مجلة الرسالة/العدد 484/من أدب العراق الشعبي
مجلة الرسالة/العدد 484/من أدب العراق الشعبي
مم وزين
فاجعة كردية خالدة
للأستاذ عبد المسيح وزير
(مم وزين) عنوان قصة فاجعة غنائية كردية خالدة يتغنى بها مغنون اختصاصيون من كرد وغيرهم في العراق وفي باقي الأقطار التي يستوطنها العنصر الكردي كسورية وتركية وإيران. ولا أزال اذكر كيف كنا ونحن أطفال نلتف مع والدينا وأقربائنا وأصدقائنا الذين كانوا يزوروننا بدعوة خاصة حول موقد النار أو (الكرسي) في ليالي شتاء ماردين القارس محيطين بمغني (مم وزين) مصغين في صمت عميق إلى غنائه الابتدائي البسيط بصوته الجافي الذي لا رخامه فيه ولا فن. وكان المغني في فترات الاستراحة من الغناء يقص علينا القصة باللغة العربية. وكان الغناء والقصة يستغرقان ساعات الهزيع الأول من الليل ويزيد. وكنا بعد الغناء ننام ونحن نحلم بشقاء الحبيبين وحياتهما الغرامية المرة التي انتهت بموت كليهما
وعندي أن قصة (مم وزين) لا تقل شأنا عن فواجع الإغريق القدماء فيما لها من اللذة والمتعة باعتبارها قصة خيالية شائقة تسترعي سمع الكبار وتخلب لب الصغار فيسهرون مصغين إليها بلا ملل
وهذه الفاجعة من جملة فواجع كردية أخرى مثل (درويش عبدي) و (جامي مازي) و (فليت قطو) التي لما ينشر منها شيء حتى الآن سوى فاجعة (مم وزين) المنشورة باللغة الكردية وحدها؛ فهذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها خلاصة (مم وزين) بغير اللغة الكردية، وبذلك تكون مجلة (الرسالة) الغراء السابقة إلى نشرها على ما أعلم
وقد طالعت في كتاب (ألف ليلة وليلة) قصة مختصرة فيها بعض الشبه بقصة (مم وزين). أعتقد أن جامع قصص (ألف ليلة وليلة) اقتبسها من (مم وزين) التي كانت شائعة في ذلك العهد في المناطق الكردية شيوعها في هذه الأيام
وأؤمن أن يتاح يوماً لهذه القصة الفاجعة شاعر عظيم عربي، أو أعجمي، ينظمها ف مسرحية شائقة، أو قصيدة علواء، نظماً ساحراً يذيع صيتها في الدنيا الأدبية على ما فعله الشاعر الإنكليزي (فتزجرالد) بنقله رباعيات (عمر الخيام) إلى اللغة الإنكليزية، فيضيف بذلك إلى متاحف الأدب العالمي درة يتيمة جديدة من كنوز الآداب الشرقية المكنونة في العراق
(ع. و)
القصة
في مدينة نائية قائمة على نجد خصب بين قنن الجبال في بلاد الكرد حكم أمير شاب اسمه (مم) اشتهر بكرم أصله وجلال قدره وهيف قده وجمال صورته ومتانة خلقه وعلو همته وندرة بطولته. وكان الأمير أعزب لم يفكر قط في أمر الزواج، لأنه لم ير في مملكته أميرة حسناء تضاهيه في الحسب والنسب ليقترن بها
ففي ذات يوم فاتحه وزراؤه في أمر الزواج فلم يحر جواباً. ولما انفض مجلسه ذهب إلى فراشه لينام فأرقه التفكير في أمر الأميرة التي يختارها زوجاً فتلد لعرشه وارثاً. ولما أعياه التفكير غلبه النعاس فاستغرق في نوم عميق، فرأى نفسه مجتمعاً بالأميرة (زين) الغادة الحسناء بنت أمير الجزيرة تلك المدينة الجميلة الراكبة على نهر دجلة. وبعد سمر سعيد طويل ثمل فيه الأميران بخمرة الحب الخالص والغرام البريء تعاهد (مم) و (زين) على الزواج على أن يخطب الأمير الأميرة إلى اخوتها الأمراء (جَكُّو) و (حَسُّو) و (قره تاج الدين)؛ لأن والدها الأمير كان قد توفى. ورمزاً إلى عهد الحب والزواج تبادل الأميران خاتميهما، فوضع (مم) خاتمه في إصبع (زين)، ووضعت (زين) خاتمها في إصبع (مم)؛ ثم اضطجع العاشقان للنوم في فراش واحد، فانتضى (مم) حسامه ومده بينه وبين (زين) المضطجعة بجانبه رمزاً إلى صيانة عفاف العذراء وشرفها وعهداً منه على ألا ينال منها وطراً قبل الزواج شرعاً بإذن الله وأوصيائها
