مجلة الرسالة/العدد 497/مستدركات
مجلة الرسالة/العدد 497/مستدركات
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأديب (خالد عبد المنعم) في عدد ماضٍ من الرسالة كلمة طيبة عن كتابي (عبقرية عمر) ختمها بقوله:
(على أننا في قراءتنا لعبقرية عمر بالصفحة 319 استوقف نظرنا قول المؤلف في صدد النزاع الذي نجم عن الخلاف عقب موت الرسالة ما نصه:
(. . . فالأنصار يقولون إنهم أحق بالخلافة من المهاجرين لأنهم كثرة والمهاجرون قلة، ولأنهم في ديارهم والمهاجرون طارئون عليهم، ولأنهم جميعاً من قريش ولهم فضل التأييد والإيواء)
(والعبارة على هذه الصورة توهم أن الأنصار من قريش وهم بالطبع ليسوا كذلك)
وقد أصاب الأديب في قوله إن العبارة توهم أن الأنصار من قريش، وليسوا منها
ولكن المسألة - كما هو ظاهر - مسألة سهولا أكثر ولا أقل، إذ لا يطلع أحد على ما جرى في سقيفة بني ساعدة ثم يفوته أن الأنصار كانوا ينازعون قريشاً الخلافة، وأن قريشاً قبيلة والأنصار قبائل أخرى، وقد كان المتكلمون في السقيفة يجرون كلامهم على حق قريش في الخلافة وهل هم الأمراء دون غيرهم أو يجوز لغيرهم أن يشاركهم فيها. فتكلم في ذلك أبو بكر وعمر وتكلم فيه كل متكلم من الأنصار، من نقل عن زعيمهم ومن استقل يومئذ بالمقال
فليس بجائز أن يطلع أحد على كلام عمر يومئذ أو كلام أبي بكر أو كلام من خالفوهما ثم يفوته أن الأنصار من غير قريش وأنهم كانوا يقفون منها موقف المنازع الذي يطلب الاستبداد بالأمر دونها أو لا يقنع بما دون مشاركتها في الإمارة
وليس بجائز أن يعرف أحد ما هي مكة وما هي المدينة ومن هم الذين هاجروا ومن هم الذين نصروا ثم يفوته أن يفرق بين قريش وبين الأوس والخزرج ومن عاش معهم من أهل المدينة
فالسهو هنا - بالطبع - كما قال الأديب المستدرك، لأن الأنصار - بالطبع - لم يكونوا قرشيين
والذي يخطر ببالي الآن أنني أردت أن أكتب (من المسلمين) فسبق القلم بكتابة قريش لغلبة ذكرها والخلاف عليها في الذهن وقيام الخلاف حولها في ذلك اليوم، وهو سهو يقع فيه القلم كما يقع فيه اللسان
فللأديب الشكر على تنبيهه، فإن ما توهم العبارة التي نقلها يحتاج إلى تصحيح وإن بدرت صحتها إلى البداهة بغير عناء
ذلك استدراك على كتاب
وهناك استدراك آخر على كتاب آخر، أو على كلمة في مقدمة ذلك الكتاب، وهو (أعاصير مغرب) ديوان شعري الجديد
والكلمة المستدرك عليها هي قولي في مقدمة الأعاصير: (يصح على هذا أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى، أو هو العهد الذي تفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها خبرة من قبل، فيشاهد عليها ما يشاهد على كل بنية تفاجئها حالة طارئة. فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه: وجه ساهم، وفم مغفور، وطرف ذاهل، ولسان معقود، ونفس مطرود. . . وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره.
مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ولم تألفها النفس، فلم تزل بها حاجة إلى التثبت منها والرياضة عليها. ثم تأتي هذه الرياضة شيئاً فشيئاً مع تعاقب الأيام وتعاقب ألوان الشعور. . .)
