انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 513/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 513/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة - العدد 513 المؤلف زكي مبارك
الحديث ذو شجون
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1943


للدكتور زكي مبارك

درس في الأخلاق - الكتاب الأسود - زكي مبارك كما يراه عباس العقاد - الطبيعة المصرية - الترجمة عمل مطلوب ومفيد، ولكنها لا تدل على الأصالة الذاتية

درس في الأخلاق

صديقي. . .

أوجه إليك هذه الكلمة، وأنا أرجو أن تقرأها فيما بينك وبين نفسك، بلا تفكير في التعقيب، لأني لن أستمع لك إن قابلتها بأي اعتراض، فما يتسع وقتي للمجادلة في أمور صارت عندي من البديهيات

وأسارع فأقرر أني لا أقيم وزناً للتشكي من الزمان، على نحو ما يصنع بعض الشعراء، وعلى نحو ما كنا نصنع يوم كنا نتوهم أن الحظوظ تقسم بلا ميزان

أنا اليوم أومن بأن لله قانوناً اسمه النظام، وهو يطرد في جميع الشؤون، فالشمس بنظام، والقمر بنظام، وجميع الخلائق بنظام يفسده أقل اختلال

لا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا وفقاً لقوانين أزلية لا يجوز عليها الانحراف

السيد سيدٌ بحق، والعبد عبدٌ بحق. . . ولو حمل الهرُّ روح الأسد لصاوله في حومة الصراع بلا تهيب ولا إشفاق

نحن المسئولون عن تخلفنا حين نتخلف، لأن في مقدورنا أن نصل إلى أعظم مكانة إن تحلينا بالصدق في الجهاد، ولأن في استطاعتنا أن نكون عظماء يشغلون التاريخ، إن ناضلنا في سبيل المجد نضالاً يقرع سمع التاريخ

وهذا لا يتيسر إلا إن راعينا نظام الوجود

ذلك السائل لا يستحق غير ذل السؤال، لأنه يخمد قواه عن عمد ليظفر بالصدقات العجاف

وذلك البليد الذي رضي أن يكون طول عمره من الذيول سيظل ذيلاً لأنه بليد. . . وذلك التابع السخيف لمتبوعين سخفاء لن يصلح لشيء، لأنه يستظل بأموات يعيشون في ظلال الأموات. . . وذلك الذي يتبهنس بفضل حماية غيره لن يرتفع بأي حال، وإن استعان بطنين الذباب لك ما تريد لنفسك، على شرط أن تفهم تلك القوانين الأزلية فتجاهد في حدود الصدق جهاد الرجال

لك ما تريد لنفسك، على شرط أن تترك الأوهام التي تزعم أن الرجل لا ينجح إلا إن صادفته فرصة تنقله من حال إلى أحوال

الفرصة في يدك إن أردت، ولكن متى تريد؟

أنت لغفلتك تتوهم أن الذين سبقوك إلى المال أو الجاه لم يسبقوك إلا بفضل الفرص التي سنحت على غير ميعاد

الفرصة في يدك، وميعادها بيدك، على شرط أن تكون رجلاً لا يجوز عنه الاستغناء

زوّد نفسك بالمزايا التي ترفعك، واقض ليلك ونهارك في كسب الخصائص التي تجعلك من أهل التفوق، وإن استطعت أن تكون الرجل الأول في المذهب الذي اخترته لنفسك فلن تشكو الغبن ولو قامت في طريقك ألوف وألوف من الأشواك

الرجل الذي يستطيع أعداؤه وحاسدوه أن يهدموه ليس بالرجل العظيم، وإنما هو وليد ظروف ومصادفات جعلته شبحاً يوهم من يراه أنه شخص من الأشخاص، وما أريد لك هذا الحظ الضئيل

أتريد أن تكون كذلك المسكين الذي يعرف في قرارة نفسه أنه لا يستطيع الوقوف على قدميه بلا سناد؟

ما لهذه الغاية الضئيلة خلقنا، وما لهذا النصيب الهزيل منَّ الله علينا بنعمة السمع والبصر والفؤاد

الكسل آفة سخيفة، وهو يميت مواهبنا الذاتية، ويمضي بنا إلى مهاوي الخمود

الكسل مذموم العواقب، وهو من صور الموت، لأنه أول خصائص الأموات

وأنت يا صديقي كسلان، بغض النظر عن نشاطك في لحظات التشكي من زمانك، وهو نشاط المريض في لحظات الصراخ

غيِّر ما بنفسك يا صديقي ليغيّر الله ما بك، واحذر أن تأكل رغيفاً بغير حق، كأن تأخذ أجراً على عمل لا تؤديه أحسن الأداء

