت محل اجتهاد بين العلماء ونتيجة هذه كله: أن القول بأن كذا عقيدة يجب الإيمان بها لأن ظاهر الآية أو المروي من الحديث يدل عليه، أو لأنه رأي أهل السنة والجماعة مثلاً، أو لأنه مذكور في كتب التوحيد. كل ذلك قول من لا يفهم معنى (العقيدة) ولا يعرف أساسها الذي تبنى عليه.

لاشك أن هذه المبادئ التي ذكرنا تنير سبيل البحث لمن يريد معرفة الحق فيما هو من العقائد وما ليس منها، وهي مبادئ مسلمة عند العلماء يعرف كل مطلع على كتبهم ومناقشاتهم أنه لا نزاع فيها. وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا (أن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع) ولنا في ذلك نظرات ثلاث: نظرة فيما ذكروا من آيات، ونظرة فيما ساقوا من أحاديث، والنظرة الثالثة فيما ادعوا في هذا المقام من إجماع

فأما الآيات التي تذكر في هذا الشأن فنحن نرجعها إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: آيات تذكر وفاة عيسى ورفعه، وتدل بظاهرها على أن الوفاة قد وقعت، وهذه الآيات هي:

1 - قوله تعالى في سورة آل عمران (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ)

2 - قوله تعالى في سورة النساء: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم) إلى قوله: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه)

3 - قوله تعالى في سورة المائدة (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)

وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علمية واضحة، وعرضنا إلى آراء المفسرين فيها، وبينا أنه ليس فيها دليل قاطع على أن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، بل هي - على الرغم مما يراه بعض المفسرين - ظاهرة بمجموعها في أن عيسى قد توفى لأجله، وأن الله رفع مكانته حين عصمه منهم، وصانه وطهره من مكرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نعيد شيئاً مما ذكرناه

النوع الثاني: آيات ما كان ليخطر بالبال أن لها صلة بموضوع البحث، فلذا لم نفكر فيها، وحسبنا الآن أن نمثل لهذا النوع بما قال أحدهم:

(ولك أن تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه السلام (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين). ففي قوله (ومن المقربين) إشارة إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين)

والشيخ يريد السماء طبعاً، وهو ليٌّ للكتاب غريب، فقد وردت كلمة (المقربين) في غير موضع من القرآن الكريم: (والسابقون السابقون أولئك المقربون). (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم). (عيناً يشرب بها المقربون) وإذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها ويزداد عددهم يوماً بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!

ثم يقول: (بل في قوله تعالى (وجيهاً في الدنيا والآخرة) إشارة إلى ذلك، لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه، ولا أدل على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء)

وهذا كلام لا يقال، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل: أنى قد جئتكم بآية من ربكم) فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيهاً في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحاً ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟

النوع الثالث: آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما، وجاء في بعض ما قيل أنهما تدلان على نزول عيسى وهما:

1 - قوله تعالى في سورة النساء: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)

2 - وقوله تعالى في سورة الزخرف: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها)

ولا نحب أن يطيل اليوم على القراء بالبحث في هاتين الآيتين وبيان درجتهما في الدلالة على ما زعموا، فليكن ذلك في حديثنا المقبل إن شاء الله.

محمود شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء