مجلة الرسالة/العدد 503/رسالة الجاحظ في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
مجلة الرسالة/العدد 503/رسالة الجاحظ في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
للأستاذ محمود عزت عرفه
الجاحظ أمة في الأدب وحده، وعالم محقق لا يسبر له غور أو يدرك لاتساع فطنته مدى. وهو إلى جانب موسوعاته التي كشفت عن غزارة ذهنه ورحابة عقله، قد ترك لنا مجموعة رسائل يمكن أن نعدها في باب الموجزات بالقياس إلى تصانيفه التي يطول فيها استطراده وتتسع منادح تفكيره
ولكن إيجازه في هذه الرسائل غير مقصر بها ولا مخلّ؛ إذ تعالج كل منها موضوعاً قائماً بنفسه في إحاطة لا تترك وراءها فراغاً أو نقصاً، واستيعاب لا صغير ولا كبير إلا أحصاها. ومن هذه الرسائل رسالة عنوانها: في مناقب الترك وعامة جند الخلافة
وإنها لآية من آيات الجاحظ؛ تقفنا من تفكيره على صورة جميلة، وترسم لنا خطوطاً واضحة المعالم لبعض وجوه تصرفه في الكتابة والتصنيف.
وهو يبدو في هذه الرسالة عظيم الاحتفاء بشئون السياسة على عهده، قوَّي المساهمة، بقلمه وبذهنه، في خدمة قضية يراها جديرة بأن يعمل لها ويسعى في سبيلها.
وقد بعث الجاحظ بهذه الرسالة إلى الفتح بن خاقان صاحب المتوكل ونديمه المصطفى في حياته، والذي قاسمه مصرعه الرهيب فيما بعد على يد المنتصر ابنه وولي عهده. . .
على أن الرسالة لم تكتب في ذلك العهد، وإنما كتبت أيام المعتصم ثامن خلفاء بني العباس؛ ولم يتهيأ للجاحظ أن يبلغها إليه فبقيت حبيسة طيلة عهده، ثم مدة الواثق من بعده، حتى تهيأ له الظهور أخيراُ في أيام المتوكل. والجاحظ نفيه يشير إلى هذه الحقيقة كما سنرى ذلك فيما بعد. ولكن الذي يعنينا الآن هو التحقق من بواعث تحرير هذه الرسالة، ثم النظر في أسباب احتباسها طيلة هذه الفترة حتى ظهرت في عهد المتوكل. وما من ريب في أنه كان للعوامل السياسية أثر قوي في كل هذا فما الذي دفع الجاحظ أولاً إلى كتابة هذه الرسالة؟
لقد تولى المعتصم الخلافة بعد أخيه المأمون، وكان مثله ممن يقدر النبوغ ويحتفل بالمواهب حيث ظهرت، فانفسح مجال التفوق في دولته أمام العناصر غير العربية. على أن نزعة المأمون كانت علمية كما هو معروف؛ أما المعتصم فكان شجاعاُ باسلاً رب سيف ورمح، لا قلم ولا كتاب. كان (الحليفة الأمي) كما وصف نفسه في كثير من الصدق، ولكنه تفرد إلى جانب ذلك بصفات سامية في البأس والشجاعة؛ فكانفارس بني العباس المعلم، وأضرب رجال دولتهم في البطولة بسهم
ولقد استكثر من غلمان الأتراك في جيشه ليتقوى بهم على الخراسانية الذين نهضت على أكتافهم دولة المأمون، واستقدم كثيراً من أبناء فرغانة وأشر وسنة ليستعز ببأسهم على من كانت تموج بهم بغداد من مختلف طوائف الجند بين عرب وأبناء وموال وخراسانيين
وما نشك في أن الجاحظ كتب رسالته على هذا العهد متشيعاً بذلك للخليفة وحزبه. ولقد كان الجاحظ أديباً موهوباً محظوظاً، وقل في الأدباء من يجمع بين هاتين الفضيلتين. كان يحب أن يستفيد، ثم هو يعرف كيف يستفيد؛ ولكن تطور الأمور ألجأه - برغمه - إلى أن يحبس رسالته حتى حين، إذا كان التنافس قد اشتد وقتئذ بين هذه الطوائف المختلفة في أجناسها وجبلاّتها، المتباينة في أطماعها وفي أهوائها. وتطورت الحال إلى أكثر من هذا؛ إلى اصطدام دموي عنيف، وفتنة هوجاء جامحة، حيكت فيها الدسائس الخفية والظاهرة، ودبرت الاغتيالات المحقة والمبطلة، فطاحت رؤوس، وأهدرت دماء، وهاجت أوشاب من العامة بإيعاز من رؤساء الأجناد، وائتمرت الطوائف جميعاً بالأتراك الذين خصهم الخليفة بإيثاره، وبوأهم رفيع المناصب في دواوين حكومته وثكنات عسكره
وينبغي هنا أن نشير إلى بعض الوقائع الثابتة لنمثل الحالة التي سادت البلاد في ذلك العهد تمثيلاً أقرب إلى الوضوح:
