انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 485/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 485/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 10 - 1942



حول نسب الفاطميين

جاء في العدد (484) من مجلة (الرسالة) الغراء كلمة تحت عنوان (حول نسخ الأحكام) تأثر فيها كاتبها بأقوال خصوم الفاطميين السياسيين من بني العباس ومن كان ينتمي إليهم من العلماء، ولو أنه رجع إلى أقوال المنصفين فيهم كشيخ المؤرخين ابن خلدون لخفف شيئاً من غلوائه في أمر هؤلاء الفاطميين، ولعلم أن نسبهم صحيح إلى إسماعيل بن جعفر الصادق رضي الله عنهما، وقد يكون الطعن في دينهم كالطعن في نسبهم، أثراً من آثار السياسة التي تبيح كل شيء في سبيل أغراضها، وتذهب إلى أن الغاية تبرر الواسطة، فتذيع الكذب بين الناس وتنصر الباطل على الحق

والظاهر بعد هذا كله أن القول بإعطاء الإمام حق نسخ الأحكام كما حكاه أبو جعفر النحاس، غير ما يحكى عن بعض الإسماعيلية في الإمام السابع الذي ينسخ الشرائع، لأن نسخ الشرائع يدخل فيه أصولها كالصلاة وغيرها، أما نسخ الأحكام فالظاهر أنه خاص بالأحكام الجزئية التي تتأثر بالظروف والأحوال، وتدعو الحاجة إلى نسخها بالاجتهاد لسبب من الأسباب. . .

(. . .)

كرملة الكرملي

أعود فأصحح للأب أنستاس ماري الكرملي أخطاء أخرى وقع فيها؛ والأمر في هذه المرة أخطر، فقد جمع إلى الأخطاء التاريخية أخطاء روحية؛ ولقد قال (ربليه) قدس الله روحه: (إن علماً بلا ضمير خراب للنفس)؛ فما بالك إذا كان العلم زيفاً حمله الرافدان؟

لو أن الأب أنستاس ماري الكرملي العالم النحرير والروحاني المتواضع زف إلى ما يقول (كرملة) يستسيغها الذوق لقبلتها، ولكن كرملته حصرم تمجه النفوس. إن في نفسي إيماناً بأن العلم والروحانية لا ينزلان بنفس إلا هذباها، ونحن كلما ازددنا توغلاً نحو آفاق المعرفة ازددنا دنواً من حدودها وإحساساً بتلك الحدود، فتهدأ جوارحنا ويسكن غرورنا. وأنا قد أقبل من رجل أن يعتز بماله إن كان صانعاً أو تاجراً، وأما العالم فالزهو منه ممقوت إن روح العلم الصحيح لا تعرف نغمات الكرملي. العلم تواضع كما أن الدين محبة؛ وأين هذا من كلام الأب؟ أنا لا أعرف التأكيد في أي شيء ولذا قلت - أيها الأب أنستاس ماري الكرملي - إذا صح هذا أو ذاك. والأب الجليل العالي الكعب في كل أمر لابد قد قرأ أفلاطون، ولابد أن أستاذه قد قال له سنة 1887م إن موضع الجمال في أسلوب أفلاطون موضع السحر، موضع السمو، كثيراً ما يتركز في الحرفين اللذين يضافان إلى الأفعال اليونانية لينقلا التأكيد إلى الاحتمال، والأب الخطير يستطيع بلا ريب أن يترجم ب إذا صح الخ. . .

ثم إنني أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لم أستنجد بعلم الأستاذ كراوس كما أني لم أغتصب منك أسلابك العلمية الثمينة، وإنما الذي حدث أن مجلة الرسالة لم تنشر مقالي كاملاً كما تستطيع أن تلاحظ ذلك من ابتدائه بنقط، ولو أنها نشرته كاملاً لرأيت أني سلمت لك بأنك تعرف أسماء أتيقوس وتيودسيوس وغيرهما ممن لا يعتبرون إلا قطرة في بحرك الملح الأجاج. ولو أنها نشرته كاملاً لعلمت أني لم أنشر هذا المقال رداً عليك وأنا لا صبر لي على قراءة تحقيقاتك التي تبعدها عني روحك الوديعة الطاهرة، وإنما أردت أن أحاج الأستاذ كراوس لأننا اختلفنا في هذا النص قبل أن ينشر الكتاب. وأنت أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لا ريب مرهف الحس لطيف الذوق فكيف غاب عنك أن قولي: (اللهم إلا أن يكون لدى الأستاذ كراوس علم آخر. . . الخ) لا يفيد طلب النجدة

