مجلة الرسالة/العدد 484/الإحسان الاجتماعي
مجلة الرسالة/العدد 484/الإحسان الاجتماعي
للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
. . . أنا أعجب أشد العجب من أمر واحدِِ هو في الحقيقة الأمر كله: ذلك هو فشل الجمعيات الخيرية في بلادنا. ولا أدلّ على هذا الفشل من قلتها، ولا دليل على هذه القلة كانفراد الجمعية التي نحن اليوم في احتفالها وذهابها بمجد التأسيس بين السوّريين. وأن السابقة في الخير والاتحاد والثبات والإحسان وإخلاص النية إنما هي لها وحدها
ووجه العجب أننا إما أن نكون قد تجردّنا من حب الخير فلا نجتمع، وإما أن نكون لا نحس عمل الخير فلا نجتمع عليه. لا مناص البتة من إحدى الخصلتين أو من كلتيهما. وقد نعلم أن قوام كل عمل بنظامه وتصريفه على أصوله الطبيعية التي من شأنه أن ينصرف فيها؛ فإذا كان جمع المال يجرى على أصول اقتصادية محضة، فإن إنفاقه كذلك يجرى على فعل هذه الأصول، وما يجمع المرء إلا ما يفضل عما ينفقه. والإحسان إنما هو وجه من وجوه الإنفاق، وليس كالشرقي رجل مفطور على حب الإحسان، لأن تأريخه في كل أرض مملوء بالنكبات والجوائح التي تعلمه كيف يحسن، ودينه في كل صبغة مملوء بالعظات والآداب السامية التي تعلمه ما هو أسمى وأشرف من الإحسان، وهو كيف يتأدب في إحسانه. فإذا كان كل ذلك وكان ذلك كله صحيحاً لا ريب فيه كما هو الواقع، فما الذي يمنعنا - نحن الشرقيين - من أن نكون محسنين بالمعنى الحق، حتى تظهر ثمرة الإحسان، فتشبع بطون خاوية، وتكسى أجساد عارية، وتصلح عقول بالية، وتشفى جراح في جسم الإنسانية دامية، ويكون كل شيء عاملاً في تكوين الأمة تكويناً صحيحاً، حتى هذا الذي يقال إنه أصل الرذائل كلها ويقال فيه ما قيل فيها جميعاً، ويقال له الفقر!
ليس يذهب بإحساننا ضعفه وقلته، فالقليل لو أجتمع لصار كثيراً؛ ولا يخفى ثمرته أنه هو نفسه غير ظاهر، فإن كل شيء يؤتى نتائجه الطبيعية ظهر أو خفي. وما الإحسان إلا ضرب من ضروب الإصلاح الاجتماعي؛ ولكن الذي جعل الصحيح فاسداً، والموجود ضائعاً، والمثمر منقطعاً، وجعل كل أمر في أيدينا يكاد يكون عبثاً من العبث، إنما هو شيء واحد، وهو جهلنا كيفية الإحسان
لا ريب أننا اليوم أمة، وأننا نتبع الأصول الاجتماعية في كل أمورنا العامة، وأننا نرى بأعيننا تسخير الطبيعة، ونستخدمها لأنفسنا، ولا ريب أننا مجتمع من المجتمعات المتمدنة، ولنا وصف طويل في علم الشعوب، وأن بلادنا ذات لون واضح في خريطة الأرض، ولكن مع هذا كله لا نزال في طريقة إحساننا كأننا في منقطع العالم، أو في رءوس الجبال، وكأننا لا نزال في معركة الاجتماع الطبيعي التي يكون الإنسان فيها جيشاً، والحيوان جيشاً يقابله
نحِسن إحساناً طبيعياً صرفاً، من الفرد للفرد، كيف اتفق وحيث اتفق. نعطى الدرهم بكَسَل لمن يأخذه، لا لكي يعمل به، ولكن ليكون ثمرة من ثمار كسله. . . في العصور الطبيعية تخرج الأرض أثمارها بعد أن تكون العناصر كلها قد اجتمعت على إنضاجها وعملت فيها أعمالاً كثيرة، فيأتي الإنسان ليمد يده، ولا يعمل عملاً أكثر من أن يمدها. وعندنا تخرج أيدي المحسنين دراهمها، فيأتي بعض الناس ليمد يده، ولا يعمل كذلك عملاً أكثر من أن يمدها. نحسن مثل هذا الإحسان الذي يذهب به وقته، فلا ننتفع به في إصلاح الأمة، ولا ينتفع به الفقير نفسه، لأنه في الأكثر يُفسدهُ ولا يُصلحه. ولا يوجد اليوم في أيدي الناس درهم من دراهم الخرافات، يصلح أن يكون رأس مال، ولا في خبزهم رغيف من رغفان المعجزات التي تشبع الجماعات الكثيرة. والفقير متى أكل بالدرهم الذي يُحسَن به إليه، فقد شبع من جوع، وتهَّيأ لجوع جديد، فيذهب الإحسان والدرهم كما هما، ويبقى الفقير والجوع كما هما أيضاً!
