مجلة الرسالة/العدد 511/معركة الآزور
مجلة الرسالة/العدد 511/معركة الآزور
للشاعر الإنجليزي ألفريد تيسون
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
(بقية ما نشر في العدد الماضي من ترجمة القصيدة)
وفيما كانت (سان فيليب) تشرف علينا من موضعها هذا إشراف السحابة التي توشك أن تنقض بصواعقها في تواتر وعنف، كانت أربعة من الغلايين الإسبانية قد انحازت عن الأسطول جانباً، فاستقر اثنان منها على يسار سفينتنا واثنان منها على يمينها، ثم انثالت قذائف الدمار علينا منها جميعاً. ولكن سرعان ما تبينت سان فيليب حرج موقفها فارتدت مبهورة، وفي جوفها ما يقض ويرمض. . . ثم انحدرت إلى سفينتنا عُصب من سائر السفن تقاتلنا يداً بيد. اثنتي عشرة مرة يقتحمون صفوفنا برماحهم وقذافاتهم، واثنتي عشر مرة ننفضهم عنا كما ينفض الكلب الواثب من الماء أذنيه البليلتين
. . . أخيراً يقل وجه النهار وتوارت الشمس بالحجاب، ثم طلعت نجوم الليل فوق صفحة المحيط الدافئ؛ ولكن المعركة القائمة بين سفينة واحدة وثلاث وخمسين لم تكف لحظة. . . فقد كانت (غلايينهم) السامقة تنساب إلينا سفيناً بعد سفين، على مدى فترة الليل الطويل، فتقذفنا بجاحم من متسعَر نارها ومتأجج حممها؛ ولكنها ما ترتد إلا وقد تخضبت بدم قتلاها وتجللت بسواد فضيحتها وعارها. لقد ابتلع اليم فريقاً منها، ومزقت قذائفنا فريقاً آخر لم يعد يملك معه للنضال سبيلاً. فيا لها من موقعة عجب، لم تقع عين لها من قبل على شبيه!!
كانت سفينتنا لا تزيد على حطام متناثر عند ما راح قائدنا يهتف في قوة: ناضلوا، ناضلوا! وما كادت تولى بُهْرة هذا الليل المتقاصر حتى أصيب بجراحة غادر من أجلها ظهر السفينة إلى حيث يضمَّد له. . . ولكن قذيفة أخرى مسددة شقت طريقها إلى طبيبه الذي يقوم عليه فخر في موضعه صريعاً، وأصيب هو بجراح أخرى في جنبه وفي شواه، فما كان إلا أن هتف مكرراً دعوته: ناضلوا، ناضلوا!
انحسر نقاب الظلام، وذر قرن الشمس على الأفق البعيد، ورأينا الأسطول الإسباني بدعائمه المنهارة قد أحصر بنا من كل وجهة، وطوقنا في دائرة تامة. ولكن سفينة واحد تجرؤ على معاودة نزالنا، كأنما قد خشوا أن يكون في نكزنا فضل من حُمة! فانحازوا إلى ناحية منا يتوكّفون مغبة هذا النضال الرائع. ولم نكن قد قاتلناهم عبثاً، ولكن حالتنا كانت بالغة الخطورة، إذ أودى من رجالنا المائة أربعون في محتدم هذا الصراع اليائس؛ وأصيب شطر الباقين بما آفَهُم وأقعدهم عن التصرف مدى الحياة. أما مرضانا في قاع السفين فقد مُنوا من نفحات البرد بما يبَّس أعضاءهم وشلَّ قواهم. . .
وهوت الرماح من أيدينا جميعاً بين متقصَد ومنآد، ونفدت كل ذخيرتنا من القذائف والمتفجرات، وامتلأت جنبات السفينة بكل شراع مقدود وقلَس مبتوت؛ ولكن السير رتشارد راح يتحدث إلينا في كبريائه الإنجليزية فقال:
أيها الرفاق، لقد اضطلعنا طوال يوم وليلة بحرب لن يكون مثلها أبداً، وربحنا من المجد وكرم الذكرى ما أناف بنا على اليفاع؛ وسنودع الحياة في يوم قريب أو بعيد، على نجوة هذا الشاطئ أو في أثباج هذا اليم، فهل نبالي متى يكون ذلك أو كيف يكون؟ ألا أغرق لنا السفينة يا سيدي المدفعي! أغرقها!! أجعلها شطرين. . . ولنقع بين يدي الله ولا نقع في أيدي الإسبانيين!
وأجاب المدفعي الباسل: أجل، أجل. . . ولكن البحارة اعترضوا قائلين: إن لدينا أطفالاً وخلفنا زوجات، وها قد حفظ الله علينا حياتنا، فلنستوثق من الإسبانيين بعهد على أن نحاجزهم فيخلوا سَربنا، لأن من الخير أن نعيش الآن حتى نعود إلى قتالهم في مؤتنف الأيام، فنكيل لهم الطعن خِلاجاً والضرب هَذاذَيْك. . . وهكذا ألقوا السلَم إلى أعدائهم بينما اضطجع القائد الباسل يودع حياته ويجود بآخر أنفاسه
وحملته ثلة من الأسبان المتغطرفين إلى سفينة قائدهم فأضجعوه إلى جانب الدَقل. . . وأقبل عليه القوم يزكّون عمله بلهجتهم الأجنبية المتظرفة، ويشيدون ببطولته على مرأى منه ومسمع؛ فما كان إلا أن نهض بينهم وهو يصيح قائلاً: لقد حاربت في سبيل ملكتي وبلادي كما يحارب الرجل الشجاع المحق. . . لم أزد على أن أديت واجبي كاملاً كما ينبغي أن يؤديه رجل. . . وهاأنا، سير رتشارد جرانفيل، أموت وملء نفسي الغبطة والاطمئنان
ثم سقط في موضعه يكيد بنفسه حتى صفرت منه الوطاب
وحدقوا بأبصارهم في وجه الصريع الذي تجسمت فيه الشجاعة وصدق البلاء، الذي طامن من نخوة أسبانيا، وطأطأ من إشرافها بما تحدى به أسطولها الضخم من فلك صغير وشرذمة من الرجال قلائل. . . أشيطاناً كان هذا أم إنساناً؟. . . لقد كان الشيطان بعينه من أية وجهة نظروا إليه. على أنهم احتفلوا بإيداع جثمانه اليم احتفالاً ملؤه التجلة والتكريم. ثم احتلوا: (الانتقام) بشرذمة من بحارتهم ذوي السحن الغريبة والوجوه السمراء. واستأنفت السفينة رحلتها في رفقة ضحاياها، وهي تكابد غصص الآلام من مواجعها الخاصة غب المعركة الرهيبة
وما أسرع ما نهضت الرياح من غفوتها، وهبت عليهم بحفلات من قبَل الأرض التي اعتبدوا أهلها وعاثوا في أرجامها مفسدين
وبدأ اليم يرغي ويزبد والسماء تئن وتزمجر، فما أسدل الليل ستوره إلا والقواصف العاتية تجتاح البحر من كل جهة؛ والموج يتدفع حول السفن كأنما تركه أيدي الزلازل، ويتدفق على جوانبها وأشرعتها، فلا ينحسر منها إلا عن دوقل مصدوع أو علم منزوع
ثم استجمع البحر قواه وعطف على الأسطول الذي أوهنت من تجلده القذائف فلفه في أحضانه
أما سفينتنا (الانتقام) فقد غاصت بدورها إلى جانب إحدى الرضام القوابع تحت الماء، مودعة حياتها إلى الأبد في أعماق هذا الخضم الجياش.
(جرجا)
محمود عزت عرفة