انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 488/دفاع عن البلاغة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 488/دفاع عن البلاغة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1942


أسباب التنكر للبلاغة، البلاغة، الذوق، الأسلوب

السرعة، والصحافة، والتطفل، هي البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر

فالسرعة - وهي جناية اختراع الآلة على الناس - كانت جريرتها على الفكر بوجه أعم، أن استحال تقدير القيم التي يحتاج وزنها إلى الروية والتأمل، أو إلى الأناة والصبر، فظهر الخبيث في صورة الطيب، ودخل الرديء في حكم الجيد، وقيس كل عمل بمقياس السرعة لا بمقياس الجودة!

وكانت جريرتها على البلاغة بوجه أخص، أنها أصابت الأذهان فلم تملك أن تحيط بالأطراف، ولا أن تغوص إلى الأعماق، فجاء أكثر ما تنتج من الزبد الذي لا رجع منه ولا بقاء له.

وأصابت الإفهام فلم تصبر على معاناة الجد من بليغ الكلام، فكان أغلب ما تقرأ من الأدب الخفيف الذي لا غناء فيه ولا وزن له

وأصابت الأذواق فلم تستطيع أن تميز الفروق الدقيقة بين الطعوم المختلفة، فاختلط الحلو، بالمر، والتبس الفج بالناضح. فالكاتب البليغ قد بعجله الحافز الملح عن تعهد كلامه فيأتي بالركيك التافه. والكلام البليغ قد يسرع فيه النظر فلا يفطن إلى عبقريات الفن في تصوره وتصويره فيذهب في ذمة الغث. وقد السرعة خطأ في موازين بعض النقاد فيحسبونها شرطاً في حسن الإنتاج. وربما عابوا الكاتب المرويبالإبطاء وغمزوه بالتجويد وسفهوا قول الحكيم القائل: (لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ، وإنما يسألون عن جودته وإتقانه).

والصحافة - وهي من فنون الأدب المستحدثة - كانت جريرتها على البلاغة أنها أوشكت أن تستبد بالمجال الحيوي للكتابة. وليس في هذا الأمر على ظاهره نكير ولا مؤاخذة، ولكن عمل الصحافة رواية الأخبار العالمية، وتسجيل الأحداث اليومية، ونشر الثقافة العامة؛ وهي في كل أولئك تخاطب الجمهور فلا مندوحة لها عن التبذل والتبسط والإسفاف والمط مراعاة للموضوعات التي تكتب فيها، وللطبقات التي تكتب لها، وللسرعة التي تعمل بها. ولو كان للصحافة كتابها وللتأليف كتابه لما لقيت البلاغة منها أذاه ولا مضرة؛ ولكن حاله مع الكتاب كحال السينما مع المسرح. فهي أوفر في المال، وأقوى في السلطان، وأوسع في الانتشار، وأشمل في المعرفة، وأغنى في الوسائل، ولذلك غلبت الكتاب على أمراء القلم؛ فهم يعملون فيها على ما تقتضيه أحوالها من مجاوبة السرعة وتوخي السهولة وإيثار العامية. وللصحافة سبعة أبواب لا يدخل بلغاء الكتاب إلا من باب واحد. أما سائر الأبواب فهي لأنماط من ذوي الثقافات المختلفة هيأتهم ملكاتهم ونزعاتهم ليكونوا جنوداً في جيش (صاحبة الجلالة)، فحملوا القلم لأنهم لا بد أن يكتبوا، ثم حملهم إدمان الكتابة ومواتاة النشر على أن يعالجوا الأدب الرفيع فقعد بأكثرهم وهن السليقة وضعف الاطلاع عن مجاراة الموهوبين من أهله؛ فسول لهم الغرور أن يخفضوا مستوى البلاغة، ويبتذلوا حرم الفن، ويوهموا الناس أن أدب الدهماء هو أدب المستقبل، لأن العصر عصر السرعة، ولأن الشأن شأن العامة، ولأن الديمقراطية تقضي باختيار لغة الشعب وإيثاره أدبه. وما داموا هم الكثرة وقراؤهم هم الكثرة؛ فإنهم بحكم الديمقراطية يملكون وحدهم حتى التشريع في الأدب: فينهجون القواعد، ويقررون الأساليب، ويعينون الكتاب ويوجهون الرأي

من أجل ذلك طغت العامية، وفشت الركاكة، وفسد الذوق، وأصبحت العناية بجمال الأسلوب تكلفاً في الأداء، والمحافظة على سر البلاغة إلى الوراء، ولم يبق للمخلصين للغة الوحي وأدب الرسالة إلا أن يكتبوا لأنفسهم ولمن يعصمهم الله من أعقاب هذا الجيل

على أن العامية الأدبية عرض من أعراض العامية الاجتماعية. فمتى برئ المجتمع من أمراض الضعة فجنح للقوة وطمح للكمال، ظهرت الأصالة في فكره، والمتانة في خلقه، والسلامة في ذوقه؛ وحينئذ يتكون الرأي الأدبي العام، وهو وحده الذي يراقب ويحاسب، ويؤيد ويعارض، فلا تجوز عليه دعوى، ولا ينفق فيه زيف، ولا يطفر به مئوف

أما التطفل فقد رأيته ظاهر الأثر على موائد الصحافة! ولكن هناك ضرباً من التطفل المغرور يجوز أن نفرده بالذكر: ذلك هو تطفل فئة من أرباب المناصب لا يقدح في كفايتهم ألا يكونوا كتاباً ولا شعراء؛ ولكنهم يأبون إلا أن يضموا المجد من جميع حواشيه فيتكلفون ما ليس في طباعهم من صناعة البيان فيقمون في النقص وهم يريدون الكمال!

قد ينبغ أولئك السادة فيما يملك بالتحصيل والمزاولة، كالتعليم والتأليف والمحاماة والسياسة؛ ولكنهم أعجز من أن يخلقوا في رؤوسهم ملكة الفن بمجرد الإرادة أو الأمر أو الادعاء.

فإصرارهم على أن يعدوا في كبار الكتاب على ما فيهم من تخلف الطبع وخمود القريحة وضعف الأداة، دفعهم إلى مشايعة الجهلاء في تنقص البلاغة وخفض مستواها إلى الدرك الذي لا يعز مناله على القاعدة. وهذه المشايعة من قوم لهم في التوجيه الثقافي رأي مسموع وأثر ملحوظ أخطر على البلاغة من كل ماتعانيه في هذه المحنة

لذلك كان من البر بالأدب والإخلاص للفن أن نتقدم إلى قرائنا بهذه الفصول.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات