انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 501/هل أدت الجامعة رسالتها؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 501/هل أدت الجامعة رسالتها؟

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1943


للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات

في عصرية السبت الماضي أقيمت مناظرة في كلية الآداب أريد بها تحديد المدى الذي وصلت إليه الجامعة في تأدية رسالتها العلمية والأدبية والاجتماعية، واشترك في المناظرة طالب وطالبة، واثنان من الخرجين، واثنان من المدرسين، وقد دامت المناظرة نحو ثلاث ساعات، وحضرها جماهير من بيئات مختلفات، ولم يقع فيها ما يسوء برغم العنف الذي ثار تصريحاً أو تلميحاً بين المؤيدين والمعارضين. ومع أني كنت أؤيد الرأي فقد راعتني الحجج التي قدمها من عارضوني، لأن أحدهم وهو الأستاذ حسين دياب حضر ومعه عددان من مجلة (الرسالة) فيهما كلمات تشهد بأني قلت مرتين بأن الجامعة لم تؤد رسالتها على الوجه المنشود

كانت كلمتي مكتوبة، ولكني اختصرتها لضيق الوقت، فتجمع الحاضرون حولي عند الانصراف، ورجوني أن أنشرها في (الرسالة) كاملة ليقرءوا ما فاتهم أن يسمعوه، فأنا أقدمها إلى (الرسالة) تحقيقاً لذلك الرجاء النبيل

وتكميلاً للغرض أسوق الملاحظات الآتية:

1 - أجمع المعارضون أن الصلة بين الجامعة وخريجها منقطعة تمام الانقطاع، وأن الجامعة لا تعرف غير من تراهم من الطلبة والمدرسين. ولو كانت الجامعة أدت رسالتها لكان من الواجب أن تهيئ لأبنائها القدماء فرصة التلاقي في رحابها في كل عام مرة أو مرتين

2 - كان اللحن الفظيع يغلب على بعض المعارضين، وكان الجمهور يقابل اللحن بالضجيج، وقد اعتذر أحد المعارضين بأن لحنه من الشواهد على أن الجامعة لم تؤد رسالتها، فكان ألطف اعتذار في التاريخ الحديث!

3 - وردت في خطبتي كلمة موجهة إلى العميد، فأسرع بعض المدرسين ليسر في أذني كلاماً يرجوني فيه ألا أحرج العميد وكان الظن أن يدركوا أن العميد أقوى مما يظنون؟

4 - كان اثنان من المدرسين المشتركين في المناظرة يقلدان الدكتور طه حسين في التعابي وفي مخارج الحروف، وهذا دليل على ضعف الشخصية، فأنا أحب أن يكون لكل خطيب وجودٌ خاص

5 - المنطق قد انعدم في بعض أقوال المعارضين، فقد توهم أحدهم أن الجامعة لا تؤدي رسالتها إلا إذا عمل خريجوها بالمجان في جميع الميادين، ونص بالحرف على أن الأطباء في المستشفيات يتناولون مرتبات، وهذا في رأيه ينافي الروح الجامعية

6 - الألفاظ كانت فضفاضة عند بعض الخطباء حتى كدت أحس أن المناظرة لا تدور في المدرج الأكبر بكلية الآداب!

7 - كان أحد الخطباء يوهمنا أنه يرتجل مع أنه حفظ خطبته عن ظهر قلب!

8 - حدثنا أحد المعارضين عن تقاليد الجامعات الأوربية بكلام هو غاية العجب، مع أن عينه لم تكتحل برؤية جامعة أوربية، كما قال أحد المؤيدين، فمن أين استقى هذا المدرس المفضال معلوماته المبعثرة عن تقاليد الجامعات الأوربية؟

9 - الأديب سعيد محروس كان يقلد الخطيب محمد شكري في الإشارات والنبرات، وهذا دليل على أن الروح لا يموت، فقد كان محمد شكري أظهر خطباء الثورة، ثم انهزم لأنه عجز عن مسايرة الأحزاب

10 - الآنسة كوثر عبد السلام أجادت في المعاني، ولكنها عقت النحو عقوقاً لا يطاق. فذكرتنا بقول أحد الشعراء:

منطقٌ صائبٌ وتلحن أحيا ... ناً وأحلى الحديث ما كان لحنا

11 - حضر الأميرالاي علي حلمي لشهود المناظرة، وفي الطريق إلى المدرج لقينا الدكتور محمود عزمي، فقال له سعادة الأميرالاي: لعلك حضرت لنفس الغرض! فقال الأستاذ محمود عزمي: إن عندي حصتين في معهد الصحافة. فقلت: هات تلاميذك ليشهدوا المناظرة، فقد يختزنون مناظر تنفع في حياتهم الصحفية، فاعتذر بلطف وانصرف

