انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 489/الهدف الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 489/الهدف الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 11 - 1942


للدكتور زكي مبارك

(في الاحتفال الذي أقيم بدار الجمعية الجغرافية لافتتاح الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية ألقيت ثلاث خطب في تحديد أهداف الموسم: خطبة الدكتور منصور بك فهمي في الهدف الروحي، وخطبة الدكتور حسن إبراهيم في الهدف الاجتماعي، وخطبة الدكتور زكي مبارك في الهدف الأدبي. وحال مرض الدكتور عبد الوهاب عزام دون خطبته في الهدف العلمي)

هذه فاتحة الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، والجامعة أول مظهر من إرادة الأمة في العصر الحديث، فقد أنشأتها الأمة قبل أن تفكر فيها الحكومة، والأمم لا تسبق الحكومات إلا حين تكتمل فيها الحيوية الروحية والعقلية. وقد كان من أثر ذلك أن صارت الجامعة منذ إنشائها إلى اليوم مثابة لحرية الفكر والرأي. ولعلكم تذكرون إنها لم تقبل الانضمام إلى الحكومة إلا بعد إعلان الاستقلال، وبعد أن صارت الفكرة القومية هي التي توجه مذاهب التعليم والتثقيف إلى خير البلاد

كان الموسم الثقافي لخريجي الجامعة حلماً يعتاد خاطري من حين إلى حين، وكان الرأي عندي أن ينهض به الخريجون المستقلون، وأعني بهم من لا يتصلون بالجامعة عن طريق التدريس، لأن الجامعة أعدت هؤلاء لتثقيف الطلبة، وأعفتهم من تثقيف الجماهير، ولأن لبث الثقافة الجامعية خارج أروقة الكليات أساليب يجيدها الجامعيون المستقلون بأقوى مما يجيدها الجامعيون الرسميون. . . وهل ننسى أن للتدريس قيوداً تحصر المدرس في آفاق لا تتسع في كل وقت لدرس ما يتصل بالمجتمع من معضلات لا يلتفت إليها الطلبة إلا بعد أن تكتوي أيديهم بنيران المجتمع؟

إن الجامعي المدرس يكون في أحسن أحواله يوم يصبح على رأي الفراء حين قال: سأموت وفي نفسي شيء من حتى!

ومعنى ذلك أن أفضل حياة للجامعي المدرس هي الحياة التي تفرض عليه أن يكون إماماً في تشريح الجزئيات، عساه يصل بتلاميذه إلى تصور الكليات، في تواضع محبوب ينسيه وجوده الذاتي، ويحبب إليه الرضا بحظ الجندي المجهول في تثقيف العقو الجامعي المدرس لا يعاب عليه أن يجهل المجتمع الذي يعيش فيه، ما دام يعرف الدقائق من العلم الذي انقطع إليه. وقد رأيت من أساتذة السوربون من يجهلون زمانهم بعض الجهل، أو كل الجهل، لأنهم تخصصوا في دراسات سبقت زمانهم بأجيال.

أما الجامعي المفكر فله أسلوب غير هذا الأسلوب. الجامعي المفكر يتخذ من الدراسات الجامعية موازين يزن بها ما في المجتمع من أحلام وأوهام، وحقائق وأباطيل. الجامعي المفكر يرى جميع العلوم وسائل لا غايات، فالغاية الصحيحة عند الجامعي المفكر هي أن ينقل المجتمع من حال إلى أحوال في مذاهب الفكر والمعاش. الغاية عنده هي الإبداع لا التحصيل، الغاية عنده أن تكون آراؤه موضوعات الدرس في الجامعات، لا أن يكون شارحاً لآراء الناس. ومن اجل هذا اختلف المحصول الذي يصدر عن الجامعي المفكر والمحصول الذي يصدر عن الجامعي المدرس، فالأول يبدع والثاني يشرح، وهما في منزلة سواء في نظر العدل، لأن الغرض الأصيل هو خدمة الحق بأي أسلوب وفي أي موضوع.

ومن آفات الحياة في مصر أن يتوهم أهلها أن الفكرة الجامعية لا تتمثل إلا في الجامعي المدرس، وكان ذلك لأن مصر طال عهدها باحترام الوظيفة الرسمية، فلم تعد تدرك أي قيمة للوظيفة الروحية

وقد انساق الجامعيون هذا المساق، فلم نسمع أن فيهم من يحمل راية الجامعة، وهو غير مدرس بالجامعة، فكانت النتيجة أن يحبس صوت الجامعة في حدائق الأورمان، وأن تشعر الحواضر والأقاليم بأن الجامعة صورة من صنع الخيال

والحق أن الجامعة أرادت لأبنائها ما لم يريدوا لأنفسهم، هي أرادت أن يكونوا مفكرين، وهم أرادوا أن يكونوا موظفين، وبين الإرادتين فرق بعيد

ومن أجل هذه الأسباب ضاعت محاولاتي في خلق الموسم الثقافي لخريجي الجامعة المصرية، وهو موسم دعوت إليه منذ أعوام ولم أجد من يستجيب، إلى أن لاحت فرصة لا يجود بها الزمان، إلا في أندر الأحيان

فما تلك الفرصة الذهبية؟

رأيت جماعة من خريجي الجامعة يتشكون على صفحات الجرائد من قلة الرواتب، فأسرعت إلى نهيهم عن هذا التشكي، وأفهمتهم أن للجامعة رسالة غير رسالة القوت، وأن مبدأنا أن نجوع لتشبع الأمة، وأن نتعب لتستريح. . . وهل تعرفنا الجامعة إن صرنا طلاب أموال، لا عشاق آمال؟

وسمع خريجو الجامعة صوتاً لم يسمعوه من قبل، فدعوني لأشرح لهم رأيي، فقلت: إني لا أثق إلا بمن يحلفون على المصحف، فقالوا: إن اليمين لا تطلب إلا من المرتابين، وسترى كيف نصدق بدون يمين

كان ذلك في يوم جمعة من شهر رمضان، فهل تكون الأقدار أرادت أن توقظ المعاني الروحية في أنفس الجامعيين، بلمحة كريمة من لمحات شهر الصيام عن الآثام؟

أؤكد لكم أني لم أكن أنتظر أن يتقبل أولئك الشبان هذا الصوت بمثل ذلك القبول، فقد ابتلتهم الأيام بعصر منحرف عن المعاني. وهل فينا من ينكر أن الموظف الذي يزيد مرتبه عن زميله خمسة قروش يعتقد إنه أرقى من ذلك الزميل؟

البحث عن الدرجات المالية ليس من عيوب الفكرة الجامعية، ولكنه من عيوب الحياة الديوانية. وسيذكر أبناء الجامعة واجبهم، سيذكرون أن إنشاء الجامعة كان في الأصل غضبة على سياسة التعليم للتوظيف، وصاحب الوظيف وصيف، كما يقول أهل تونس الخضراء

ما الذي يوجب أن يبحث الشاب المتخرج في كلية التجارة أو كلية الزراعة عن وظيفة كتابية؟

إن هذه الظاهرة تشهد بأن بعض الكليات تعجز من رياضة أبنائها على الإيمان بما تخصصوا فيه، إيماناً يجعلهم أقطاباً فيما تخصصوا فيه، ويفرض عليهم أن يعينوا الدولة على تحقيق ما تريد من كرائم الأغراض

إني أتمنى أن يقترب اليوم الذي تفرض فيه الدولة على خريجي الجامعة ضرائب فكرية، اليوم الذي يقال فيه إن خريجي الجامعة يملكون ثروات لا يملكها أصحاب الملايين، وإن من الواجب أن تفرض عليهم الضرائب، لتستطيع الدولة أن تقيم أود المنكوبين بالزهد في كرائم المعاني

يجب أن يكون من أغراض الجامعيين أن يطمئنوا الدولة على أن أملها فيهم لم يضع ولن يضيع

إن هذا اليوم قريب قريب، وسنخلقه خلقاً إن تأبى وامتنع، وسيعلم الذين آمنوا بجهادنا فمنحونا ألقاب الجامعة أن إيمانهم كان الإيمان، وأنهم سلموا راية الجامعة إلى جنود هم الرجال

لقد استضعفنا حيناً أو أحايين، والله قد يمن على الذين استضعفوا فيجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين

ولكن الله على كرمه لا يجود إلا بميزان، ليعلم عباده معنى النظام ومعنى العدل؛ فإن جاز في وهمنا أن الألقاب الجامعية تغني عن الجهاد الموصول في سبيل المجد، فقد ضللنا سواء السبيل

هل تفهمون معنى كلمة (ليسانس) وهي أول درجة من الدرجات الجامعية؟

الليسانس كلمة فرنسية معناها الحرية، وحرية الجسم لا تتم إلا بسلامة جميع الأعضاء، وكذلك حرية العقل وحرية الروح، فلا حرية لعقل تعوزه المواهب، ولا حرية لروح يعوزه الصفاء.

وأشرح كلمة الليسانس من ثانية فأقول:

الغرض من هذه الكلمة هو إعطاء الطالب راية الحرية، الحرية من جميع ما قرأ وما سمع، ليكون من المبدعين

فأين حَمَلة الليسانس من هذا الغرض؟

إن أعفتهم الدولة من تحقيق هذا الغرض فلن يعفيهم الوطن، ولن يرحمهم الله الذي علم آدم في الفردوس ليكون رسوله إلى ممالك الأرض

إن للجامعة المصرية رسالة ندور حولها من وقت إلى وقت، وإن كان لها في أنفسنا صورة لا يتمثلها أبرع فنان، ولو استوحى نجوم السماء

وتلك الصورة هي سبب شقائي، وأنا الجامعي المخضرم الذي ظفر بألقاب الجامعة القديمة والجامعة الجديدة، فماذا صنعت في دنياي؟

إن قصائدي ومؤلفاتي ومقالاتي لا توحي إلى نفسي شيئاً من الازدهاء، لأني أفهم جيداً أن للنبوغ والعبقرية غاية إنسانية لا غاية محلية، فأنا لا أقنع بأن يكون الجامعي هو المصري الأول، وإنما أسمو إلى أن يكون الإنسان الأول، فاستعدوا للنضال في ميدان تكونون فيه أوائل الأبطال

لا قيمة للأرقام في حياة الوجود، ولن يكون من أسباب ازدهاء الجامعيين أنهم بلغوا بضع ألوف، فالشمس واحدة والقمر واحد، وهما عندنا أنفع من النجوم التي تفوق الإحصاء

وأنا من أجل هذا المعنى لا أقيم وزناً للتضامن الجامعي، لأن التضامن سناد الضعفاء، أعاذني الله وأعاذكم من وباء الضعف. وهل تتجمع في الأرض أمة كما تتجمع أمة النمل؟

الجامعي الحق هو الذي يسير في كل ارض وفي عقله فكرة الجامعة، كما يسير المسلم في كل ارض وفي روحه هدى المصحف

كونوا آحادا، ولا تكونوا جماعات، فالوحدانية هي العقيدة التي ارتفع بها الشرق، وبها ارتفع الغرب، إن كنتم تذكرون طلائع النهضات في التاريخ

إن الأدب الإسلامي أوصاكم بالتخلق بأخلاق الله، وأعظم صفات الله هي صفة الوحدانية. ولن يكون للتضامن قيمة إلا أن كان أرقاماً صحاحاً تضاف إلى أرقام صحاح، وأعيذكم أن تكونوا أصفاراً تزيد قيمة الرقم الصحيح

الصفر وحده عدم، ثم تكون له قيمة إن تضامن مع الرقم الموجود، فماذا تريدون بأنفسكم، يا أبناء الجامعة في هذا الجيل؟

أنا أحب لكم ما أحب لنفسي، وأنا أكره أن يكون لأي مخلوق عليّ سلطان، فتحرروا من بوارق الدنيا كما تحررت، ليسبغ الله عليكم نعمة الأدب الرفيع

لا تنشروا بعد اليوم على صفحات الجرائد شكايتكم من قلة الرواتب، فإن سطراً تكتبونه صادقين هو الرزق النبيل. وذكاء المرء محسوب عليه، كما قال الأسلاف

العقيدة الادبية والعلمية هي الأبوة الكريمة للرجل الحصيف، فلا تعرضوا مواهبكم لليتم الدميم. . . وفي الناس أيتام آباؤهم أحياء!

يجب أن يكون للجامعة في كل ميدان جنود. يجب أن يكون إليها الرأي في جميع المعضلات الأدبية والفلسفية والتشريعية والهندسية والطبية والعلمية

ويجب أن يكون الجوع أشرف قوت يقتات به الجامعيون الأصلاء

أترونني أسرف في الأماني؟ إن قلتم هذا القول فإني أجيب بأن ليس في الخير إسراف

لقد كانت بلادنا أول مشرق للعلوم والآداب والفنون، وكانت وثباتها العلمية والأدبية والفنية موكولة إلى رجال لا يقيمون وزناً للأقوات، فكيف نيأس وتأخرنا المادي هو الشاهد على صدق بنوتنا لأولئك الآباء؟

أما بعد فماذا أريد أن أقول؟

لم أقل شيئاً، لأني قلت أشياء، وبعض الإيجاز أبلغ من الإطناب

الهدف الأدبي لهذا الموسم هو أن نخلق للقاهرة شواغل جدية، بعد أن طال عهدها باستصغار قيمة الوقت، وبعد أن كان غذاؤها لا يزيد عن اجترار القيل والقال

الهدف الأدبي لهذا الموسم هو أن ننطق بعض الكليات التي لا تنطق!

الهدف الأدبي لهذا الموسم أن ننقل القاهريين من الاختصام في التوافه، إلى الاختصام في الحقائق

باسم الله نفتتح هذا الموسم، ولن يتخلى الله عن بناء كان اسمه أول ما سطر على حجر الأساس (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)

زكي مبارك