سلمت إذن للأب الكبير بأنه قد عرف اسم أبيقوس، ولكنني أنكرت عليه أن يعرف عنه أكثر من ذلك بدليل أنه زعم أنه روماني وهو يوناني. ولقد فطن إلى هذا الأب نفسه عندما راجع دفاتره وراجع العلماء الأفاضل الذين يجتمعون معه فوضعوا خطاً - كما يقول - تحت جملتي التي تحمل هذا المعنى، ووضع الخط هذا وتأمين الأب على وضعه هو طريقة العالم الفاضل في الاعتراف بخطئه. وإذن فقد كنت محقاً في أن أصحح له هذا الخطأ

بقيت مسألة الكراكي التي لم أعثر بها فقلت (إنها خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودس وأتيقوس شيئاً). وهذا حق، فأنا لم أعثر بها في حياتهما؛ وأعود فأكرر أنني لم أعثر بها ولا أقول لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن أعبر عنه هو أنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها. وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة وفقاً للمعنى الذي في قلبه

وأما مسألة أبيقوس ونسبه الكراكي إليه، فهذا لن يفيد الأب الكرملي في شيء، لأن النص يقول: (إن تودورس أو قومودس ملك يونان كتب إلى أينقس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية). . . وإذا كان من الثابت أن قومودس قد عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، وأن أبيقوس الذي فرح الأب باكتشاف أحد أصدقائه لوجوده قد عاش في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه يكون بين الرجلين ثمانية قرون. أيريد الأب الشيخ أن يطير في طائرة عصرية ليجمع بين العصرين!

لم يكن لي أن أتجه نحو أبيقوس ما دمت قد رجحت كومودس

هذا ما يستحق الرد في كلام أوفى كرملة الكرملي، وأما ما دون ذلك، فالعلم منه بريء.

محمد مندور

مدرس بجامعة فاروق الأول

القضاء العشائري في العراق

كتاب قيم ألفه الشيخ فريق المزهر آل فرعون عضو البرلمان العراقي ورئيس عشائر الفتلة، يبحث في الأصول والقواعد العشائرية والعادات المألوفة لدى القبائل العراقية، ويتناول تدوين تلك الأحكام المرعية والعادات المتبعة التي ساروا عليها منذ ثمانمائة سنة، كما ضمنه عادات العشائر العراقية وآدابهم وتقاليدهم وأساليبهم وسائر شؤون حياتهم الاجتماعية

والحق أن للقبائل والعشائر العراقية تاريخاً حافلاً بالعادات والتقاليد المتوارثة، يحرصون عليها ويتواصون بالتمسك بها وعدم التفريط فيها؛ ومن هذه التقاليد المرعية يتألف قانون غير مدون له قدسية سائر القوانين المدنية وحرمة بقية الأنظمة الاجتماعية، يرجعون إليها فيما يتعلق بخلافاتهم وأحكامهم ومشاكلهم العديدة وفيما يخص سائر أمورهم الاجتماعية والشرعية والاقتصادية، ولهم فيما يتفرع من هذه النواحي وفيما ينجم عنها من ملابسات، أحكام وآراء وحلول تنطوي على البراعة والمهارة والطرافة بقدر ما تنطوي عليه من صرامة وشدة وقوة مستمدة من ذكاء وقاد وإحساس مرهف، وحرص شديد يبلغ حد العصبية على محافظة العنعنات والنزعات العربية الخالصة

ولم يتهيأ إلى الآن من يعنى بدراسة هذه التقاليد والسنن، وما تكون منها من أحكام ومن أصول أصبحت على مر الزمن قانوناٌ مرعياً نافذاً صارماً، فيؤدي بذلك إلى التاريخ العربي خدمة كبيرة، ويوسع مجالاً للحياة القبلية العربية في العصر الحاضر، أن تأخذ مكانها في التدوين إلى جانب الحياة المدنية، حتى انبرى لها الشيخ فريق المزهر آل فرعون، وهو من هذه القبائل العربية الضاربة على ضفاف الفرات، فسد فراغاً في خزانة الأدب والتاريخ العربيين، بما قام به من وضع سجل تاريخي حافل في هذا الصدد، وهو كتاب (القضاء العشائري) الذي بحث فيه (نظام دعاوى العشائر)، وهو القانون الوحيد الذي يسير عليه القضاء الإداري في العراق؛ وقضايا الحق المنازع فيه قسمان: قضايا موضوعية، وقضايا أصولية، أو شكلية؛ وقد وضع (العرف العشائري) قواعد خاصة لكل من الحالين، وقد كانت هذه القواعد معمولاً بها في العراق لفض المنازعات بين القبائل منذ أقدم الأزمنة إلى الآن.