هذه هي الصحافة التي تعرفها كلية الآداب، صحافة نظرية لا علمية، صحافة تأخذ وقودها من التاريخ لا من الحياة، صحافة تنكر الرحلات من حجرة إلى حجرة في مكان محدود، مع أن من واجب الصحفي أن يرتحل من قطب الشمال إلى قطب الجنوب

أما بعد فأنا آسف على ما أثبت في خطبتي من أن كلية الآداب خدمت الصحافة بإنشاء معهد الصحافة، ولن أمحو ما أثبت، لأني لا أريد التسجيل، وإنما أريد الإيحاء

ولم يبق إلا أن يتفضل أخي الأستاذ الزيات فينشر خطبتي بالحرف، مع الرجاء في أن يتذكر أني لم أثن على الجامعة المصرية بغير الحق، رفع الله دعائمها إلى الأبد، وجعلها منارة باقية إلى آخر الزمان.

أيها السادة

حين دُعيت للمناظرة في هذا الموضوع الطريف قلت لنفسي: إن لجنة المناظرات بكلية الآداب هبط عليها الوحي من حيث لا تحتسب ولا تعرف، فإن هذا الوقت هو أنسب الأوقات لوزن أعمال جامعة فؤاد الأول. ألم تسمعوا بأن الاحتفال الرسمي بافتتاح جامعة فاروق الأول سيكون في الأسبوع المقبل؟

إن في ذلك لفرصة لوزن ما لجامعة القاهرة وما عليها بالعدل والقسطاس، وهو أيضاً توجيه لجامعة الإسكندرية، فما أظنها تكره أن نمدَّ إليها يد الرفق، لنعاونها على مصارعة الأمواج، وهي في بلد الأثباج

وكان المنتظر أن أكون في الصف الذي ينكر أن تكون الجامعة قد أدت رسالتها، ولكن لجنة المناظرات رأت أن قوتي في الهجوم، فبخلت بإعطائي فرصة جديدة أرفع فيها العَلَم لقلمي وبياني، في المكن الذي صاولت فيه كبار الرجال، بغير تهيب لعواقب الصيال

أو لعلها أرادت أن أشهد علانية بتمجيد الجامعة بعد أن حاربت من حاربت من رجالها الأبطال. إن كان ذلك ما أرادت فلن تنال ما تريد، لأن من رسالة الجامعة أن تروض أبناءها على الخلاف، ونحن نختلف أقل مما يجب، ويا وليلنا إذا لم نختلف!

فلا تحسبوني أغمدت القلم الذي أعددته لمصاولة زملائي، ولا تتوهموا أني سأعفي الجامعة من النقد الصريح، يوم أراها تقع فيما يوجب الانتقاد، فأنا أومن بأن الحرب حياة وبأن الصلح موت، وأنا الذي قال حين تنادي رجال الأقلام إلى الوفاق:

دعوتم إلى وأد الخلاف فحاذروا ... عواقبِ حلفٍ خير آثاره الختل

دُعوا الصلح للأموات فهو غذاؤهم ... هنيئاً لهم ذاك المكان الذي حلُّوا

ألاَ هل سمعتم أن قبراً تحركتْ ... حجارته فانزاح من فوق الثِّقْلُ

يجوز لقومٍ غيرنا أن يؤلفوا ... عصائب يحميها من النكثة الفتل ونحن رجالٌ سرُّنا في خلافنا ... وقوّتنا العليا هي الفتك والصول

تآخي الظباء الرُّود رمزٌ لضعفها ... وهل تعرف الآساد ما الجمع والشمل

أيها السادة:

أتذكرون المناظرة التي اشتركت فيها بهذا المكان منذ سنتين أو ثلاث؟

لقد جئت وبيميني صحائف مكتوبة، لآمن التزيد الذي يستبيحه بعض المتناظرين، رغبة في كسب الأصوات، أو طمعاً في التغلب على مفكر لا يعتزّ بغير العقل والبيان

وقد رأيت أن ألقاكم بصحائف مكتوبة، مع أن مقامي هذا لا يحتاج إلى احتراس، بعد أن أعفتني لجنة المناظرات من النضال حين خصّتني بالجانب الأقوى في مناظرة هذا المساء، فاعرفوا أني قيدت كلامي، لأني سألقيه في أحد مدرجات الجامعة، والجامعة لا ترضى لأبنائها أن يتركوا الأوابد بلا قيود

ولكن كيف أخاف الإسراف في إبراز محامد الجامعة، وليس في الخير إسراف؟

الجامعة هي كل ما غنمنا من جهاد العوام التي أربت على الستين في مقاومة الاحتلال

الجامعة هي صوت مصر في الشرق، وقد اختارت الضفة الغربية من النيل رمزاً لما تسموا إليه من نقل عقل الغرب إلى روح الشرق