من أجل ذلك وما يتصل به، فشلنا وذهبت ريحنا، وركدنا والناس طائرون. ومن أجل ذلك أراني أحب هذه الجمعية المباركة، وأكرم رجالها والقائمين بها، وأمدحهم وأعتدُّهم من العظماء
فالجمعية صندوق أموال، وهي نفسها صدر يخفق في قلب الإنسانية. والجمعية سبب من أمتن أسباب الإحسان، وهي نفسها طريقة أفضل من طرق التربية الاجتماعية، وأكبر فضلها أنها من هذه الأمة كالظل في الرمضاء، والرقعة المخصبة في الجدب العريض، وأنها مجتمع صحيح في أمة متبدَّدة يمزَّقها كل شيء، حتى الأديان التي تعلم أن الناس أخوة من أب واحد. وحتى السياسة التي تجعل أفراد كل أمة أعضاء من أسرة واحدة. وحتى الأدب الذي يضرب مثل الإنسان للإنسان، بمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى مجتمع صحيح من هذه الأمة العجيبة التي بهرتها الأمم بمعجزات الوطنية والاتحاد والإنسانية والعلم والأدب والاختراع، وأعجزت هي الأمم كلها في قاعدة حسابية غريبة، وهي أنها أفراد ولكن ليس لها مجموع في (الحساب)!
ليست العظمة بظهور المرء كما يظهر الممثل أمام المتفرجين في خلقة مزوّرة من رأسه إلى قدمه، ولا في هذه الأخيلة الذهبية التي تملأ رءوس الأغنياء كأنها أرواح الذهب، ولا في نحو ذلك من السخافات (العظيمة) التي ملأت الشرق كله. ولكن العظمة أحد شيئين: علم منتج، أو عمل مثمر. العظمة خلق إنساني يوجده العلم أو يوجد هو العمل الإنساني العظيم. فإن لم يكن علم صحيح، ولا عمل صحيح، فاجمع بين الماء والنار قبل أن تجمع بين النفس والعظمة. وقد أرى الرجل من عظمائنا وهو من تعاظمه لغناه أو لمنصبه أو لجاهه أو لحسبه، كأن رأسه صندوق من صناديق الموسيقى، وكأن كل حركاته وكلماته إنما توقع توقيعاً منتظماً مع (النفخة) التي تخرج من هذا الصندوق، ومع ذلك فلا أكرمه ولا أجد له في نفسي من المنزلة، ولا أحفل بتلك العناصر الأربعة التي أنشأت عظمة من الغنى أو المنصب والجاه والحسب، إلا كما يكون في نفسي لبعض قطع من الخشب والحديد والمعدن والنحاس، وهي العناصر التي تصنع منها الأدوات الموسيقية
العظيم ذات مبنية على مبدأ، وما دام كذلك فهو عظيم في خلقه وفي عمله، ولا يسلب هذه العظمة منه إلا الموت. على أن التاريخ يقوى على الموت فيستلبها منه، ويحفظها لصاحبها العظيم، ثم ينفض عليها صبغة الخلود، فإذا هي حياة ثانية لاسم من الأسماء الخالدة التي لا تموت إلا حين يموت الموت! وإذا كانت الذات مبنية على مبدأ، فيستحيل أن يسقط الرجل العظيم وذاته قائمة
وعلى هذه الجهة أتفاءل بمستقبل جمعية الاتحاد المباركة لأنها مظهر من مظاهر الأخلاق الفاضلة في نفوس القائمين بها؛ فهي بناء من الأبنية الراسخة، ولكن انظر إلى أحجارها الخالدة، فإن كل حجر إنما هو المعنى الإنساني الذي تنطوي عليه نفس الرجل العظيم
