مجلة الرسالة/العدد 51/ذكرى المولد
مجلة الرسالة/العدد 51/ذكرى المولد
كان الناس في أبريل من عام 571، والطبيعة المشفوفة تنتظر انبثاق الروح المبدع، وانبعاث الربيع الممرع، وانتعاش الحياة الجديدة في الأرض الهامدة؛ والخليقة المئوفة ترسل النظر الحائر في الآفاق الغائمة، ترتقب لمعة النور من الشرق، ونفحة القوة من الحق، وكلمة الهدى من الله؛ والجزيرة المجهودة تصهرها الشدائد، وتطهرها الدماء، وتهيئها الأقدار ليهبط فوقها الوحي، ويتجلى لها الخالق، وتتصل عندها السماوات بالأرض؛ والهواتف الطائفة تعلن في رؤوس الجبال، وسفوح الأودية، ومدارج السبٌل، وسوابيط المعابد، وأواوين القصور، بشرى الرسالة الأخيرة، وظهور الرسول المنتظر؛ والشياطين الآلهة تئن في أجواف الأصنام المنكسة أنين الخيبة والهيبة واليأس؛ وأجنحة الأملاك تخفق من وراء البصر في جو مكة القائض المغبر، فتنفض عليه النور والسرور والدعة؛ وأرواح الأنبياء من حول الكعبة تضوع بالحمد والدعاء احتفالاً بختام النبوة، وقيام الدعوة مرة أخرىفي بيت إبراهيم؛ وومضات من روح القدس وأشعة الخلد تنعقد هالات مشرقات على (شعب بني هاشم) وفوق دار آمنة؛ والنبي الوليد الذي خنس لمولده الشيطان، واعتدل بمقدمه الزمان، وخشع لذكره الكاهن والموبذان، وتصدّع من خشيته الدست والإِيوان، يفتح عينيه للوجود في بيت العُدم، ويلقى ارواقه الكريمة على نهاد اليتم، ولا يظفر بمرضع إلا لأنها لم تظفر آخر الأمر بغيره!!
تبارك الله ما أبلغ حكمة وأجل شأنه! شاء لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقراّنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع في العقول، وكلمته أنْوط بالأفئدة؛ ولو اتخذ رسله من الملوك العواهل لاٌّتهمت المعجزة، والتبس على الناس فعل القدرة.
كان محمد بن عبد الله مثَل الله الأعلى للإنسان الكامل.
صوره خلقاً سويّاً ليرسم الأخلاق بالمثل، ويعلم الدين بالعمل، وينظم الحياة بالقدوة. وإلا فكيف اجتمع فيه ما تفرق في جميع الناس من خصال الرجولة، وخلال البطولة، وخلائق النبل، وبيئته لا تملك من بعض ذلك ما تعطيه؟
رعى على بعض أهله، وسعى لبعض قومه، واتجر بمال زوجه، فكان في جليل الأمر كما كان في ضئيلة صادق العزم، كريم العهد، وثيق الذمة، راجح الحلم، شاهد اللب، لين العِطف، حلو المعاشرة (يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق)
ثم اصطنعه الله لحقِّه، وحَّمله الرسالة إلى خلقه، فكان في غار حراء، وفي دار الأرقم، وفي جبل ثور وفي دار أبى أيوب، وفي المسجد الجامع ثم في الرفيق الأعلى، مظهرا صحيحا لروح الله، وإعلانا صريحا لسر الدين، ومثالا عاليا لصدق الجهاد، واحتمالا ساميا لمكاره الدعوة، وأسوة حسنة لجميع الناس!
جهر الرسول بالدعوة بعد أن خافت بها في قريش ثلاث سنين، فضلل الأقوام وسفه الأحلام وهاجم الشرك في معقله، وليس وراء ظهره إلا عمه! فتألبت عليه عناصر الشر جمعاء فما أفكتْه عن عزمه، ولا خلجته عن همه. ثم تجلت فيه الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثَّر باللسان، وقهر باليد، وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل، فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة، فكان رسولاً في الدين، وعلَماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب.
إن حياة الرسول قانون إلهي خالد لصاحب الدين وصاحب الدنيا، وان وسائل الجهاد التي جدد بها أسلوب العيش وأقام بها ميزان المجتمع لا تزال عناوين ضخمة في صفحات العلم والسياسة والخلق، وان من أساس الإسلام أن نطيع الله في كتابه، ونطيع الرسول في سننه وآدابه، فليت شعري أكان في حدود الإمكان أن يرتطم العرب والمسلمون في مراغة الخمول، فيرضون بالهُون، ويقنعون بالدون، ويتخلون عن مكانهم من صدر الوجود، لو أنهم اتخذوا من أحكام ربهم منهاجا، ومن كلام رسولهم علاجا، ومن حياة السابقين الأولين من رجالهم قوة وقدوة؟؟
أليس من خذلان الله لنشئنا الجُدُد أن يلوكوا جاهدين أسماء فلان وفلان ممن رأى رأيا أو أنشأ قصيدة أو ألف كتابا، ثم يتركوا عامدين اسم محمد الذي جمع العرب من شتات، وأيقظ العالم من سبات، أقام للسماء دينا في الأرض، وأسس للأرض دنيا في السماء؟
احمد حسن الزيات