مجلة الرسالة/العدد 503/السيدة سكينة بنت الحسين
مجلة الرسالة/العدد 503/السيدة سكينة بنت الحسين
للأستاذ سعيد الديوه جي
عصرها:
عاشت السيدة سُكينة في القرن الأول الهجري وهو القرن الذي تمخضت فيه (طيبة) بحوادث عظام وحروب كبرى وانقلاب في السياسة والدين والعلم والأدب والفن: منها شع نور الإسلام على العالم وأضاء سبل الهداية؛ ومنها خرجت جيوش الخلفاء الراشدين وفتحت الأمصار؛ وإليها جاءت الوفود تعرض إسلامها وولاءها؛ وفيها انصبت كنوز القياصرة والأكاسرة فأثرى أهلها بعد فقر ونعموا بعد شظف العيش.
فيها تطاحنت أحزاب قريش على الخلافة وفاز الحزب الأموي وخضع لهم الناس رغبة في عطائهم أو رهبة من سيوفهم. واقتضت سياسة الأمويين أن تقصر شباب قريش في مكة والمدينة وأن تغدق عليهم العطايا الكثيرة لتشغلهم في نعيم الدنيا ولذاتها وتبعدهم عن مناصب الحكم.
اجتمع في فتيان قريش الشباب والفراغ والجدة؛ فكان الهوى والأمل المنشود؛ وكان الغزل الإباحي العفيف، وكانت مجالس الأنس والطرب، وكان الصيد والقنص، وكانت حلقات الأدب تعقد في وادي العقيق ومنتزهات المدينة، وحول الغدران. وتحت النخيل. وحتى في مسجد رسول الله ﷺ.
فكنت ترى أبن أبي ربيعه قد جلس تحت أثيل العقيق وقد أجتمع حوله نسوة وهو يداعبهن وينشدهن أشعاره ويستمع إلى حديثهن، ويخالسهن النظرات. وهن يتوددن إليه فإذا ما وقعت إحداهن في عينه فقد قارن. ذلك لأنه سيتغزل بها ويشهرها في شعره الذي يقال في المدينة فلا يلبث أن يصل إلى خراسان. ومنيه كل فتاة أن تستميل هذا الشاعر أو غيره ممن نهج طريقته فتعده وتمنيه ليقول فيها شعراً. تباهي بها أترابها بأنها قد خلبت قلبه وملكت هواه. وحتى الأميرات وبنات الطبقة الأرستقراطية فأنهن كن يبذلن الأموال لمن يأتيهن بشعر قاله أحد الشعراء فيهن. وكان الشعراء أنفسهم يتغزلون بكل شريفة أو أميرة لا يريدون بذلك إثما ولا نكراً وإنما يذهبون مذهب المدح والدعابة. وقد حجت بنت لعبد الملك بن مروان ورغبت ان يقول فيها ابن أبي ربيعة شعراً، ورغب هو كذلك ولكنه خشي بطش الحجاج. ولما همت بالرجوع قالت (قدمنا مكة فأقمنا شهراً فما اّ ستطاع ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتاً نلهو بها في سفرنا هذا) وبلغ عمر ذلك فقال قصيدته التي أولها:
راع الفؤادَ تفرقُ الأحباب ... يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
ولما حملت إليها أعطت لحاملها في كل بيت عشرة دنانير.
وهذا الغزل الإباحي العفيف انتشر في الحجاز وخاصة في المدينة فترنم به الشبان. وغنت به القيان. وأنشده الكهول. واهتز له الشيوخ والزهاد. فابن عباس وهو من نعلم علمه وزهده وقربه من رسول الله ﷺ كان يسمع من ابن أبي ربيعه شعره في المسجد الحرام ويهتز له.
وساعد هذا الترف على ظهور الغناء في المدينة وانتشاره بين معظم الشعب، فكانت المدينة مهد الغناء، لأن الحياة المرحة التي كان يحياها أهل المدينة تستدعي اللهو والطرب. ووجد بالمدينة في هذا العصر عشرات المغنين والمغنيات من الذين برعوا في هذه الصناعة وتفننوا في ألحانهم، وأحدثوا ألحانا جديدة لم تكن معلومة عند العرب، كما اّستعملوا آلات الطرب والمعازف كالعود والبربط والقضيب والمزهر والدف. وكانت المغنية (جميلة) تعلم الفتيات هذا الفن ودارها أشبه ما يكون بمدرسة فنون يتخرج منها عشاق الفن والطرب.