عندنا رجال كثيرون، ولكن ليس عندنا مبادئ ثابتة. فالذي ينقصنا إنما هو المبدأ. والرجل إذا لم يكن على مبدأ، فهو من يوم يولد إلى يوم يموت، إنما يتسكع في طريق الأقدار ليقطع مسافة ما بين مهده ولحده. وقد تكون هذه المسافة طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل حال، ليست إلا طريقاً من طرق الموت. ثم يذهب من الدنيا وكل ما بقى له فيها حجر من الأحجار، إذا وجد من ينظر فيه وجد من يعرف أنه كان في هذه الدنيا رجل اسمه فلان وهذا قبره
الحياة شيء أسمى من قطع العمر كله في إيجاد قبر من القبور يكون له اسم ولقب وتاريخ. كل منا حين يعتزي يقول عن نفسه كذباً: إنه سوري أو مصري؛ فما الذي صنع هذا القائل لمصر أو سوريا؟ ألا إن البلاد لا تعرف الناس بأسمائهم وطبيعة الإقليم لا تميز بين أناسها وحيواناتها؛ فمن الحمير والبغال وصنوف الحيوان ما يقال فيه سوري ومصري أيضاً. ولكن الأوطان تعرف أهلها بأعمالهم؛ وطبقة الفرق بين الإنسان والحيوان إنما هي طبقة تاريخه لا غير
قولوا في الشرقي على العموم إنه من بني آدم فقط. ومتى وجدتم رجل المبدأ الذي يظهر مبدأه في عمله والذي لا يعمل إلا ليتم تاريخ أمته، وليكون صفحة من كتاب مستقبلها، والذي لا يخرج من الدنيا حتى يترك من فضائله المنسوبة إليه شخصاً معنوناً يسمى باسمه، ويلقب بلقبه، ويؤرخ بتأريخه؛ متى وجدتم هذا الرجل، فقولوا فيه حينئذ، بل دعوا بلاده تقول: إنه مصري أو سوري. من أكبر عيوبنا أننا لا نعرف الخلق العام الذي يجانس بين أفراد كل أمة، ولا نجده إلا في أفراد قليلين منا، وهو الذي تقوم عليه الوطنية. ومن أجل ذلك، ليست لنا أمة اجتماعية، ومن أجل ذلك لا نتحد. فقدنا الخلق العام أو المبدأ الاجتماعي الذي يرمي لإنشاء المستقبل، وترقية الحاضر، وحفظ الماضي، فصارت الصلة بين الفرد والفرد من الأمة الواحدة، صلة لفظية لا معنى لها. أو لستم ترون أننا - كما هو مشهور عنا - يرائي بعضنا بعضاً حتى في الحق، ويجامل بعضنا بعضاً حتى في الواجب. وليس منا من يقدر أن يقول دائماً للباطل (لا) وللحق (نعم)؟ أقول (دائماً)، ولا أريد معناها الصحيح، لأن قيمة كل شيء تعلو وتنزل عندنا بحسب الأحوال حتى الكلمات التي لا تعلو ولا تنزل. فإن شئتم، فاعتبروا معنى قولي (دائماً) غالباً أو بعض الأحيان لأن الشرقي قد فقد الخلق الثابت، فلا ثبات له على شيء، ولا ثبات بشيء معه. ولولا أن أسماء الفضائل من اللغة، وأن هذه اللغة ثابتة في كتبها التي تحفظها، لكانت أكثر أسماء الفضائل اليوم عندنا هي نفس أسماء الرذائل! انظروا إلى الرجل الإنكليزي الذي هو نتيجة التاريخ الحاضر: إنه لا يثق بثلاثة أرباع الأرض التي تملكها دولته، كما يثق بقدر أنملة في باطنه. فالأرض كلها وهي تدور على محورها، وتتقلب بالتاريخ أجيالاً ودولاً، ليست في عين الإنكليزي أكبر من قلبه الذي يخفق بين جبينه، والأرض لا تحفظ له فضيلة، ولكن فضيلته تحفظ له الأرض.
