انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 48/من ذكرياتي في مصر:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 48/من ذكرياتي في مصر:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 06 - 1934



ساعة عند أمير الشعراء

لا أزال اذكر تلك الساعة السعيدة التي هبطت فيها مصر لأول مرة في

حياتي عام 1929 فقد كانت مليئة بالخواطر، فياضة بالآمال، محفوفة

بالأحلام. وكانت الفصل بين ماض راحل، ومستقبل ماثل، لقد تذكرت

وأنا أجتاز ميدان (باب الحديد) وطرفي شاخص إلى تمثال (نهضة

مصر) القائم وسط ذلك الميدان الفسيح، أنني قد بلغت ما كنت أتشوف

له وأصبوا إليه، فها أنا في تلك المدينة الجميلة التي طالما تاقت إلى

مرآها نفسي، ونزع إليها هواي، وها أنا في ذلك البلد الأمين الذي كان

ملاك خاطري وقيد ناظري، ومعقد أملي، ومحط رغابي، كم كنت

أتمنى في تلك الساعة لو يتاح لي شهود مصر كلها فاجتلي ما فيها، لقد

تمثلت أمامي بحضارتها المزيجة من روح الشرق الخالدة، أو نفسية

الغرب الجديدة، فعملت فيها كل منهما عملها، فظهرت من الاثنتين ثالثة

كانت رباط الشرق بالغرب، وجماع شخصيتيهما المتباعدتين من أقدم

العصور حتى اليوم.

وتمثلت أمامي بأعلامها الميامين، وأبنائها المقاويل، وأساتيذها الأماثيل. وشعرائها المفلقين، أولئك الذين تسمع دوي اسمهم في أنحاء الشرق يملك عليك سمعك، ويأخذ بمجامع قلبك، فرفعوا اسم مصر وبنوا لها في الأدب والفن مجداً أصبحت به محط الرجال وقبلة الآمال. . .

رحم الله (شوقي وحافظ) فقد كنت إذا ذكرت مصر أو مرت على خاطريالحياة على جنبات النيل ذكرت قبل كل شيء (شوقي وحافظ) وأنهما يقيمان في هذه المدينة القائمة في هذا السهل الوسيع، يحرسها (أبو الهول) الرابض في كنفها هازئاً بالزمن ساخرا من الحياة الخاطفة. . والحق أن (شوقي وحافظ) أقاما لهما من المجد ما أخرس كل لسان، فملكا على الناس أسماعهم، وإنك لتسمع لهما صوتاً يرن في الآذان، حيثما وليت وجهك في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، فكان مما أردته وأنا في مدينة شوقي وحافظ أن أراهما حق الرؤية، وأن أعرفهما حق المعرفة، وهكذا كان. .

لقد أشربت النفوس حب شوقي فخالط اللحم والدم، لأنها كانت تجد فيه فيضاً من العبقرية لا ينضب، وكنزاً من الإبريز يزيد قدره تعاقب الأيام والسنين، هذا إلى ما كان عليه من عظيم الخلق، ونبل القصد، وسجاحة النفس، وعفة اللسان، وحب الخير، وصلابة الإيمان، والملاحاة عن بيضة الدين والعربية بما حباه الله من صارم ذرب، ولسان عضب، وقول فصل، يدعمه غزارة العلم، وضلاعة في التأثير، وشت الخصوم.

رأيت (شوقي) لأول مرة في دمشق بـ (كازينو الخديوية) وكان بالقرب من الطاولة التي كنت عندها فعرفته من غير دليل، وعرفت أنه الشاعر العظيم بلا لبس ولا مراء، وإن لم يرشدني إليه أحد فما أعظم المثلة بين هذه الأسرة والقسمات وبين تلك التي كنت أتوسمها في صوره في الكتب والمجلات. . .

لقد كنت جد شيق إلى التعرف به في تلك الفترة من الزمن، ولكن كم كنت أراني فضولياً إذا قمت بذلك في غير الفرصة السانحة التي تقضي بهذا التعارف، فحملت نفسي على إرجاء ذلك إلى الظروف والمناسبات. .