إن الجانب الذي سأتحدث عنه هو الجانب الأقوى، ولكنه مزعج، لأنه سيقهرني على مواجهة مشكلة من أصعب المشكلات، وهي توضيح الواضحات، وهل ينكر أحدٌ أن الجامعة أدت رسالتها قبل أن يولد بعض مناظريّ في هذا المساء؟

لم تكن للجامعة رسالة واحدة، وإنما كانت لها رسالات، وإليكم يساق الحديث:

كانت رسالتها الأولى أن تختبر العزائم والقلوب، لتعرف استعداد الأمة للتحليق في الجِواء العالية، يوم كان جماعة من خلق الله يقولون: إن السياسة الحكيمة للتعليم هي إعداد موظفين مصقولين. ونحن نعرف المواد من ذلك الصقل، فقد كان الغرض أن يكون عندنا موظفون لا يقولون (لا) ولو في التشهد!!

وقد كان المظنون أن تخفق الجامعة في تأدية تلك الرسالة، فقد كان الأمر يومئذ إلى حكومة مصقولة، حكومة تستهدي الاحتلال في حل بعض المعضلات، وكان الاحتلال يرى أن مصر تحتاج إلى كتاتيب لا إلى جامعات فهل أفلحت الجامعة في إيقاظ الروح القومي لتشعر المحتلين بأن مصر شبَّتْ عن الطوق، وانتهت من أبجديات الكتاتيب؟ هو ذلك، فقد أقبلت الأمة على تأييد الجامعة إقبالاً منقطع النظير، إقبالاً يشهد بأن الجسم الوهين عروقاً نابضات، وأن مصر علمَّت فلاسفة الإغريق والرومان في العصر القديم ستكون موئلاً علميّاً لليونان والطليان في العصر الحديث

تلك الرسالة الأولى، فما الرسالة الثانية؟

كانت الرسالة الثانية أن تجد الجامعة طلاباً يسعون لظفر بإجازات علمية، لا تعترف بها الحكومة المصرية، طلاباً لا أمل لهم في الوظائف والمناصب، ولا حظ لهم غير التشرف بخدمة الدراسات العالية، في زمن كان فيه تراب الوظيفة أثمن من التبر المسبوك، وأروع من خيوط الضياء

وذلك عهدٌ عرفتُه بدمي وروحي، وعرفه معي زملاء من أبناء الجامعة في عهدها الأول. . . كنا يتامى، وكان اليُتم المضطهد بعض ما ورثنا عن الأنبياء

لم يكن للجامعة ماضٍ تستند إليه، فقد سبقتها المدارس العالية بعشرات السنين، وسبقها الأزهر بعشرات القرون، ولم يكن لنا إخوان في أي ديوان، فقد عشنا حيناً غرباء، وكان من حق أي مخلوق أن يسخر منا كيف شاء، والحر في وطنه غريب

لقد حملنا أعباءنا الثقيلة ولا معين، ورحبنا بالمكاره السود، لنقنع الأمة بأن عدننا رسالة لم يحملها أحد من قبل، وهي رفع راية الفكر الصداق والقلم البليغ

في ذلك العهد كنا نسمع أن علوي باشا يطوف على الوزارات عساه يجد أمكنه للعائدين الفائزين من بعثات الجامعة المصرية، وكنا نسمع أنه يجاب بأن (الحكومة ستنظر في الأمر) وهي عبارة ديوانية معناها أن الحكومة السنية لا تعرف من أعضاء البعثات إلا من تنفق عليهم من مالها الخاص، كأن الجامعة كفرت حين عاونت الحكومة على تثقيف بعض أبناء الجيل الجديد!!

وحكومة مصر كما تعرفون تجهل أقدار الذين يعفونها من النفقات عند الرغبة في التزود من الجامعات الأوربية والأمريكية لأغراض مردُّها حب السيطرة على العلوم والعلماء

فهل جزعنا فيئسنا؟

هيهات، ثم هيهات، فقد رحبنا بالجهاد في مناصب الجامعة بعنفوان أقوى من عنفوان الزمان، وقد انتصرنا على الحكومة، وعلى الزمان

تلك الرسالة الثانية، فما الرسالة الثالثة؟

كان للجامعة وحيٌ يغزو القلوب والعقول، وقد تسامَى إلى غرض أعجب وأعرب، وهو إنطاق الصخر الجلمود، فقد أقنع الحكومة بأنْ لابد من إنشاء جامعة في الوطن الذي سبق جميع الأوطان إلى إنشاء الجامعات، فتألفت لجنة حكومية عقدت في أربع سنين جلسات تفوق الثمانين، لتقول في النهاية بتسمية المدارس العالية كليات، وبعض أنصار الحكومة في ذلك العهد كانوا يعرفون الأسماء ويجهلون المسميات