1 - كان الأفشين من أشهر قواد المعتصم الأتراك، وقد أبلى البلاء الأعظم في الحروب التي اشترك فيها دفاعاً عن حوزة الخلافة، وبسطاً لسلطان الدولة في عصري المأمون والمعتصم. ولكنه لم يكن مع ذلك خالي النفس من كراهية العرب، والتسخّمط على منافسيه من أفرادهم وأعيانهم. ولقد كان حسده للقائد العربي أبي دُلف (القاسم بن العجلي) أمراً مشهوراً؛ حتى لأشهد عليه مرة بجناية وقتل، وأزمع أن يقتص منه، لولا أن بادر أحمد أبي دُوَاد كاتب المعتصم ومشيره فأدركه قبل نفوذ الأمر فيه؛ وأنذر الأفشين أن يصيبه بسوء، ثم رفع القصة إلى الخليفة، فاستحسن صنيعه في المبادرة بإنقاذ أبي دلف، وعنف الأفشين على ما قد وطد العزم عليه. . . ولم يلبث هذا القائد - وهو من هو ضراوة وسوءَ معتقَد - أن حاول الاستقلال بمسقط رأسه أشر وسنة، فانكشف أمره على يد عبد الله بن طاهر الأمير العربي في خراسان وكان في ذلك مهلكه ونهايته. ونذكر هنا بعض ما قاله أبو تمام من قصيدة يسجل فيها احتراق الأفشين وصلبه:
ما كان لولا قبح غدرة (حيْدر) ... ليكون في الإسلام عامُ (فجار)
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
ناراً يساور جسمه من حرها ... لهب كما عصفرَت شِق إزار
مشبوبة رُفعت لأعظم مشرك ... ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيّاً وكان وقودَها ... ميتاً، ويدخلها مع الفجار
2 - كان عجيف بن عنبسة من قواد الأتراك الناقمين على المعتصم بعض تصرفه - ورضى الناس جميعاً غاية لا تدرك - وكان قد صحبه في حصار عمورية (عام 223هـ). وهناك أوغر صدر العباس بن المأمون حتى أطمعه في قتل عمه. ودخل معه في ذلك جماعة ممن انطوت نفوسهم على الكيد للمعتصم وترُّبص الشرِّ به. ولكن الخليفة اطلع على سر هذا التدبير، فقتل عجيفاً ومن مالأه؛ وحبس العباس ابن أخيه حتى مات من وطأة الضر وفرط الأذى. . .
3 - ومن تدابير الكيد في ذلك العهد ما أوغر به القوم صدر المعتصم على خالد بن يزيد الشيباني أحد ولاته من العرب حتى أزاله عن ولايته وطالبه بأموال جسيمة؛ فلم يجد من يشد أزره في هذه المحنة إلا أحمد بن أبي دواد الذي شفع له عند المعتصم حتى عفا عنه، وخلع عليه وأعفاه مما كان قد أمره به من الخروج منتفياً إلى الحجاز.
وفي هذا يقول أبو تمام أيضاً من قصيدة يمدح بها خالداً ويهنئه:
وغدت بطون منىً مُعنى من سيْبه ... وغدت حِراً منه ظهور حِراء
وتعرَّفتْ عرفاتُ زاخره ولم ... يُخصَص كَداءٌ منه بالإكداء
ولطاب مرتَبعٌ بطيبةَ واكتستْ ... بُردْين: بردَ ثرىً وبرد ثراء
لا يُحرَمِ الحرمان خيراً! إنهم ... حُرِموا به نوءا من الأنواء. . .
تعد هذه الحوادث - وغيرها كثيراً - من عوامل نشوب الفتنة التي أشرنا إليها آنفاً؛ لأن هذا التحرش بين الترك من ناحية، والعرب والخراسانيين وسائر الموتورين من ناحية أخرى، لم يلبث أن تحول إلى اصطدام عنيف تكررت فيه حوادث العدوان في طرقات بغداد، واضطرب معه حبل الأمن في أرجائها؛ حتى لم يجد الخليفة بداً من أن ينهض بجنده المختار إلى عاصمته الجديدة سُر من رأى، ليحسم بذلك وجه النزاع ويهدِّئ من سورات النفوس. . . ففي مثل هذه الظروف لم يكن يتيسر للجاحظ أن يقدم رسالته في (مناقب الترك) وإن كان هذا لا ينفي احتمال وجود أسباب أخرى حالت دون تقديمها؛ مما قد يشير إليه قول الجاحظ في مفتتح رسالته: (هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله - رضي الله تعالى عنه ونضر وجهه - فلم يصل إليه لأسباب يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للاخبار عنها. . .).
. . . أخيراً توفي المعتصم عام 227هـ وتولى بعده ابنه أبو جعفر هرون الواثق بالله؛ وكانت النفوس وقتئذ ما تزال ثائرة، ومظاهر الأحوال لم تتغير إلى الحد الذي يبيح للجاحظ أن يقدم على ما كان عنه من قبل محجما.
وإذا افترضنا زوال الأسباب القديمة، فإن الفرصة لم تكن تعرض، والمناسبة التي يلائمها إظهار رسالة في مدح الترك وإبراز مفاخرهم لم تكن تعنّ؛ والجاحظ يعلم أن لكل مقام مقالاً، وأن الكلمة من شعر أو نثر تفقد أكثر قيمتها إذا هي برزت في غير موضعها أو ظهرت دون مناسبتها. وتلك حقيقة يتحراها أكثر الأدباء قديماً وحديثاً في عرض إنتاجهم؛ وإنها لأدل على صدق الأدب وصحة الاستلهام، وأدعى إلى قوة التأثر وبلاغة التأثير معاً. وما (أدب المناسبات) إلا صورة صادقة من الأدب الحي يعجز عنه جماعة المفْحَمين ممن لا تواتيهم قرائحهم في كل حين، فينبزون أصحابه بلقب النُّسَّاخ أو النظامين؛ وفرق ما بين الطائفتين تيقظ بديهة أو غفوتها، واستجابة خاطر أو استعصائه. . .
(للمقال بقية)
محمود عزت عرفة