وفي عام 1930 بعد تجوال أربعة أشهر في سورية وفلسطين، عدت إلى القاهرة للمرة الثانية غب عطلة الصيف. فوجدت الكثير من الشباب العرب في معاهد مصر يزمعون إنشاء جمعية باسم (جمعية الوحدة العربية) تلك التي طالما كنا نتغنى بذكرها، ونؤكد وجوب تأسيسها في السنة المنصرمة لضم شمل أبناء الضاد وعقد تعارف وثيق بينهم على ضفاف النيل السعيد، وسرعان ما نضجت تلك الفكرة، فأتت أكلها عن قريب، ولقد وجدت من (شوقي) رحمه الله خير نصير لها، حريص عليها، مبشر بها، فأوفدت الجمعية ممثلين لمختلف أقطار العرب كنت أحدهم لتقديم الشكر إليه باسمها، وتهنئته بابلاله من علته، فما كان أعظم ابتهاجه بنا، لقد كان يحثنا على مواصلة ما نحن فيه، ويضرب لنا الأمثال بصوته الضعيف المتقطع يخرجه بتكلف وعناء، مدعماً إياه بإشارات مختلفة من يديه يستعين بها على إظهار ما يريد، لقد كان أساي في تلك الساعة عظيما كلما نظرت إلى الشاعر وما يقاسيه، التياعاً مما سيصيب دولة الشعر في المستقبل، وإشفاقاً على شوقي مما هو فيه من داء كامن بالغ، وإعياء شامل وشحوب باد. . .

لقد كان ذلك الاجتماع أول اجتماع عقد صلة المعرفة بيني وبينه، وكنت كلما زدت تعرفاً به، ازددت إعجاباً بعبقريته الفياضة، وزدت شوقاً إلى مجلسه الجامع لافانين الأدب، وروائع الحكمة، وطرائف الأخبار وأوابد الملح والمفاكهات، ولا غرور في ذلك فشوقي يمثل عصراً بكامله، عصراً كان فيه مالك سمعه، وشاغل لبه، ومثير مشاعره، وهو خير مرآة له، بل خير من سيصوره للأجيال الآتية حق التصوير.

وفي عام 1932 عدت إلى مصر بعد أن فارقتها ما يناهز سبعة أشهر، وكنت إذ ذاك في ضيق من دروس متراكمة، أتدارك ما فات، فشغلتني مشاغل المراجعة والحياة بين الكتب، والحرص على الوقت القصير من زيارة شوقي وتجديد عهد الاجتماع به. .

وأقبلت طلائع الصيف لهذا العام، وانتهت أعوام المدرسة اللذيذة، أو قل الحياة في مصر، ودنا أوان العودة إلى الوطن العزيز، والتزود من النيل بذكريات على جنباته لا تنسى، وصور باقية لا تمحى، فقد أوشكت أن تكون الحياة المغمورة بمختلف الخواطر، المحفوفة بشتى الألوان، ذكراً ماضياً، أو خيالاً سارياً ألم بنائم، وأطاف بحالم.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

أي والله: لقد أوشكت أن تكون تلك العهود إذ ذاك، ذكريات دفينة يضفيها الزمن إلى خزانته، تتجدد في نفوسنا كلما جد عهد، وهاج بعد، وحالت حال، ولاح خيال، وهاهي اليوم قد أصبحت كذلك، مطمورة في الصدر، رهينة في الفكر، تبتعثها لواعج الهم، وتشب جذوتها كوامن الألم.