وحي الجامعة كان الوحي الصادق، فقد انسحبت الحكومة من الميدان بعد اليأس، وبقيت الجامعة تصنع بأحلام الشباب وقلوبهم وعقولهم ما تريد

في تلكم الأيام كان أبناء الجامعة يقتحمون الميادين العلمية والأدبية، وكانوا يقيمون البراهين الصوادق على أن فكرة الجامعة لن تموت، ولو قامت في طريقها ملايين العقبات

تلك الرسالة الثالثة

أيها السادة:

قبل أن أواجه العهد الثاني من عهود الجامعة المصرية، العهد الذي ابتدأ في سنة 1925، وهو العهد الأرحب والأخصب، أرى من الواجب أن أجمل القول في العهد الأول، بصورة تشعركم بقيمة الرسالات التي أدتها في ذلك العهد

كان للجامعة مبعوثون إلى الجامعات الأوربية من أمثال منصور فهمي، ومحمود عزمي، وصادق جوهر، وأحمد ضيف. ولا ينكر أحدٌ أن مبعوثي الجامعة كانوا أقوى من مبعوثي الحكومة. وكانوا أقدر على النضال في الميادين العلمية والأدبية والاجتماعية، وأنا في هذا المقام أضرب الأمثال، ولا أحاول الاستقصاء

وكان للجامعة في ذلك العهد أبناء تثقفهم في دارها من أمثال: طه حسين وكمال حلمي وفريد رفاعي وتوفيق المرعشلي وأحمد البيلي وحسن إبراهيم وعبد الوهاب عزام ومحمد إبراهيم الجزيري، فماذا صنع هؤلاء؟

لن أتحدث هن جهودهم بالتفصيل، فأنتم تعرفون من جهودهم أكثر مما أعرف، ويكفي أن أؤيد رأيي بشاهد واحد لكم بعض ما صنعت الجامعة في ذلك الحين في سنة 1914 تخرج أول دكتور من الجامعة المصرية، وهو الدكتور طه حسين، وقد قدّم لامتحان الدكتوراه رسالة سماها (ذكرى أبي العلاء)، رسالة ظنها الناس تأليفاً كسائر التأليف، ولكنها أدهشتهم حين طُبعت، فقد رأوا أن للجامعة نفَساَ أطيب من سائر الأنفاس، وأدركوا أن الجامعة تخلق أبناءها خلقاً جديداً، وأن لها رسالة جيدة، وأنها مصباحٌ سيبذّ ما سلف من المصابيح

ولم تكن رسالة الدكتور طه مثالاً يحتذيه طلبة الجامعة فحسبُ، وإنما امتد أثرها إلى آفاق بعيدة من أقطار الشرق

وقد قدّم الدكتور طه بعد ذلك بأعوام رسالة إلى جامعة باريس عن ابن خلدون، ولكنها ليست في قوة الرسالة التي قدمها إلى الجامعة المصرية عن أبي العلاء، فكان هذا برهاناً على أصالة الجامعة المصرية في تثقيف الأذواق والعقول

ثم ماذا؟

ثم نظرت الجامعة فرأت الحكومة تخنق التعليم في المعاهد العالية، فأنشأت قسم الحقوق في أعوام عجاف، هي أعوام الحرب الماضية، وكانت النتيجة أن تعترف الحكومة نفسها بأن أبناء الجامعة المضطهدة أقدر من أبنائها على الظفر بالدرجات العالية.

وفي ذلك العهد كانت دار الجامعة هي الموئل لكبريات الحفلات، ففيها أقيم الاحتفال بذكرى الشيح محمد عبده، مع أن الأزهر لم يحتفل بتأبين ذلك الإمام الجليل. وفيها احتُفل بتأبين فتحي باشا زغلول وعثمان باشا غالب، وفيها احتُفل بذكرى رينان، وفيها ألقيت عمرية حافظ إبراهيم وعلوية محمد عبد المطلب، وعلوية عبد الحليم المصري

وفي ذلك العهد. . . ماذا وقع في ذلك العهد؟

كان مجلس الجامعة المصرية ينتظم أكابر المصريين، وكان هو المكان الوحيد الذي يجتمع فيه أولئك الأكابر في أمان من الرقباء، وفيه تألف الوفد المصري برياسة الزعيم سعد زغلول.

ألا تكون هذه الناحية الخطيرة جانباً من رسالة الجامعة في عهدها الأول؟

زكي مبارك