انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 481/ما يمكن تبديله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 481/ما يمكن تبديله

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 09 - 1942


للأستاذ عباس محمد العقاد

في عدد مضى من (الرسالة) تعقيب على كتاب (عبقرية محمد) يستدعي التعقيب عليه، لأن الكلام فيه باب من الكلام في الأدب والتأريخ

ونريد به ملاحظة الأديب (محمد النجار) على ما كتبناه عن رواية النبي عليه السلام للشعر إذ يقول: (. . . في ص 144 يذكر أن النبي كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله. فكان يقول مثلاً: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) لأنها لا تقبل تبديل، ولكنه إذا نطق بقول سحيم بني الحسحاس (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) قدم كلمة الإسلام فقال: (كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا)

ثم يعقب الأديب فيقول (وتقسيم ما يتمثل به الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ما يمكن تبديله لم يورد المؤلف ما يؤيده ويقتضيه. والمثال الذي ذكره لما لا يمكن تبديله غير صحيح، فإن تبديله ممكن، وقد روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام تمثل به هكذا (ويأتيك من لم تزود بالأخبار). راجع السيرة الحلبية في باب الهجرة إلى المدينة)

والذي نعقب به على تعقيب الأديب هو الكلام فيما يمكن تبديله من الشعر والنثر وكل ما له معنى من القول

فإذا كان المقصود بالتبديل هو نقل كلمة في موضع كلمة بغير نظر إلى المعنى والسياق فالتبديل ممكن في كل كلام بلا استثناء؛ إذ ليس للكلام قوة مادية تمنعك أن تقدم فيه وتؤخر كما تشاء، وفي وسع كل قارئ أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيقرأه عكساً وطرداً ومن أسفله إلى أعلاه ويضع الأول في موضع الوسط والوسط في موضع الأول، ثم يعود فيصنع به مثل ذلك إلى غير انتهاء، فلا يستعصي عليه عصى ولا يحول دونه حائل

وليس هذا بالبداهة هو التبديل المقصود حين نقول بإمكان التبديل أو استعصائه، وإنما المقصود هو التبديل مع بقاء المعنى وبقاء المزية الكلامية أو المزية البلاغية التي من أجلها كان الشعر أو النثر مستحقاً لروايته والاستشهاد به

وكثير من المعنى ومن المزية البلاغية يتوقف على تقديم كلمة إلى موضع أخرى حتى في العبارة التي لا تتجاوز كلمتين أو ثلاث فالعالم زيد غير زيد العالم، وما اختلف منهما إلا تبديل موضع الكلمتين

لأن (العالم زيد) قد تقيد أنك تخص زيداً بالعلم وتنفيه عن غيره، وليس هذا مستفاداً من (زيد العالم) على هذا الوجه

وقد شرح علماء البلاغة دلالة التقديم والتأخير وعرض لها الإمام الجرجاني فقال مما قال في دلائل الإعجاز: (. . . إنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، إنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعنيهم منه شئ، فإذا قتل وأراد مريد الأخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتل الخارجي زيدُ: ولا يقول قتل زيد الخارجي، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه. متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وإنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه. . .) إلى أخر ما قال

على أن الحكمة في التقديم والتأخير معنى من معاني العقل والمنطق وليست بقاعدة من قواعد اللغة وحسب

ولهذا ينص عليها في جميع اللغات ولا يقتصر التنبيه إليها على لسان دون لسان

فالإنجليز مثلاً ينبهون إلى الفرق بين معاني العبارات إذا تغير موضع كلمة واحدة فيها، ويمثلون لذلك بأمثلة كثيرة منها هذه الأمثلة الأربعة

1 - أنا (فقط) أتحدث بهذه القصة إلى فلان

2 - أنا أتحدث فقط بهذه القصة إلى فلان

3 - أنا أتحدث بهذه القصة فقط إلى فلان

4 - أنا أتحدث بهذه القصة إلى فلان فقط

فالفرق بعيد جداً بين كل عبارة من هذه العبارات وبين سائرها لتغير الموضع الذي توضع فيه كلمة واحدة

لأن العبارة الأولى معناها أنني وحدي أتحدث بهذه القصة إلى الشخص المذكور

والعبارة الثانية معناها أنني أتحدث فقط ولا يصدر مني شيء غير الحديث، وقد يتحدث به غيري كذلك

والعبارة الثالثة معناها أنني أتحدث بالقصة فقط إلى فلان، ولا يتعدى التخصيص ذلك، فكل ما عدا هذا التخصيص فهو عام لا تقييد فيه

والعبارة الرابعة معناها أن المتحدث إليه هو فلان فقط وليس إنساناً غيره، ولا تخصيص للقصة ولا للمتحدث ولا للحديث

وتبديل الموضع الذي توضع فيه كلمة فقط ممكن جداً لكل من أراده، ولكن المهم هو المعنى الذي يترتب على هذا الإمكان. فإن كان المقصود أن نحافظ على معنى لا يتغير فالتبديل مستحيل أو كالمستحيل، وإن لم يكن هنالك معنى مقصود فبدل وقدم وأخر كما تشاء