قلت لقد دنا الفراق، فبعد أيام معدودات امتطي القطار الزفوف، وبعده السيارة الربيدة، إلى حيث ملاعب الصبا، ومجامع الألفة والهوى، والتئام الشمل، ولقيا الأهل، فكان من الواجب بعد هذا وأنا أودع مصر عن قريب أن ألقى (شوقي)، وأن أودعه، وما كنت أحسب أن ذلك الوداع سيكون الأخير، وان ذلك الاجتماع ليس بعده اجتماع، فكنت قد عقدت النية على الذهاب إليه. والتزود بالحديث العذب، وبينما أنا كذلك إذ جاءني صديق عراقي يخبرني بدعوة (شوقي) لي معه في داره (كرمة ابن هانئ) ضمن نخبة أمجاد من غطارفة مصر، وأهلة العصر، فما منهم إلا من استفاض ذكره، وعلا في الفضل كعبه، ونما في المجد حظه. .

ذهبت أنا ورفيقي في الموعد المنتظر إلى (كرمة ابن هانئ) ظهراً، وكنت قد زرتها قبل هذه المرة، جنة أنيقة زاهية، نسقت فيها مغارس الزهر، وخمائل النبت وأصص الورد تنسيقاً يبعث البهجة في النفس، يقوم وسطها قصر جميل يطل على النيل، ويقابل القطم مدلاً عليه بما أوتيه من جمال وجلال، وروعة أخاذة بالألباب، مستفزة للمشاعر، وذلك لأنه مقام الشاعر ومبيت جسمه، ومهبط وحيه وخياله، ومرتع شاعريته وتأمله، ومجتمع أمانيه وآماله، فله ذلك ما دام كذلك. .

دخلنا القصر فاستقبلنا سكرتير الشاعر، فجلسنا في الشرفة الأمامية منه ننتظر قدوم شوقي، ونتأمل محاسن الطبيعة أمامنا، هذه مدينة القاهرة تجاه أبصارنا، كم من خواطر تاريخية تمر على البال في تلك الساعة، إن الإنسان بهذا ليستعرض تاريخ مصر وما يتوالى عليها من حوادث وفتن وانقلاب وأحوال، تتزاحم كلها في ذاكرة الناظر إذا ما أمعن في نظره، ورجع إلى الماضي البعيد، أجل! تستثير كل تلك الذكريات مبان عالية مختلفة، ومنائر ضاربة في الفضاء، وقبب منتثرة هنا وهناك مختلفة في الأعمار، تنطق بالعبر، وتشهد على أن الزمان دول. وكان على جانبي السلم الرخامي تمثالان قائمان يحمل كل منهما شبه مصباح في يديه. فسألني صاحبي عن تعليل لطيف لذلك، فقلت إن هذا أصدق تخيل يطابق (ديوجيني) وقد حمل سراجا يدور به في شوارع (أثينا) ليفتش عن الرجل في الليل والنهار، وفي الأخير وبعد تجوال طويل عثر على امرأة خبرها فوجد فيها المثل الأعلى للإنسان الذي يبتغيه فقال (لقد بحثت عن الرجل بكل مكان فلم أجده، ولكني وجدت المرأة) وما أشبه هذا التمثال الصامت الناطق القائم في مدخل الدار حاملا بيده مصباح الحكمة والهداية بديوجيني، وكأنه هنا وقف للغادين والرائحين يقول (ها قد وجدت ضالتي المنشودة بعد عصور طويلة، لقد وجدت الرجل، لقد عرفت الرجل، هيا أدخل ترى الرجل).