أفاق الأمير (مم) على تغاريد الأطيار التي نقلها نسيم الصباح إلى أذنيه، فقال في نفسه: (ما ألذ حلم هذه الليلة! ليتني لم أفق من النوم) وحانت منه التفاته إلى أصابعه فوجد أن الخاتم الذي في إصبعه غير خاتمه. فتفرس فيه فقرأ اسم الأميرة (زين) بنت أمير الجزيرة منقوشاً في ذلك الخاتم. فحار في أمر وعلم بأن ما كان في ليلته البارحة لم يكن حلماً بل حقيقة. أما صورة الأميرة الحسناء فلم تبرح ذهنه
وكذلك كان أمر الأميرة (زين) فإنها لما استيقظت من نومها على خرير دجلة حسبت حادث الليلة البارحة حلماً في النوم؛ ولكنها لما وجدت خاتم (مم) في إصبعها اعتقدت أن في الأمر أعجوبة، لأن ما رأت كان حقيقة لا حلماً. وكانت صورة الأمير (مم) الجميل مطبوعة طبعاً ثابتاً في مخيلتها
أما حقيقة الخبر، فهي أنه في الليلة التي فكر فيها الأمير (مم) في الزواج أوقعه الجن في سبات عميق، ثم حملوا إليه (زين) من خدرها وجرى ما جرى بين الأميرين في تلك الليلة. وقبيل انفلاق الصبح أوقعه الجن مرة أخرى في سبات عميق هو وحبيبته وعادوا بالحسناء (زين) إلى خدرها في الجزيرة بغير شعور منها
لما أفاق الأمير (مم) من سباته ووقف على جلية الأمر قطع على نفسه عهداً ألا يتزوج غير الأميرة (زين) بنت أمير الجزيرة. فنهض من فوره وارتدى ملابسه وحمل سلاحه وامتطى جواده وخرج من المدينة بغير علم رعيته قاصداً الجزيرة ليخطب بنت أميرها التي حملها إليه الجن في الليلة البارحة السعيدة. وبعد سفرة طويلة شاقة وصل الأمير (مم) إلى تلك المدينة فذهب تواً إلى قصر الأمراء المطل على دجلة وحل ضيفاً على اخوة (زين) الثلاثة الذين اكرموا وفادته. فنعى خبر قدومه إلى الأميرة (زين) فحملها الشوق الشديد إلى رؤيته على ركوب كل مركب في سبيل الوصول إليه. فتحينت كل فرصة سانحة للاجتماع به غير آبهة لعذل العذال ولا مكترثة لنميمة النمامين. وطفقت تجتمع به سراً حين يخرج أخوتها الأمراء إلى الصيد والقنص، إذ كان (مم) يتخلف عن الذهاب معهم بحجة يختلقها كل يوم فيتذرع بها للبقاء في القصر وحده لكي يتاح له الاجتماع بحبيبته.
وكان في القصر وزير اسمه (بكو عوان) من دأبه إيقاع الأذية بالناس ولا سيما أولئك الذين كانوا موضوع حسده. فحقد هذا الوزير على الأمير (مم) وطفق ينتهز الفرص للإيقاع به. فبث العيون والأرصاد ليأتوه بأخبار (مم) و (زين). فعلم بأمر اجتماعهما، ووقف على ما كان يجري بينهما، وأخذ يدس للعاشقين عند الأمراء أخوة (زين)، ولكن أولئك الأخوة لم يعيروه أذناً صاغية.
واتفق يوماً أن (مم) تخلف على عادته عن الخروج إلى الصيد مع الأمراء بحجة المرض. فاجتمعت به (زين). وبينما كان الحبيبان يتباثان لواعج الهوى إذا بالأخوة يدخلون القصر راجعين من الصيد ومعهم (بكو عوان). فأسرع (مم) إلى إخفاء (زين) تحت عباءته الواسعة المنسوجة من المرعز، ولكنه نسى أن يخفي إحدى ضفائر شعر (زين) الطويل فبرزت من العباءة دون أن يشعر بذلك (مم). فدخل الأخوة الأمراء ودخل معهم بكو عوان الديوان الذي كان فيه (مم) فلم ينهض (مم) لهم بحجة مرضه. ولم يشاهد ضفيرة الشعر الخارجة من العباءة أحد سوى (بكو عوان). فأسر (بكو عوان) في أذن الأخ الأكبر (جكو) قائلاً: (ما أوقح هذا الضيف! أرأيت كيف أنه لم يقم إجلالاً لكم وأنتم الأمراء بل ظل جامداً في مكانه كأن الداخلين من عامة الناس أو من خدمه وحشمه؟) فأجاب (جكو) قائلاً:
(تباً لك من وغد ذميم! إن عدم قيام (مم) ليس تكبراً بل ذلك عجز منه لأنه مريض).
