انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 512/أثر المرأة في علي محمود طه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 512/أثر المرأة في علي محمود طه

مجلة الرسالة - العدد 512
أثر المرأة في علي محمود طه
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1943



للأستاذ إدوارد حنا سعد

الحرمان من المرأة - كدافع نفسي - ليس خيراً في ذاته ولا شراً؛ ولكن الخير أو الشر إنما يتعلقان بالوسيلة التي يتبعها لإشباع رغباته: وهو في الفن خير محض لأنه كان نبعاً فياضاً استقى منه الملهمون وخرجوا على الناس بذخائر خالدة على الزمن

والأدب المصري مدين للحرمان بنبوغ الشاعر الرقيق الأستاذ علي محمود طه، فقد لمس نفسه الحساسة فأذكى شاعريتها ومرَّ على قيثاره الشاجي بأعذب الألحان

على أنه مما يلفت النظر في الأدب المصري المعاصر ذلك التباين الواضح بين ضآلة أثر الحرمان في نتاج الأدباء المعاصرين ممن نسميهم شيوخ الأدب. . . وعمقه ووضوحه في نتاج الطائفة التي تأخرت عنهم في السن أو تاريخ الظهور الأدبي، ومرجع ذلك فيما أعتقد إلى تحجب المرأة قبل الحرب الماضية، ثم ثورتها على الحجاب يعيد تلك الحرب، واشتراكها في كثير من مناحي الحياة الاجتماعية

قد ينشأ الحرمان عن خيبةٍ قوية في حب قوي فيكون من أثره ولوع صاحبه بإعلان عدائه للمرأة، فإذا وجد أن في ذلك منافاةً لما درج عليه الناس اندفع بطريقة لا شعورية إلى تسفيه الآراء الشائعة والتعالي بقيمته الذاتية. وأثر هذا الضرب من الحرمان شديد الوضوح في الأستاذ توفيق الحكيم عدو المرأة وصاحب الرأي المعروف في تفضيل الجاهلة على المتعلمة كزوجة، وكاتب المقال الذي يقول فيه إن الزواج من أربع نساء أمر تحتمه الطبيعة، وذلك حين رأى التفكير متجهاً إلى سن تشريع يمنع ذلك إلا عند الميسرة وضمان العدل بين الزوجات. ثم يقول عن نفسه إنه (خالق)، وعن الأشخاص الذين يصورهم في قصصه إنهم مخلوقاته، ويقول عن أحد قرائه (زارني هذا الطبيب الفاضل ثلاث مرات دون أن يحظى برؤيتي)

وقد يكون الحرمان ناشئا عن خيبة في إنشاء علاقات غرامية في فجر الشباب، فيولع صاحبه بالتحدث عن علاقات غرامية موهومة أو مبالغ فيها؛ وقد يصدر كتاباً - كما فعل الأستاذ الصاوي - يتحدث فيه عن حياة قلبه وتكون عناوين فصوله:

(وأما السابعة. . . وأما الثامنة. . . وأما التاسعة) وقد يولع الشاب بفتاة من طبقة معينة ولا تستجيب لغرامه فيكون منه قصصي كالأستاذ محمود كامل معظم بطلات قصصه من خريجات المدارس الفرنسية، وكلهن من بنات الباشاوات وعلى الأخص كبار الضباط المتقاعدين. ولكل فتاة من هؤلاء محب يُشترط فيه أن يكون محامياً له إلى جانب مهنته شهرة أدبية أو فنية وله سيارة صغيرة يقودها بنفسه

هذه المقدمة لازمة لكي نفهم منها فهماً واضحاً أثر المرأة في الأستاذ علي طه، ففي نفسه الشاعرة رواسب من حب خاب، وعلاقات فشل في إنشائها، وطبقة لم تلتفت إليه بناتها هي على الأغلب طبقة الفنانات. هذه الرواسب كونت منه رجلاً فيه من توفيق الحكيم بعض تعاليه، وفيه من الصاوي بعض تفاخره، وفيه من محمود كامل اهتمامه بطبقة معينة تبدو من كثرة حديثه عن مخادع المغنيات والراقصات

وقد امتزجت هذه العناصر وتفاعلت فإذا به في شعره - وقد يكون في حياته الخاصة - زير نساء يطلب المرأة لأنها إحدى النساء، وليس بعاشق يميز امرأة واحدة من دون النساء

والمفروض في زير النساء أنه رجل مستهتر، قوي، كثير التنقل بين (الحبيبات)، مشغول البال بالمرأة، شديد الالتفات إلى نواحي جمالها وزينتها، محبوب منها وأنيق

وكل هذه الصور واضحة في شعر علي طه ونثره أشد وضوح فهو مستهتر لا يبالي أن يقول:

حلفتُ بالخمر والنساء ... ومجلس الشعر والغناء

أو يقول:

فاعذري الروح إن طغى ... واعذري الجسم إن ثأر

ثمر ناضج الجني ... كيف لا نقطف الثمر

وهو رجل قوي، استغفر الله بل فتىً قوي، يقول عن زملائه ركاب السفينة (كانوا يعجبون من هذا الفتى الأسمر الذي يقتحم غرفة المائدة ليملأ معدته بالطعام بينما هم مستلقون على ظهورهم من دوار البحر أو ممسكون بمعداتهم من الألم والاضطراب!)

