مجلة الرسالة/العدد 511/سليمان الحكيم
مجلة الرسالة/العدد 511/سليمان الحكيم
لتوفيق الحكيم!
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
(يبدو أن فصل النقد الفني هو الفصل المتخلف في كتاب الأدب العربي الحديث. وقد لمست هذا في المناسبة القريبة بين الأستاذ (دريني خشبة) وبيني كما لمسته من قبل مرات.
فنحن: إما أن نحب فنبالغ في الإطراء، وإما أن نكره فنبالغ في القدح، وإما أن نكسل فلا نستقصي عن عمل من نتصدى لهم بالنقد، وإما أن نتحكم بمزاجنا ونفرض تحكمنا على القراء!
وسأحاول في الفصول التي أقولها في النقد الأدبي لأعلام العصر الحديث أن أتوقى كل هذا بقدر المستطاع. والله يلهمنا طريق السداد)
هذه هي التمثيلية الخامسة لتوفيق الحكيم التي يستلهم فيها الكتب الدينية أو الأساطير. وقيمة استلهام هذه المصادر وأمثالها هي في الصورة الجديدة التي يجلوها الفنان، وفي ملء الفجوات التي يعني بها الفن وقد لا يعني بها الخبر ولا الأسطورة؛ وفي التعميم الذي يخرج بها من الجو المحدود والمناسبة العارضة إلى الجو العام والحقيقة الخالدة
وتمثيلية (سليمان الحكيم) مستلهمة من القرآن الكريم ومن التوراة ومن ألف ليلة وليلة. فلننظر في المواد الخامة التي كانت بين يدي المؤلف حين همّ أن يصوغ تمثيليته الجديدة، لنعرف كم استمد منها وكم زاد عليها؛ فتلك هي الخطوة الأولى في الوزن الفني لمثل هذا العمل
قصة سليمان وأخباره في القرآن الكريم في سورتي النمل وسبأ معروفة أو في متناول كل قارئ، فلست في حاجة أن أثبتها هنا، فأكتفي إذن بتسجيل نظرة القرآن إلى سليمان الحكيم؛ فهو نبي أوتي العلم والحكمة، ووهُب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وعلم منطق الطير، وسخرت له الريح والجن والإنس
وأما قصته في التوراة فقد لا تكون في متناول القراء، فألخص هنا بعض ما يحتاجون إليه منها في هذا السياق، وما كان بين أقواس من هذا التلخيص فهو نص منقول:
ورد في (سفر الملوك) من العهد القديم أن سليمان كان ملكاً بعد أبيه داود يعاصر من أنبياء إسرائيل وكهانهم (ناثان النبي) و (صادوق الكاهن). وقد طلب سليمان من إلهه أن يعطيه الفهم والحكمة ولم يطلب لنفسه مالاً كثيراً ولا عمراً طويلاً، فكافأه الرب على ذلك بأن وهبه الحكمة التي طلب والملك الذي لم يطلب
(وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق، وكل حكمة مصر). . . وكان صيته في جميع الأمم حواليه، وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت أناشيده ألفاً وخمسة. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزّوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم، وعن الطير، وعن الدبب، وعن السمك)
وبنى سليمان بيتاً للرب جلب أخشابه وزخارفه من مختلف الأمصار حوله. وصاهر فرعون ملك مصر فكان هذا دليلاً على عظمته!
(وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان فأتت لتمتحنه بمسائل) وقد جاءت معها بهدايا كثيرة. ولما رأت سليمان وحكمته وعظمة ملكه، أعجبت به وبحكمته وسلطانه (وأعطته مائة وعشرين وزنة ذهب وأطياباً كثيرة جدَّاً وحجارة كريمة) وأعطى سليمان للملكة كل مشتهاها الذي طلبت. . . فانصرفت وذهبت إلى أرضها)
(وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة - مع بنت فرعون - مؤابيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحيثيات. من الأمم الذين قال عنهم الرب لإسرائيل: لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم).