وأقبل إلينا شوقي بعد فترة عاجلة من الزمن متهللاً، فتقدمنا إليه مسلمين، فرحب بمقدمنا غاية الترحيب. وانتبذنا جانب شرفة القصر ريثما يتم اجتماع الآخرين، وكان الشاعر في هذه المرة التي لقيتها فيها خيراً منه في النشاط ودلائل القوة في كل مرة رأيته قبلها، فقد هادنته العلل في ذلك الحين، وناهض المرض وصاوله حتى تغلب عليه إذ ذاك، ولكن من كان يدري أن (شوقي) سخر صريعاً في الميدان بعد أشهر قليلة من هذا الانتصار. وان تلك العلل إنما كمنت لتتجمع للوثوب، واختفت متراجعة لتظهر على حين غفلة، وهادنت خداعاً، والحرب خدعة، من كان يدري ذلك ومن المصدق بهذا المنقلب العاجل؟. . لقد كان شوقي في تلك الساعة قرير النفس، رخي البال، طافح البشر، وكان صورة من الطبيعة الباسمة في ذلك اليوم، وهكذا يكون الشاعر هو والطبيعة صنوان لا يفترقان. . تنظر إليه فتقرأ في جبينه المتغضن خطرات السنين المتعاقبة، وأصداء الزمن الماضي بما فيه من حوادث وشئون، كان لسانها الناطق وحافظها للأجيال المقبلة من الاندثار، فإذا أمعنت في سطور ذلك المحيا داخلت نفسك هزة وانتفاضة هي هزة الإجلال والمهابة، حيث ترى ذلك العقل الجبار وذلك الذهن المتقد يشع نوراً وحكمة، وذلك الخيال المطلق أعني به الشاعر أو روح الطبيعة الثاني، ذلك الذين يهم في كل واد، ويسبح في كل لجة، فيحلق مع الطيور في سمائها ليساجلها أنغامها، ويعانق الطبيعة في خمائلها ويتغنى بجمالها، وقد تراه فتبصر فيه خفة السرور وتقرأ عليه نضرة النعيم، وقد تراه فتجده بائساً لبؤس غيره، أنيس المحزون، وعزاء الضعيف، يشفق على المنكوبين وتذهب نفسه حسرات عليهم

وتقرأ في عينيه الذابلتين اللتين أتعب أجفانهما السهد وتعاقب الزمن، صفاء السريرة، وعفة القلب، وحدة الذكاء، وهي خير مترجم عن قلب الشاعر، ذلك القلب العامر بالفضيلة والخير. وإذا استمعت إلى حديثه العذب أسرتك طلاوته، واجتذبتك حلاوته، يبلغ إلى فؤادك قبل سمعك فلا تمل منه لغة، ولا تسأم فيه لهجة، وشوقي إذا حدث تخير ما راق لسامعه، ورقت حواشيه، وأتى بكل طريف قشيب، تستهله طرافة في التعبير، وتختتمه دعابة أو عبرة في الحديث تقتضيها الحال ويستدعها المقال، وكان الحديث جامعاً وكان إقبالنا عليه بالغاً، تناولنا شئوناً مختلفة في أحوال (العراق) والأدب العربي في هذا العصر وبعض مشهوري الشعراء والكتاب، وقضينا في هذا حينا حتى قدم علينا الأستاذ محمد عبد الوهاب، وكان حديث القدوم من العراق ثم اكتمل العقد، وانتظم الجمع فنهضنا إلى داخل الدار حيث مائدة الطعام.

ولا تسل عما كان يدور حينذاك من مفاكهات عفة. وملح آبدة، ونوادر طريفة، ساقها فرسان مشهورون في مصر في هذا المضمار، مصلون به، والفكاهة والظرف والتندر من الغرائز التي طبع عليها المصري، وهي من خصائص دمه لا تفارقه، والذي يزيد فيها قوة وحسن وقع في النفس أنها تمرق من اللسان عفوا وتنطلق من غير تكلف وتعمل. . تزجيها الطبيعة، ويقذف بها الظرف الملائم، ولسرعة البديهة وحدة الخاطر أثر لا ينكر في سوقها. .

انتهى محفل الغذاء فجلسنا بعد برهة قصيرة حتى اقترب موعد سفرنا من مصر في ذلك اليوم، فتنازعنا عاملان: عامل البقاء والاستمتاع بهذه الأحاديث الطلية، وعامل الجلاء إلى حيث ينتظرنا القطار الذاهب إلى فلسطين، وفراق مصر على مضض، فتغلب العامل الثاني وإذا نحن في قطار المساء يزفر زفرة الوداع، وإذا بنا نودع من عز علينا وداعهم. وإذا بنا نستعرض صفحات وذكريات ماضية وإذا بنا نفارق أرض مصر وندخل في أرض الميعاد. . .

بغداد

كمال إبراهيم