فقال بكو معترضاً: (كلا، ليس السبب مرضه، وقد لا يكون عدم قيامه لكم لتكبره، إلا أنني أرى سبباً آخر يمنع الأمير الضيف من القيام)
قال هذا وأشار بيده إلى ضفيرة شعر الأميرة البارزة من العباءة
فلما وقعت عين جكو على الضفيرة، استشاط غيظاً فطرد أخته زين من الديوان، وأمر بزج مم في غياهب السجن، وكان السجن حبساً ينزل إليه بأربعين دركة
فظل مم في السجن أربعين يوماً وليلة وهو يقاسي أشد آلام البين. وما انفكت زين في خلال تلك المدة تسعى لدى أخوتها لإطلاق سراح مم بدعوى أنه خطيبها جاء ليخطبها من أخوتها. وأخيراً تمكنت زين من التغلب على دسائس بكو عوان، فأقنعت اخوتها بالإفراج عنه
وفي موعد إخراج الأمير مم من سجنه بعد مضي أربعين يوماً على حبسه، لبست زين أفخر ملابسها، وتحلت بأثمن حليها وسارت مع أربعين فتاة عذراء من أجمل بنات المدينة إلى السجن لتخرج منها حبيبها السجين في موكب العذارى. . . ولما وصلت إلى رأس السلم نادت مم بصوتها العذب. . . فنظر إليها نظرة ولهان لم يصدق ما يشهده، فرأى زين في غاية الجمال الفتان. . . أما زين، فخيل إليها أنه غاضب عليها وعلى اخوتها فخاطبته تقول: (أمم. . . إذا كنت لا ترضى بي عروساً بعد الذي جرى فاختر لك من هؤلاء الحسان زوجاً تليق بك!)
فوقع كلام زين وقع الصاعقة على مم، لأنه اعتقد أن زين قد نفرت منه فلا تريده بعلاً لها. . . فخرجت حينئذ من أنفه نقطة دم واحدة، وسقط جثة هامدة!
أما زين، فرجعت في موكب العذارى خائبة كئيبة ونفسها حزينة حتى الموت. . . وبعد مدة قصيرة توفيت هي أيضاً هماً وكمداً على فراق حبيبها، وأوصت بدفنها في البقعة التي دفن فيها مم!
بعد أربعين يوماً خرج الأمراء (جكو) و (حسو) و (قره تاج الدين) ومعهم وزيرهم (بكو عوان) إلى الصيد والقنص على سابق عادتهم. وفي أثناء الصيد مرت الخيل بفرسانها بالقرب من البقعة المدفون فيها جثمان العاشقين فغارت قائمة جواد (جكو) في حفرة وكان (بكو عوان) راكباً إلى جانبه. فنظر الأمير إلى الحفرة فوجدها ضريح (مم) ووجد جثة (زين) ممددة بجانب جثة (مم) وقد تعانق الحبيبان. فقال (بكو عوان) للأمير:
(أنظر تر هذين العاشقين الخبيثين لا يزالان يرتكبان المنكر حتى في مماتهما!)
فاستشاط الأمير غيظاً من هذا الكلام المنكر واستل سيفه وضرب عنق (بكو عوان) وقال وهو ينهال عليه ضرباً:
(أذهب إلى حيث ألقت، أيها اللعين! ألا ترى أن الله يجمع ما يفرقه الإنسان الخبيث مثلك؟)
فسقط (بكو عوان) ميتاً في تلك البقعة فدفن في مكان بعيد عنها، إلا أن تلك البقعة المقدسة ظلت ملوثة بدمه النجس. وبعد مدة زار الأخوة تلك البقعة فرأوا زهرة جميلة عطرة نابتة على قبر كل من العاشقين وقد برز بين الزهرتين الجميلتين شوكة قبيحة سامة أنبتها دم (بكو عوان)
وإلى اليوم يزور العشاق مرقد ذينك الحبيبين ليمطروا ثراه بالرحمات الواسعة
(بغداد)
عبد المسيح وزير