يقول الأديب المستدرك (حسن رياض) إنني قلت غريباً لم يسمع به من قبل، وهو أن الحب والغزل مستغربان في الشباب ولكنهما لا يستغربان فيما بعد الشباب في سن الشيخوخة. . . إلى آخر ما قال
وأنا أشهد الله والقراء أنني لم أقل ذلك، ولم أقل ما يوهم ذلك، ولو من بعيد
فإن القول بأن الحب مفاجأة في سن الشباب شيء، والقول بأنه غريب في تلك السن شيء آخر
لأن المفاجأة قد تتكرر ملايين المرات فلا تكون غريبة بعد هذا التكرار، وإن سميت مفاجأة في كل مرة من هذه المرات
فهذا الشاب تفاجئه العاطفة الغرامية في مطلع شبابه بعارض جديد في حياته، فهي مفاجأة لا ريب فيها
ولكن هكذا كل شاب تعرض للعاطفة الغرامية منذ كان الإنسان كما نعرفه الآن إلى آخر الزمان
كل شاب يفاجأ هذه المفاجأة، فلا غرابة إذن في وقوعها ولا في ملازمتها لمطلع الشبيبة في ريعانها لأن هذا الواقع المتكرر الذي لا يصدمنا بغير ما عهدناه
إلا أنني لا أريد أن أكتفي بدفع هذا اللبس الذي لا يحتاج إلى مناقشة طويلة، فقد يغني في دفعه نقل الكلمة التي وقع عليها الاستدراك ثم الوقوف عند نقلها بغير تعقيب
وإنما أردت أن أتجاوز هذا اللبس العارض إلى الأساس الذي يقوم على كل لبس من هذا القبيل، وهو من جنايات اللغة أو من جنايات (التسمية) حيث كانت فيما أراه
تطلق اللغة كلمة واحدة على عاطفة أو شعور أو حالة نفسية تلم بجميع الناس، فيسبق إلى الوهم أننا أمام شيء واحد لأننا نعبر عنه بكلمة واحدة، ويطرأ التناقض واللبس والاستغراب من هذا الوهم الذي يصعب التنبه إليه في كثير من الأحيان
(فالحب) مثلاً كلمة واحدة بل كلمة واحدة مختصرة في حروف ثلاثة خفيفة على كل لسان
فهل هي شيء واحد مختصر هذا الاختصار، مجموع في هذه الحروف، سريع إلى الفهم كسرعة اللسان في النطق بحروف اسمه الصغير؟
أجهل الناس بالشعور الإنساني لا يقول (نعم) في جواب هذا السؤال
فالحب يتناول مئات من الأشياء التي لا تحدها أسماؤها لاختلافها هي أيضاً في الصفات والعوارض والعلاقات والمناسبات
الحب يتناول الغريزة النوعية، ويتناول ذوق الجمال، ويتناول الشعور الاجتماعي الذي يدعو إلى التآلف ويقال في تعليله إن الإنسان مدني بطبعه، ويتناول فهم الميول الإنسانية والإيمان بأخلاق الوفاء والصدق والمجاملة، ويتناول التقارب بالعقول والمدارك والنزاعات، ولا توجد في الإنسان واشجه من وشائج النفس والجسد لا تتناولها هذه الكلمة ذات الثلاثة الحروف
ثم ما هي الغريزة النوعية التي هي جزء مما تنتظم في الحب من بعض نواحيه؟
هي أيضاً شيء كثير الشعب كثير الأطوار كثير الأوصاف على حسب الأمزجة والأعمار والعقول
وما هو ذوق الجمال؟ وما هو شعور المدنية الطبيعية؟ وما هي الأخلاق التي تفرض الصدق والوفاء؟ وما مبلغ سلطانها على أناس وانقطاعها عن آخرين؟
وما هو العقل؟ وكيف يتقارب ويتباعد؟ وإذا تقارب بين إنسانيين فهل يتقارب بينهما في جميع الأمور؟ وإذا تقارب بينهما في جميع الأمور فهل يتقارب في جميع الأوقات؟ وإذا تقارب حيناً بين إنسانيين ألا يجوز في ذلك الحين أن يتقارب بين إنسانيين آخرين؟
ثم ما هو الشعور نفسه إذا وصفنا الحب إجمالاً بأنه ضرب من الشعور؟ ما سلطانه على الإرادة أو ما سلطان الإرادة عليه؟ وما هي الإرادة بعد هذا وذاك؟ ولماذا تضعف في ساعة وتقوى في ساعة أخرى؟ ولماذا تكون في ساعة واحدة ضعيفة أمام أحد الناس وقوية أمام غيره!
كل أولئك حالات تقبل التنويع والتلوين والتدريج وكل أولئك تجمعه كلمة واحدة في ثلاثة حروف
فإذا حضرناه بمقدار حروفه إذن محدود يكون على حالة واحدة ولا يكون على غيرها. ويسهل أن نستغربه كلما رأيناه على غير ما تصورناه
وإذا نظرنا إلى شعابه وفروعه وألوانه ودرجاته جاز أن نراه في ألف حالة متناقضة ولا نستغربه في جميع هذه الحالات أقل استغراب.