ونأتي إلى الأبيات التي نطق بها النبي عليه السلام فننظر ماذا كان يترتب على التبديل في مواضع كلماتها؟

إن منها لأبياتاً يتغير منها شيء غير الوزن كالبيت الذي أنشده عليه السلام حين قال للعباس بن مرداس: أأنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فإن البيت موزون على قول الشاعر:

وأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع

ولا فرق بين الوضعين إلا كالفرق بين قولك إن طنطا واقعة بين القاهرة والإسكندرية، وقولك إنها واقعة بين الإسكندرية والقاهرة، أو كالفرق بين قولك إن زيداً يجلس بين بكر وخالد، وقولك إنه يجلس بين خالد وبكر

فهل الفرق بين قول الشاعر (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وقولنا (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) هو فرق من هذا القبيل؟

إن كان الفرق من هذا القبيل فالتبديل ممكن، وإن لم يكن كذلك فهو مستحيل أو كالمستحيل

والمفهوم الذي لا يغيب عن سيد الفصحاء هو أن المعنيين مختلفان.

فالمفهوم من قول الشاعر أن الأخبار هي المقصودة، وأن الشاعر يورد قوله على سبيل الاستغراب أو التحدث بالغريب الذي لا ينتظر في الأغلب الأعم أن يكون: تسمع الخبر الذي تنتظره من مسافر لم تودعه ولم تحفل بسفره ولم ننتظره إيابه، وهذه هي الغرابة! وهذا موقع التنويه والاستشهاد أما قولنا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) فهو شيء آخر في معناه، أو هو شيء لا يستشهد به في الموقع الذي عناه الشاعر

فنحن لا نزود التاجر المسافر بزاد، ولكنه يعود إلينا من السفر بالبضائع والتحف ولا نستغرب ذلك، إذ لا وجه للغرابة في أن يسافر المسافر ولا تزوده ثم يعود إليك بشيء من الأشياء. أما أن عنيت غرابة الأمر، وعنيت الأخبار خاصة فلابد من التقديم ومن إظهار ما يفيد هذه الغرابة

وهذا فضلاً عن التباس آخر في قولنا: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار)

إذ يحتمل أن يفهم السامع أن المقصود: (من لم تزوده أنت بالأخبار) ثم ينتظر تتمة الكلام

ولا وجه لهذا الالتباس إذا لم يتبدل موضع الكلام

فتبديل مواضع الكلمات ممكن إذا نحن لم نحفل بهذا الالتباس وممكن إذا نحن تركنا المعنى الذي من أجله نظم البيت واستحق أن يروى في مقام الاستشهاد، وممكن إذا صرفنا النظر عن كل معنى وكل مقصد

ولكنه مستحيل أو كالمستحيل إذا أردنا المحافظة على معناه0 وهو فرق واضح لا يغيب عن سيد الفصحاء كما أسلفنا، ولهذا رجحنا الرواية الغالبة ولم نكترث لغيرها من الروايات، ولهذا كان ينبغي للأديب المعقب أن يتريث طويلاً قبل أن يجزم ويتحقق أن قولنا (لا يمكن تبديله غير الصحيح) فغير الصحيح هو ما قال وما قالته كل رواية توهم أن محمداً عليه السلام قد غاب عنه الفرق الواضح بين الروايتين

وما دمنا بصدد التعقيب على كتاب (عبقرية محمد) فلنذكر تعقيباً سمعناه من المذياع لطالب نجيب من طلاب الجامعة كان يتحدث عن هذا الكتاب؛ فقد أشار إلى كلامنا عن موت إبراهيم بن النبي عليه السلام حيث نقول: (مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير: مات كلاهما والأب في الستين. . . أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟ الدين قد تم وهذه الآصرة قد انقطعت، فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر: كل ما فيها للإشاحة والإدبار)

ثم عقب الطالب النجيب بما فحواه أن هذا يأس يتنزه عنه مقام الأنبياء

وكل ما نجيب به أن هذا ليس بيأس يتنزه عنه مقام الأنبياء، وإنما هو علم بأن الحياة قد أصبحت للإشاحة ولأدبار، ومحمد عليه السلام كان يقول إن (معترك المنايا بين الستين والسبعين) فلا يأس في انتظاره أدبار الحياة بعد الستين

إنما اليأس الذي يتنزه عنه مقام النبي أن بيأس من أداء الرسالة التي بعث بها إلى الناس، وهذه قد تمت يوم مات إبراهيم، فلا يأس فيها ولا حرج أن يقبل النبي بعدها على أخراه. وما قلنا عن محمد عليه السلام بعض ما قاله بلسانه الشريف حين قال إن ما به موت إبراهيم ليهد الجبال. ثم استرجع. وما يكون الاسترجاع إلا أن يذكر الإنسان في كل عمر أنه تارك الحياة وراجع إلى الله!

عباس محمود العقاد