ونرى فقهاء المدينة يتساهلون في تحليل الغناء بعكس فقهاء الشام والعراق. ولم يبق منهم شريف ولادنىء يتحاشى عنه حتى الصحابة والزهاد كان يعجبهم الغناء ويهتزون له. كان حسان بن ثابت إذا سمع عزة الميلاء يبكي. وكان أبو السائب المخزومي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان مع هذا ينحرف عن محرابه ويسمع غناء ابن سريج ثم يعود لصلاته. وهذا عطاء ابن أبي رباح الذي هو من أعلم أهل المدينة وأزهدهم كان يسمع الغناء ويهتز له. وقد حُكِّم بين الغريض وابن سُرَيجْ فحكم للثاني. ومر بالأوقص المخزومي قاضي المدينة سكران وهو يتغنى بليل فأشرف عليه وقال: (يا هذا أتيت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ. خذه عني) وأصلح له الغناء.
وظرف عباد أهل الحجاز مما يضرب به المثل، وكانوا لا يرون في الحب بأساً إذا لم تكن فيه ريبة. وبلغ من ظرفهم أن أبا السائب المخزومي تعلق يوماً بأستار الكعبة وأخذ يقول:
اللهم اّرحم العاشقين واعطف عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة عليهم يا أرحم الراحمين). فقال له رجل: يا أبا السائب أفي المقام تقول هذا المقال؟ فقال له: (إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجة بعمرة).
بجانب هذا كله نجد في المدينة حركة علمية قوية لا نجدها في غيرها من البلدان. ذلك لأنها مهبط الوحي الثاني بها نزل التشريع وبها عقدت مجالس رسول الله ﷺ وآثر الصحابة الكرام الإقامة بها. وقام فيها العبادلة وأحبار هذه الأمة من الصحابة والتابعين - فلا عجب إذا رأينا المدينة تصبح قبلة العلماء ومحط طلاب الفقه والتفسير والحديث والمغازي. فما من فقيه أو محدث أو طالب للأجناد إلا ونراه يقصد مدينة الرسول الأعظم ليتصل بصحابته وينال بغيته.
وإذا ما دخلت مسجد رسول الله ﷺ هالك ما تجده من الحلقات المنتشرة في فنائه الواسع. هذه هي حلقة قد تصدرها أحد الصحابة الكرام يشرح للناس ما سمعه عن الرسول، ويفسر لهم آي الذكر الحكيم. وهناك حلقة أخرى توسطها أحد الذين اّشتركوا في فتح العراق وهو يقص عليهم أيام القادسية ونهاوند وما أفاضه الله على عباده المؤمنين من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ونعمة. وهكذا قل عن بقية الحلقات فزخرت المدينة بفقهاء ورواة الحديث وطلاب السير والمغازي
وتمتعت المرأة الحجازية بحرية واسعة في هذا العصر: شاركت الرجل في الحفلات العامة
والحلقات العلمية والأدبية وحضرت مجالس الأنس والطرب وارتادت منتزهات المدينة. ومنهن من أضرت بهن هذه الحرية فأسأن استعمالها وأسفقن وتبذلن، بل فُقن الرجال في الخلاعة والمجون. يتمثل لنا هذا في وادي العقيق وحلقات المغنين ومجالس المخنثين واّجتماعات الشعراء. حتى أن بعضهن شاركن الرجل في التغتي وركوب الخيل (فقد كانت أم سعيد الإسلمية وبنت ليحيى بن الحكم بن أبي العاص من أمجن النساء، كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليها حتى تبدو خلاخليهن).
على أنه ظهر فتيات من الطبقة الأرستقراطية مثلن الفضيلة والعفاف والشرف بأجلى مظاهرها. يتجلى لنا هذا في السيدات سكينة بنت الحسين وعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب وعائشة بنت طلحة وغيرهن كثير.
فسكينة بنت الحسين كانت المثل الأعلى في العفاف والنبل والشرف والحشمة والوقار يحضر ببابها الشعراء والفقهاء ورواة الحديث والعلماء والزهاد حتى المغنون والمضحكون، فتأذن لمن تشاء منهم فيدخلون صالتها المعدة للاستقبال وتعقد مجالس العلم والأدب في دارها وتشارك هي في تلك المجالس من وراء ستار. وقلما كان يخلو دارها من شعراء يطلبون صلتها، أو رواة يحتكمون إليها، أو علماء يتجادلون بحضرتها، أو فقهاء يأخذون عنها. أو أشعب يضحكها أو مغني يطربها. وهكذا شاركت الشعب في أفراحه وأتراحه وترفعت عن تبذله وخلاعته.
في هذا العصر الحافل بحسناته وسيئاته تألق نجم السيدة سكينة في عالم العلم والأدب والفن.
سعيد الديوة جي
بالموصل