ويقول:

الثلاثون قد مضت ... في التفاهات والهذر

فهذه الصورة قد تتفق مع صورة دون جوان، ولكنها قد لا تتفق مع الحقيقة. ففي مقال الأستاذ الزيات عن أرواح وأشباح يقول: (وبين اللقيا الأولى للصديق والقراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة). (وكان إذ ذاك في إبان شبابه وكنت في عنفوان شبابي) ومن هذا يتضح أن لفظة (الثلاثون) هذه لم تأت إلا لضرورة الشعر

ثم هو رجل كثير التنقل بين الحبيبات، فهو في الجندول مع البولونية الحسناء، وهو في بحيرة كومو مع الأديبة الأمريكية الفاتنة، وهو على الرين مع (صديقة سويسرية التقى بها في ذلك الجو الساحر الخ. . . وهذا بالطبع عدا عذارى وادي النخيل وقاهرياته الغرر

وهو مشغول البال بالمرأة يغازلها في كل مكان؛ وقد يغازلها وإلى جانبها زوجها (الليلة الأولى في أرواح شاردة) وكتبه كلها فياضة بهذا الاهتمام الذي يقيمه ويقعده؛ ولكني أود أن ألفت النظر إلى نشيده الأفريقي (عودة المحارب) الذي يقول فيه:

حين ألقى زوجي على باب كوخي ... وأناغي على ذراعيّ طفلي

فهذا التصوير الصادق للقلب الظمآن إلى حنان الأسرة لم ينج من سمادير الاهتمام بالمرأة على العموم، ذلك الاهتمام الذي يملأ قلب الشاعر، فيقول على لسان ذلك المحارب العائد إلى زوجه وطفله:

يا عذارى القبيل انتن للمجد (م) ... على عفةٍ صواحب بذل

حسبُ روحي الظامي وحسب جراحي ... رشفةٌ من عيونكن النجل

وابتساماتكن فوق شفاهٍ ... بمعاني الحياة كم أومأت لي

وصحيح أن البطل العائد يسر بالحفاوة التي يلقاها من قبيلته رجالها ونسائها، ولكن لعل حفاوة الرجال به أبعث لسروره، وأقدح لمكامن الزهو في نفسه.

ونستطرد في توضيح الصورة التي أوجزناها في مقدمة حديثنا فنقول إن التفاته إلى نواحي الجمال في المرأة كثير في شعره ونثره إلى درجة أستبيح لنفسي معها أن أغفل إيراد الشواهد عليها، والتفاته إلى زينتها دقيق (صففت شعرها على طريقة القرن الثامن عشر، وقصت جانبيه على طريقة القرن العشرين) ويقول عن أخرى إنها (ارتدت زي القرويات من سكان الأديج الأعلى وغطت رأسها بمنديل احمر موسوم بصور متناسقة لزهرات برية)

أما أنه محبوب من المرأة فشواهد ذلك كثيرة في دواوينه وكتبه وأجتزئ هنا بمقتطفات من حديث نشره بمجلة الاثنين عن ذكريات الصيف، تحدث فيه عن جارة له في الفندق قابلته في الردهة. . . (لم يطل بي النظر ولم يطل بها الوقوف، فقد ابتسمت لي وأحنيت رأسي تحية لها، وسرعان ما وجهت لي عبارة لطيفة قائلة:

- منذ أمس وأنا أعجب من هذا الغريب المنفرد بنفسه الذي لا يجد في هذه المدينة الصاخبة اللاهية ما يزعجه عن النوم ويشغله إلى ما بعد منتصف الليل. أقول هذا وأتساءل كيف لا أعجب من نفسي أنا أيضاً، فقد حضرت ليلتين، فلم أجد ثمة حذاء واحداً على باب واحد، ووجدت حذاءك منفرداً بنفسه على باب غرفتك. وقلت لنفسي وأنا أضع بدوري حذائي على باب غرفتي، فليظل الحذاءان هكذا قريبين من بعضهما في الليل وإن لم يتعارفا. وفي الحق أني عندما أغادر غرفتي إلى الحمام في الصباح الباكر أجد أن منظر الردهة قد تغير، فأمام كل باب حذاءان أحدهما ضخم خشن، والآخر دقيق رقيق، فأحدث نفسي لم لا يتفق حذاءانا نحن أيضاً فنجدهما ذات صباح على باب واحد. . .)

