مجلة الرسالة/العدد 505/ميدان تونس
مجلة الرسالة/العدد 505/ميدان تونس
للأستاذ محمد إبراهيم حسن
مدرس بكلية الآداب
تمثل تونس الميدان الأول في حوض البحر المتوسط إذ تواجه فيه قوات جيوش الحلفاء في أكثر من موضع.
وكل من الطرفين يدافع دفاعاً مستميتاً. وستحدث قريباً في هذا الميدان موقعة خطيرة ستلعب دوراً هاماً في الحرب الحاضرة في هذا الشطر من العالم.
ذلك لان المسيطر على هذا الميدان يتحكم في كل أجزاء الحوض المتوسط. فإن كتب النصر للمحور فقد حمى بذلك جنوب أوربا، أو على الأقل إيطاليا من غزو الحلفاء. بل لا يبعد أن يعيد المحور كرته في السيطرة على شمال أفريقيا ليحول حوض البحر الأبيض إلى بحيرة محورية. أما إذا كتب النصر للحلفاء فستكون الطامة الكبرى على المحور إذ تعرض إيطاليا للغزو لا محالة، فالشقة قريبة جداً. ولا سيما أن الحذاء الإيطالي مكشوف من جميع نواحيه تقريباً لضرب الطائرات وإصابة الأهداف، كما أن تحصين هذه الشواطئ الطويلة أمر صعب على المحور بعد أن أنهكته روسيا من ناحية، وحاصرته بريطانيا بحرياً من ناحية أخرى. كما أن استيلاء الحلفاء على تونس سيطهر شمال أفريقيا من المحور، ويسهل الملاحة في هذا الحوض، وتعود الطرق الملاحية مطمئنة إلى حد كبير بين الهند والجزر البريطانية عبر مضيق جبل طارق. ولا شك أن هذا النصر سيؤثر كثيراً على سياسة الدول المحايدة في هذا الحوض ونعنى مصر وتركيا وأسبانيا.
ومما يزيد في أهمية هذا الميدان أنه يساعد كثيراً في التموين، فتونس غنية بحاصلاتها الزراعية من حبوب وفاكهة، وسواحلها تسيطر عليها موانئ صالحة لإيواء السفن، مثل: تونس وبنزرت وقابس وسوس والحمامات، وكلها تقع على رؤوس خلجان عميقة، كما أنها تتصل بالداخل بشبكة من السكك الحديدية تمر في الأودية والممرات الجبلية، كما أن كل هذه الموانئ على اتصال وثيق بالسكك الحديدية والطرق الصالحة.
من هذه النظرة العارضة يبدو السبب واضحاً في هذا القتال العنيف وتلك المغامرات التي نسمع بها في الصحف بين وقت وآخر. ولكن الغريب في هذا الميدان هو ضعف التق الجانبين؛ فلقد عهدنا في الجيوش الألمانية تلك الحروب الخاطفة والدقة البالغة اللتين ظهرتا في الإغارة على نروج والدانمرك في إبريل عام 1940، وعلى بلجيكا وهولندا وفرنسا في مايو من ذلك العام. ولكن هذه الآلة الدقيقة لم تعمل في ميدان تونس بدقتها المعهودة، وبدلاً من أن تنتهي من حركاتها الحربية في أسابيع معدودات نجدها وقد مضى عليها بضعة شهور وهي لا تزداد إلا بعداً عن الغرض الذي تنشده.
ولعل هذه الظاهرة تعلل بعوامل كثيرة منها: طبيعة هذا الميدان المعقد إذ ينقسم إلى إقليمين متباينين هما الإقليم الجبلي الذي يشمل معظم الميدان، والإقليم السهلي الذي يمثل شريطاً يضيق ويتسع. ويتكون الإقليم الجبلي من سلسلة الأطلس البحرية في الشمال، وسلسلة أطلس الصحراء في الجنوب، وبينهما الطرف الشرقي من هضبة الشطوط، ويكثر في هذا الإقليم الممرات الوعرة مثل ممر قصرين الذي استولت عليه القوات الأمريكية أخيراً. وهذه الممرات تمثل كميتاً صعباً وتعقد شباكا معقدة لكل من الطرفين المتحاربين. ويقطع هذه الممرات السكك الحديدية التي تسهل اتصال مدن الداخل بموانئ الساحل.
أما الإقليم السهلي فيحيط بالإقليم الجبلي من ثلاثة مواضع: فهو سهل ساحلي ضيق في الشمال تشرف عليه الأطلس البحرية، ويضيق جداً حول بنزرت، ثم يبتعد قليلاً عن تونس. وهو في الجنوب قد شغل معظمه ببحيرة شط الجريد. أما في الشرق فيمثل شريطاً ساحلياً يتسع في الوسط ويضيق في الشمال حيث تقرب الأطلس البحرية من الساحل، ويضيق في الجنوب حيث ترقب أطلس الصحراء من الساحل في منطقة قابس. ولا شك أن الموضعين خطيران من الناحية الحربية لان كلا منهما يمثل عنق زجاجة تسهل للمسيطر عليه مهمة الدفاع والهجوم عند الضرورة. ولذلك يرجح أن القوات الألمانية المتقهقرة في طرابلس لا ينتظر أن تقاوم كثيراً عند خط مارث بل ربما تحصن نفسها عند عنق قابس إن أعطيت الفرصة
يظهر إذن أن هذا الميدان معقد جداً من الناحية الجغرافية مما يصعب الحركات الحربية، فان كان المناخ هو العامل الأول لبطء الحركات العسكرية في الميدان الروسي في فصل الشتاء.
فان طبيعة السطح هي العامل الأول لبطء تقدم الجيوش في الميدان التونسي ليس في الشتاء فقط بل طول العام.
ومما زاد في هذا البطء من الجانب الألماني هو تقسيم القوات المحاربة: فقسم في الشمال وقسم في السوط في منطقة سيدي بوزيد وقسم في الجنوب يمثل الجيش الألماني المتقهقر، والجانب المحوري، يعمل على الاتحاد لضرب الحلفاء ضربة قاضية، وجانب الحلفاء يعمل على العزلة لضرب كل على حدة. ولا شك أنه حتى الآن من الصعب أن نحكم أي الكفتين هي الراجحة.
وهناك عامل ثالث لا يقل عن العاملين الأولين أهمته وهو أن كلا من الطرفين قوي صلب الجانب مصمم على الدفاع راغب في النصر. ويواجه المحور عدواً من نوع جديد يخالف ما صادفه في تلك الدول الضعيفة التي اكتسحها في أول الحرب وظن بذلك أن النصر بسرعة خاطفة هو غرضه الأول ولا شك أنه بالغه. فاليوم يواجه في روسيا وتونس عدواً قوياً. ولا شك أن الغلبة لمن يصمد في الميدان.
محمد إبراهيم حسن