الكتاب الأسود تسامع الناس قبل أسابيع بأن سعادة الأستاذ مكرم باشا عبيد نشر كتاباً سماه الكتاب الأسود، وقال من قرأوه إنه غاية في قوة الحجج والبراهين، فدفعني الشوق إلى الاطلاع عليه، وأنا بلا مباهاة أقرأ جميع ما تنشر المطابع فيما يتصل بالحياة الأدبية والوطنية لأساير اتجاه الأفكار في زماني

فماذا رأيت في الكتاب الأسود؟

رأيت مؤلفه اهتم بالشؤون الداخلية، وترك الشؤون الخارجية، فما معنى ذلك؟

أتكون وزارة النحاس باشا سلمت كل السلامة من التقصير في الشؤون الخارجية ونحن في زمن تكثر فيه المشكلات الدولية؟

إن كان هذا هو الواقع بفضل سكوت مكرم باشا فوزارة النحاس باشا أعظم وزارة تغلبت على المصاعب الدولية في أحرج لحظات التاريخ

وإن كانت هناك مآخذ على الوزارة الوفدية من الوجهة الدولية فسكوت مكرم باشا على تلك المآخذ سكوت المريب

التعرض للشؤون الداخلية يغضب النحاس وحده. أما التعرض للشؤون الخارجية فيغضب ناساً يراعيهم مكرم في السر قبل العلانية

ما هذه المغالاة في تعقب الشؤون الداخلية، مع ترك الشؤون الخارجية؟

الجواب حاضر: فسعادة الأستاذ مكرم باشا يتوهم أن مسلمة الأمور الدولية قد تنفع بعد حين، وقد تردُّه إلى وزارة المالية بعد أحايين!

نحن نبالغ في إيذاء المواطنين باسم الوطنية، ونسكت عن الشؤون الخارجية باسم الديبلوماسية، وذلك هو ما صنع الأستاذ مكرم عبيد!

هل أستطيع أن أسأل عن المصير الأخلاقي لمن يجرح قوماً عاشرهم في أعوام تزيد على العشرين؟

وهل أستطيع سؤال مكرم عن سر سكوته فيما يختص بمتاعب مصر من الوجهة الدولية؟

من واجب مكرم باشا أن يقرأ هذه الكلمة ليراعيها في كتابه المقبل. وهذا درس في الوطنية أقدمه إليه بالمجَّان

زكي مبارك كما يراه عباس العقاد تفضل الكاتب الكبير الأستاذ عباس العقاد فخصني بكلمة نقدية في مجلة الأثنين، وهي كلمة تؤيد رأيي في مذهبه الأدبي. . . ألم أحدثكم أن منطق العقاد يستقيم في جميع الشؤون إلا فيما يتصل بزملائه من الأدباء المصريين؟

إن لي في أدب الأستاذ العقاد آراء صحيحة لم تتأثر بتحامل المعاصرين بعضهم على بعض، وقد أثنيت على أدبه في ظروف لا تسمح بأن ينتظر مني أي ثناء، فقد تخاصمنا وتعادينا في آماد وآماد، ثم كانت العاقبة أن أعترف بجهاده في الحياة الأدبية، وأن أذكره بالجميل حين يستأهل الجميل

قال الأستاذ عباس العقاد: (إن الدكتور زكي مبارك أقل الكتاب شخصية في حياته الكتابية وإن أسلوبه الكتابي معروض لتوقيع من يشاء)

فبأي منطق وبأي حق يقول الأستاذ العقاد هذا الكلام الغريب؟

هل يستطيع أن يدلنا على كاتب يضع اسمه على كتاب (النثر الفني) أو كتاب (التصوف الإسلامي) أو كتاب (عبقرية الشريف الرضي) أو كتاب (ذكريات باريس) أو كتاب (اللغة والدين والتقاليد) إلى آخر ما أخرجت من المؤلفات؟

ثم يقول الأستاذ العقاد ما نصه بالحرف:

(الدكتور زكي مبارك حضر الأزهر والجامعة المصرية وجامعة باريس، ولكنه لا يمثل الأزهر ولا الجامعة المصرية ولا جامعة باريس)

وهذا كلام يسرني، وإن أراد به العقاد إيذائي، فأنا أبغض الاستعباد للمعاهد والمذاهب، وأعتقد أن أدبي سيعيش بعد أن تصبح تلك الجامعات خبراً لا تعيه ذاكرة التاريخ

زكي مبارك هو زكي مبارك كما قال العقاد، وهي أصدق كلمة قالها العقاد، على كثرة ما صدق في أحكامه الجوائر على أدباء هذا الجيل

قد يقول الأستاذ عباس العقاد كما قال الدكتور طه حسين: إن شخصية زكي مبارك المؤلف قوية كل القوة، وإنما الخلاف في شخصية زكي مبارك الكاتب

وأقول إن هذا ظلمٌ من الدكتور طه والأستاذ العقاد، وأنا أتحدى هذين الرجلين بكتاب (ليلى المريضة في العراق) فهو آية من آيات البيان