فياما أشد إغراء هذا الفتى الأسمر، لقد أنسى تلك الحسناء أنها امرأة يسرها أن تُصاد وأن ترى الشباك منصوبة من حولها. . . أنساها هذا وأنساها حياءها الغريزي فبدأته بهذا الحديث الطويل واقترحت عليه أن يشاركها غرفتها.

بقي الحديث عن الصفة الأخيرة وهي الأناقة وتكاد تكون أظهر صفات شعره الموسيقي العذب، ثم هي تبدو أيضاً في طبع كتبه وتقديم قصائده، ويرجع السبب في شدة وضوح هذه الصفة إلى أنها ارتوت من رافدين نبعا في صدر شبابه: أولهما الحرمان الجنسي، وثانيهما الحرمان الأدبي، لأن المجد الأدبي لم يوات الأستاذ علي طه في السن التي كان ينتظره فيها، بل تأخر عن ذلك. وفي مقال الأستاذ الزيات عن (أرواح وأشباح) ما يكشف عن ذلك الجانب، فهو يقول إنه منذ إحدى وعشرين عاماً كان يشرف بالاشتراك مع حضرة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق على قسم الشعر في مجلة السفور، ودفع إليهما البريد بقصيدة لعلي طه (فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغي على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل وصححنا ما فيها من الخطأ وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن). . .

ثم لقيه في المنصورة. . . (وطلب إليه صديقنا أن ينشدنا بعض شعره فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه، وقال: نشرت لي السفور هذه القصيدة وقدمت لها بهذه المقدمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب). . . (وكان حين عرفته في إبان شبابه وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي)

ففي هذه الأسطر نرى علي طه وهو ناشئ مغمور ينشط لإلقاء شعره ويرتاح، ويحفظ عن ظهر الغيب مقدمة فيها تنبأ ونصيحة، ثم يعرف صاحب هذه المقدمة التي احتفي بها كل الاحتفاء فإذا هو شاب لا يكبره كثيراً في السن. وتلك مقدمات تصل إلى نتيجة واحدة هي شدة إحساسه بأنه مغمور وأن قريحته في حاجة إلى أن يرفدها بمادة اللغة وآلة الفن. وربما تأثر بأسلوب الزيات الأنيق، فما زال يتحرى الأناقة ويتوخاها حتى أصبح أكثر الشعراء المصريين أناقة غير مدافع. وقد واتته الشهرة الأدبية سخية فياضة؛ ولكن نفسه الحساسة لم تسلم وما كان لها أن تسلم من عقابيل هذا الشعور القديم، فيقول في مقدمة إحدى قصائده: (ألقاها الشاعر في حفل كان من خطبائه الأساتذة الإجلاء: لطفي السيد باشا، الدكتور طه حسين بك، مصطفى عبد الرازق بك، أنطون الجميل بك). وقد جعل هذا دأبه في تقديم كل القصائد التي ألقيت في حفلات عامة كأنه يستكثر بطريقة لا شعورية أن يلقى شعره بين هؤلاء الذين كانوا يملئون أفق الأدب أشعة وشهرة وهو ناشئ مغمور في المنصورة. بل هو يلجأ إلى أغرب من ذلك في تقديم الجندول (تغريدة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب) كأن عبد الوهاب لا يتغنى إلا بجيد الشعر ومختاره، مع أنه غنى الجندول وغنى بعدها (ماتهونش)، (وبلاش تبوسني)

وهذا الأثر الذي أتحدث عنه يبدو كذلك في كثرة حديث الأستاذ علي طه عن الشاعرية ومناجاته لها في (ميلاد شاعر) و (غرفة الشاعر) و (قبر الشاعر). . . ثم في حديثه عن نفسه بقوله (الشاعر)، فهو بهذا وذاك يمدح نفسه وشاعريته عن طريق غير مباشر ولا شعوري

وألاحظ هنا كثرة لجوء الشعراء الشبان إلى الحديث عن أنفسهم بقولهم: (زار الشاعر قرية كذا وقال فيها) مثلاً، والشاعرية كموهبة لا يجوز أن يفخر بها صاحبها بل يدع للناس أن يتحدثوا عنها ويمدحوه بها وإلا جاز لكل صاحب موهبة أن يتحدث عن نفسه فنسمع مثلاً (قال الذكيُّ في حديثه) أو (قهر القويُّ خصمه في الملاكمة) ولن يكون هذا أغرب من ذاك

وأعود فأكرر ما قلته في أول هذا المقال من أن الأدب العصري مدين للحرمان بنبوغ الشاعر الموهوب الأستاذ علي محمود طه وبضلال الملاح التائه في بحار الجمال والخيال، وهو ضلال حبيب إلى النفوس المرهفة الحس، وهو أعود بالفائدة من هداية القابعين المتزمتين.

(الإسكندرية)

إدوارد حنا سعد