وتذكر التوراة بعد ذلك أن نساء سليمان بلغن الألف عداً، بين زوجات وسراري. وأن بعض نسائه أملن قلبه، وكان في شيخوخته (فمال وراء آلهتهن ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتورت إله الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين) وانتهى الأمر بغضب إلهه عليه وانتزاع الملك منه. . .
وأما قصص ألف ليلة وليلة فهي معروفة كذلك لعامة القراء؛ وقصص الصيادين الذين يعثرون بالعفاريت في قماقم مسحورة، وقصص الأحياء الذين يسحرون أحجاراً أو أشياء أخرى ويوضع طلسم خاص لفك سحرهم معروفة كذلك ومفروض أنه كان بين يدي المؤلف بعض ما كتبه عن (سليمان الحكيم) في الفرنسية الفيلسوف (رينان)، وبخاصة ما كتبه عن (نشيد الإنشاد) نشيد الحب والربيع والشباب وهو من نظم سليمان
هذه هي الخامات التي كانت بين يدي توفيق الحكيم. فلننظر كيف استخدمها في تمثيليته
لقد انتفع بالمصادر الثلاثة على السواء، وزاوج بينها، وفسرها وأضاف إليها بحرية كاملة، وهذه الحرية معترف بها للفنان الروائي بلا جدال
فهو قد اختار أن يكون سليمان نبياً كما جاء في القرآن، وملكاً كما جاء في التوراة. وقد جاءته الخطيئة الدينية - في التوراة - من جانب المرأة، فجعلها توفيق تجيئه من ناحية المرأة أيضاً ولكنها خطيئة إنسانية لا دينية. واختارت له التوراة غضب الله وانتزاع الملك، ولكن المؤلف اختار له أن يتوب عن خطيئته وأن يقاسي عذاب ضميره
وقد أثار بين الملك والإنسانية، وبين الحكمة والنبوة، في نفس سليمان صراعاً نفسياً عنيفاً. فتغلب الملك أو تغلب الإنسان فيه عند القدرة وبدافع الرغبة، وتغلبت الحكمة أو تغلب النبي فيه عند الاصطدام وبدافع اليأس
وبعض تفاسير القرآن زوّج (بلقيس) من أحد الأمراء، ولكن المؤلف جعلها تعلق بحب هذا الأمير، وجعله يعلق بحب وصيفتها (شهباء)!
ثم استعار من ألف ليلة وليلة أحد عفاريتها وأحد صياديها. ولكنه استعارهما ليشيع الجو الأسطوري في التمثيلية من ناحية، وليستخدمها في الصراع بين الخير والشر، وبين الضمير والشهوة، من ناحية أخرى؛ وليرمز بها إلى التكامل والتصارع في نفس الإنسان الواحد من ناحية ثالثة
ومن هذه الخامات حاول أن ينشئ تمثيلية تعالج الصراع الأبدي بين الخير والشر وبين الضمير والرغبة - وتهدف مع هذا الصراع إلى الاتجاهات التالية:
1 - تغليب الجانب الإنساني على الجانب المقدس في نفس النبي. . . سليمان!
2 - قداسة القلب الإنساني في الحب والسخرية بجميع قوى الأرض أمام هذه القداسة
3 - الجحود والوفاء والخير والشر، واجتماعهما في الحب الإنساني جنباً إلى جنب
4 - رفع الستار عن بعض القداسات، وغمزات للكهان وأشباه الكهان 5 - الآلام والحرمان والعجز والفجيعة هي التي تشع الحكمة وتهدئ الفورة وتفتح البصيرة
6 - السخرية بحكمة الإنسان المحدودة مهما سمت وبقوته مهما عظمت أمام الحكمة الكونية الكبرى
7 - التفسير النفسي - من جانب الفن - لبعض الحوادث والروايات في حياة العظماء!
فلنستعرض التمثيلية استعراضاً مجملاً لنرى إن كانت قد أدت هذه الأغراض، وإن كانت قد جمعت إليها جمال الفن وحركة الحياة. وتلك شروط الرواية الجيدة بالإجمال.
(حلوان) - يتبع
سيد قطب