وما رأي الأستاذ العقاد في المقالات التي أنشرها بمجلة الرسالة من أسبوع إلى أسبوع؟ أيظنها مقالات معروضة لتوقيع من يشاء، كما يقول؟

مجموعات الرسالة تشهد بما أملك من قوة الذاتية، وهي أيضاً تشهد بأن أسلوبي أقوى من أسلوبه وأبلغ، وبأني أحلق في آفاق لا يصل إليها ولو استمسك بأوهام الخيال. والعقاد يعرف في قرارة نفسه أنه لا يقدر على مجاراتي في أي ميدان

وما رأي الأستاذ العقاد في القصائد التي نشرتها بمجلة الرسالة؟

هل يستطيع أن ينظم مثلها في أي غرض؟

أنا أتحداه أن ينظم قصيدة مثل قصيدة (مصر الجديدة) أو قصيدة (الإسكندرية) أو قصيدة (بغداد)

العقاد شاعر كبير، ولكنه لا يستطيع أن يكون أشعر مني، وله أن يحاول مصاولتي في ميدان الشعر إن أراد

قال الأستاذ العقاد: (زكي مبارك الكاتب لا يستغني عن زكي مبارك بحال من الأحوال، إذا استغنى المؤلفون عن أنفسهم في بعض الأحيان)

وهذا حق وصدق، وهو الدليل على ما أملك من قوة الذاتية؛ وإذا استغنى العقاد عن نفسه فأنا لا أستغني عن نفسي، لأنها أثمن ما أملك

أما بعد فما الذي دعا الأستاذ العقاد لمناوشتي بمثل ذلك التحامل الذي لا يليق بمن يكون في مثل منزلته الأدبية؟

وما عدوانه على كاتب ذكره بالخير في أكثر ما أنشأ من المقالات والمؤلفات؟

رأيي في العقاد لن يتغير بأي حال، فهو كاتب وشاعر وناقد ومؤلف، وسأزكيه عند قرائي بلا بخل وبلا إسراف، ولكني أرجوه أن يتذكر أن له صديقاً يكره أن يكون من المطففين

إن كان الأستاذ العقاد رأي بفكره الثاقب أني سأتلطف في الرد عليه فقد صدق فيما رأى، فما أستبيح الهجوم على رجل يحمل القلم منذ أعوام تجاوز الثلاثين، وقد تشارفت الأربعين، أطال الله في حياته وأسبغ عليه نعمة الصفاء

الطبيعة المصرية

وأراد الأستاذ العقاد أن يحكم بأن الدكتور هيكل كاتب لا يثب إلى الآفاق العالية ولا ينقض إلى الأغوار العميقة، فجعل ذلك وفاء للطبيعة المصرية، طبيعة الأرض التي يرويها النيل بغير عناء كما يقول

وأقول إن الطبيعة المصرية لا تعرف السهولة التي عناها الأستاذ العقاد، وليس بصحيح أن أرض مصر يرويها النيل بغير عناء، فهو لا يؤدي واجبه في ري الأرض إلا بالجمة من القناطر والجسور، ولا ينكف شره إلا بمتاعب ثقال

والحق أننا أسرفنا في وصف الأرض المصرية بالاستواء، وكدنا نوهم أنفسنا بأن بلادنا قليلة التنوع في المناظر، وقليلة القدرة على إبداع النقائض في المذاهب والآراء

والعقاد مصريٌ من أسوان، فما الاستواء الذي يراه في الطريق بين القاهرة وأسوان؟ ومتى سهل ري الأرض في مصر وهو المشقة الأولى في حياة الفلاحين؟

والعقاد لا يبخل على نفسه بما بخل به على هيكل، فهو في نظر نفسه من الذين يثبون إلى الآفاق العالية وينقضون إلى الأغوار العميقة، فعن أي أرض ورث الوثوب والانقضاض؟

إن الوطن المصري وطن مبدع، وله في الإبداع ألوان، ومن آيات إبداعه أن يجود في العصر الواحد بأفانين من الأذواق والعقول في كثير من الميادين

ثم ماذا؟

ثم يبقى القول في تحامل العقاد على المازني، وقد أراد أن يستر تحامله فشهد بأن المازني أقدر كاتب على الترجمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية

فمتى كانت الترجمة عملاً ذاتياً يقام له ميزات بين أعمال الرجال؟

الترجمة شيء مطلوب ومفيد، ولكنها ليست بالعمل الذي يجعل فرداً أقدر من فرد، وأمة أقوى من أمة، ومزية مصر أنها تبدع قبل أن تترجم، وذلك دليل الأصالة الذاتية، وهو سر تفوق مصر على كثير من الشعوب

من المؤكد أن الأستاذ العقاد كان يمزح وهو يسطر مقاله لمجلة الاثنين، فإن بدا له أن يجد فليساجلني على صفحات الرسالة الصديق، وله مني خالص التحية وعاطر الثناء.

زكي مبارك