جاز أن تسيطر عليه الغريزة النوعية، وجاز أن يسيطر عليه ذوق الجمال وفنون الجمال، وجاز أن يسيطر عليه التفاهم ورعاية الأخلاق، وجاز أن تسيطر عليه هذه البواعث مختلفات في المقادير والمظاهر والدرجات
كل أولئك جائز، وكل أولئك حب، وكل أولئك عارض من عوارض النفس الإنسانية في جميع الأعمار
ولكننا وضعنا اللغة فحبسنا تلك المردة أو تلك الأرواح أو تلك الأشباح في قمقم صغير من ثلاثة حروف خفاف على اللسان
قل (حب) فقد قلت كل شيء ولفظت بالطلسم الذي يحبس المردة في (القمقم) الصغير
ولكنك إذا جاوزت القول إلى الدخول في أعماقها والتفرقة بين شياطينها واللعب بأسرارها ثارت بك والتوت عليك، وكسرت القمقم شر كسرة، فإذا هو يتطاير شعاعاً هنا وهناك ولا تجتمع منه هباءة على هباءة، ولو سلطت عليها ألف حرف وألف كلمة وألف لغة تضيق بها المعجميات
فما هو الحب الذي تستغربه ولا ترى أنه يكون في إبان الشباب؟ وما هو الحب الذي تستغربه ولا ترى أنه يكون بعد الشباب؟
هو على كل حال كلمة واحدة ولكنه ليس بشيء واحد.
وعليك قبل استغرابه أن تميزه في جميع حالاته، فإذا ميزته فقد عددته وفرقته وجاز - بل وجب - أن تراه في جملة حالات ولا تقصره على حالة واحدة تستغربه فيما عداها
من فضائل اللغة أنها قيدت المردة في القماقم، ومن جناياتها أنها قليلة القماقم فوضعت في قمقم واحد ما من حقه أن يوضع في ألوف!! وعلينا نحن أن نحترس من جناياتها بحساب، ونستفيد من فضائلها بحساب
ونلحق بما تقدم استدراكاً قرأناه في العدد الأخير من الرسالة جاء فيه تعقيباً على مقالنا في التلباثي:
(لو كان المقاتلون قد سمعوا صوت عمر وهم مئات، ولو كان ذلك قد تم بواسطة التلباثي لاقتضى الأمر أن يكونوا كلهم موهوبين أو وسطاء، وهو ما لا يعقل. . .)
ثم جاء فيه: (كل مقال الأستاذ العقاد منصب على إثبات وجود التلباثي بأدلة منطقية قياسية، وقد فرغ العلماء من إثباته منذ 85 سنة، وتدرس هذه العلوم كدراسات عليا في جامعات إنجلترا الكبرى. ومحاولة الأستاذ إثباتها كمن يحاول إثبات وجود أشعة إكس بالاستنتاج الخ)
أما أن مقالي منصب على إثبات وجود التلباثي فغير صحيح، لأنني لم أتجاوز تخطئة الذين يجزمون بنفيه. وقلت: (يجوز أن يأتي غداً من يثبت - هذه الملكة - ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه، ويجوز أن يأتي غداً من ينفيها نفياً قاطعاً لا شك فيه).
وأما أن وجود التلباثي ثابت كوجود أشعة إكس فذلك قول يدعيه المدعي وعليه إثباته. وقد نقنع منه بتقرير ثلاثة من المشتغلين بالعلم عندنا يؤيدونه فيما قال. وأول ما يقتضيه هذا الرأي أنه يبطل القول بالملكة النفسية ويجعلها خاصة من الخواص التي تتكرر في كل جسم وفي كل معمل من معامل الطبيعة، وهذا كلام لا يقره النفسيون ولا الطبيعيون ولا المنطقيون
وأما ما قاله صاحب الاستدراك عن سماع الأصوات على البعد فما زاد فيه على ما رأيناه حيث قلنا في مقالنا السابق: (إن التقاء نفسين أيسر قبولاً من التقاء نفس واحدة من جانب وألوف النفوس من جانب آخر)
أو حيث قلنا: إن انتقال الصوت المادي مئات الأميال يقتضي أن يكون صوت سارية قد سُمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئاً من ذلك)
وهذا ما نجيب به عن استدراك المستدرك ولا نجيب عن غيره من كلامه الذي لا نرى فيه ما يناقش أو يجاب.
عباس محمود العقاد