انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 506/ذكرى السيد جمال الدين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 506/ذكرى السيد جمال الدين

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1943



للأستاذ محمود شلبي

أمم في رجل، وبركان ثائر يرمي بالحمم والنار، وصورة حية فذة عجيبة تسعى من النور وإلى النور. رجل أقام العالم وأقعده، وهز الشرق هزة عنيفة فأحيا العقول بعد مواتها، فتنبه الغافل ونشط العاقل وخر الباطل ذليلاً خاشعاً إلى الأذقان

ذلكم يا صاحبي، الأستاذ الفيلسوف السيد جمال الدين الأفغاني المتوفى صباح يوم الثلاثاء 9 مارس سنة 1897 ميلادية

ولد في قرية (أسعد آباد) من قرى كنر سنة 1254 هجرية، وفي السنة الثامنة من عمره أجلس لتعليم وعنى والده بتربيته فأيد العناية به قوة في فطرته، وإشراق في قريحته، وذكاء في مدركته، فأخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها

واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه، ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية، فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية الجديدة

ثم ذهب إلى مكة حاجا، ثم عاد إلى بلاده، ولم يمكث طويلاً حتى تاقت نفسه إلى الحركة فيمم وجهه شطر الهند وتلقته حكومتها بحفاوة وإجلال.

وهبط مصر أربعين يوماً تردد فيها على الجامع الأزهر وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين ومالوا إليه كل الميل، ولكنه تعجل بالسفر إلى الآستانة

وصل الآستانة وهو مع ذلك بزيه الأفغاني: قباء، وكساء، وعمامة عجراء؛ وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم. وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف فأدى حق الاستقامة في آرائه وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه

ودعي لإلقاء خطاب في دار الفنون للحث على الصناعات، فلبى بعد امتناع، وما ألقى الخطاب حتى ثارت عليه ثائرة الرجعيين فصدر إليه الأمر بمغادرة الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوماً في حقه، مغلوباً لحدته، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مص مال الشيخ إلى مصر، فهوت إليه أفئدة من الناس وتحلق حوله طلاب المعرفة من كل صنف، ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول؛ فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه

وهنا اصطدم الحق بالباطل، فنفس عليه الشيوخ مكانته، وشغب عليه سفلة المتعلمين وهم شر من سفلة الجاهلين، ولكنه واصل وثبته الفكرية وأشعل النار في الهمم الخامدة، وظل دائباً عاملاً دعي من حيدر آباد إلى كلكته وألزمته حكومة الهند الإقامة فيها

ولما وضعت الحرب أوزارها، أصعد إلى مدينة لوندرة وأقام بها أياماً قلائل، ثم انتقل عنها إلى باريس وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنين وافاه في أثنائها الإمام محمد عبده.

هذا هو الرجل العجيب، أنشأه القدر إنشاء ليكون الشعلة المقدسة في الشرق، في زمان هبت فيه ريح الجهل تريد أن تطفئ نور الله.

ولقد أجمع على احترامه الغرب والشرق، وشهدت له الأستانة وباريس وبطرسبرج بالعبقرية والغيرة والحمية على الدين.

ونظرة واحدة إلى حياة الرجل، تدلنا على قوة شكيمته في الحق، وسلطته على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأن كل معنى قد خلق له، يشد هذا وذاك قلب سليم، وحلم عظيم، وقوة اعتماد على الله لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر. تتضافر هذه القوى الذهنية والقلبية والخلقية داخل بنيان الرجل، فتندفع متعطشة إلى النور والحرية، فيندفع البطل إلى طموحه كالأسد الوثاب، ويتخط العراقيل المكدسة في طريقه حتى ينال ما يبغي أو يرتقب بارقة تلوح.

لقد كان السيد جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل، فدخل الماسونية وتقدم فيها حتى صار من الرؤساء، ثم أنشأ محفلاً وطنياً تابعاً للشرق الفرنسوي، ودعا تبابعته من العلماء والوجهاء إليه، فصار أعضاؤه نحواً من ثلاثمائة. وعظم إقبال الناس عليه حتى أقلق من بيدهم الأمر وقتئذ.

أنظر إلى الرجل وهو يخاطب العوام ليستشيرهم، فيقول ما معناه: (. . لو كان في عروقكم دم قيه كريات حياة، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر، لما رضيتم بهذا الذل والمسكنة، ولما صبرتم على هذه الضعة والخمول، ولما قعدتم على الرمضاء وأنتم ضاحكون. تناوبكم أيدي الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، ثم الفرنسيس والمماليك. . وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفة، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت. انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار طيبة ومشاهد سيوة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم:

وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالرشيد فلاح

هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، انفضوا عنكم غبار الغباوة والخمول. . .).

لقد كان للرجل من حياته مقصدان: علمي وهو تنبيه المسلمين إلى الإصلاح الديني والعلمي بالكتابة والخطابة، وسياسي اجتماعي وهو ترقية الشرق أية دولة كانت غير مفرق بين وطنه وسائر البلدان.

وهكذا النفوس ذات الآفاق الرحيبة التي لا تقف عند غاية إلا لتتخطاها إلى أخرى أسمى منها.

محمود شلبي