كل إنكليزي قد يراه الناس مصبوباً من معادن بلاده حتى الفحم الأسود. ولكنه يرى نفسه إنكليزياً، ولا يبالي ما وراء ذلك. ترونه كالحديد المصمت لا ينبعث له صدى، لأنه للعمل والحمل والثبات والاستمرار. وإذا كان الشرقي حديداً أيضاً. . . فهو كالجرس سواء كان في الأعلى أم في الأسفل، ليس إلا أن يهتز ويصيح بالأصوات الرنانة من جوفه الفارغ. . . يعمل الواحد منا عملاً ضئيلاً، أو عملاً لا قيمة له، فيملأ الدنيا كلاماً، ويملأ ما ضِفَيْه فخراً، ويملأ رأسه بهذا النوع الذي يسمونه جنون العظمة. وما ذلك من جهلنا لقيمة كل عمل، ولكن من عجزنا عن أكثر الأعمال النافعة، ومن مجازفتنا بالأوصاف رياءً ومجاملة. وقد ذكر الرواد الذين ضربوا في مجاهل الأرض أنهم رأوا قبيلة من قبائل الزنوج كان أجمل وسام تسطع عليه الشمس في صدر ملكها علبة فارغة من علب السردين!
هي علبة من علب السردين الفارغة التي يطرحها أفقر الناس في الطرقات، وهي قطعة من الصفيح قد لا تكون لها قيمة، ولكن ذلك لا يمنعها أن تكون وساماً في صدر الملك الزنجي، ومتى قلنا (الملك الزنجي) فكأننا قلنا (الزنجي) فقط، لأن أوصاف المتوحشين متوحشة أيضاً، فلفظ الزنجي يأكل لفظ الملك، وكذلك أوصاف الضعفاء، وكذلك أعمال الشرقيين.
لا تظنوا أني أنتقص الشرق وأهله وتاريخه. كلا، ولكني أصف عيوباً لا يجعلها من المحاسن أنها عيوبنا. ولو سئل أفضل رجل شرقي عن أحسن فضيلة فيه، لقال إنها شرقية. ولو سئل أرذل رجل شرقي عن أقبح رذيلة فيه، لقال أيضاً إنها شرقية. فهذا الشرق الذي هو مهد التاريخ، هو كذلك مهد الأديان ومبعث الفضائل. لكن أهله قد أضاعوا أنفسهم وأضاعوه. فإذا رأوا الفضيلة قالوا غربية، وإذا رأوا الرذيلة، قالوا شرقية، وأحالوا بكل ذنب على الشرق، كأن الأرض تنبت الرجال، وتهيئ لهم العمل، وتوحي إليهم المخترعات! وكأننا نريد أن تكون هذه الأرض مثلنا في التقليد. فالبحر يهز أمواجه، ويجب على الأرض أن تهز أهلها ليتخبطوا على ساحل الحياة.
ما تقدم الغربي وجرى مسرعاً لأن أرضه من المطاط، ولا تأخر الشرقي وجرى متعثراً لأن أرضه من الصمغ؛ ولكن أكبر رذائلنا أننا لا نتحد، لأننا نجهل التربية الاجتماعية. وقد تخلقنا بالأخلاق الفردية فصار الألف منا وأكثر من الألف لا يحسنون عمل اثنين متحدين. . . الجبل تصعد عليه مائة قدم شديدة الوطأة فلا تؤثر فيه ما تؤثر فيه ما تؤثر النحلة؛ وتتناوله مائة ألف ساعد قوية فتزيله عن مكانه، لأن طبيعة الأقدام غير طبيعية الأيدي. فإن لم نجتمع، ونأخذ أنفسنا بأصول التربية الاجتماعية فلا تنتظروا من الشرقي أن يعمل عملاً.
مصطفى صادق الرافعي