مجلة الرسالة/العدد 48/بين المعري ودانتي
مجلة الرسالة/العدد 48/بين المعري ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود أحمد النشوي
الوطنية لدى الشاعرين
ذكرنا في العدد الماضي حديث الوطنية لدى أبي العلاء، ورأينا حنينه للمعرة وللشام، وحبه لوطنه الذي ألقى رداءه على كل ما حوله حتى على نياقه التي تمنت قويقاً والصراة حيالها؛ والتي تلت زبور الوطنية المنزل عليها في أن الصبر عن الوطن غير حلال، ونريد الآن أن نتعرف الوطنية لدى شاعر الطليان، تلك التي نكاد نلمسها في كل ناحية من نواحي كوميديته. وكأني به يخلق المناسبات، ويتعمد الاستطراد ليتحدث عن إيطاليا وآلامها وأوصابها في عهده، وليتحدث عن خائني أوطانهم وبلادهم كذلك.
ولعلك على ذكر مما حدثتك به إبان استعراض طبقات الجحيم لديه عن الدرك التاسع الذي جعله مقراً لخائني أوطانهم، يشاركهم في تلك الطبقة إبليس ويهوذا الأسخريوطي. . أوليس في تسويته (وهو غرس الكنيسة) بين خائني الوطن وخائن المسيح وإبليس اللعين ما يجعلنا نكبر فيه وطنيته، ونعلم أي حد بلغه في حب بلاده؟
وسأستعرض شيئاً من نواحي الوطنية في كوميديته، تلك التي نتلمس الوطنية الملتهبة في كل ناحية من نواحيها، حتى لنظن أن الوطنية كانت أكبر الأسباب التي دعته أن يذبج رسالته. فكم تلمس دانتي الأسباب والمناسبات ليبكي مجد إيطاليا وحروبها الأهلية التي كانت تمزق أوصالها، وتفرق بين أبنائها. . فها نحن أولاء نراه يسير في الطبقة الثالثة من السعير، فلا تكاد تقع عينه على أحد مواطنيه (تشاكو) حتى يميل نحوه ويحدثه عن الوطن وعما أحاط به من ويلات ومصائب. وتشاكو بدوره ينسى الجحيم والعذاب، وينساق مع دانتي في حديثه، فيذكر له النزاع والفشل بين أحزاب فلورنسا.
وبينا هو يجوس خلال الطبقة السادسة من السعير، وبعد أن خلص من مدينة (ديتي) وشياطينها إذا هو أمام مواطن آخر اسمه (فاريناتا فيكرر على سمعه الحديث عن فلورنسا وأحزابها وحروبها حديثاً يخفق له قلبه، ويضطرب له جنانه.
وفي (المطهر) بين النار والجنة يذكر أوجو كابيتو ونعيه على كارلو دي فالو الذي دخل فلورنسا وشرد أبناءها وأهلها. . ثم يرى في فراديس الجنان إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية (جوستنيان فيوازن الإمبراطور بين قديم روما وحاضرها، وبين وفاقها في عهدها الأول وانحلال عراها، وتنازع أهلها وفشلهم في عصرها الحديث، ناعياً على معاصري دانتي تفكيرهم في مصالح أشخاصهم، وتركهم الوطن تعصف به رياح القلاقل والاضطرابات. وكذلك يرى جده كاتشاجويدا ينعم في الطبقة الخامسة من طبقات الفردوس، فيحدثه هو الآخر عن الأحزاب والخصومات، والحروب والويلات، موازناً أيضا بين عهده المليء بالمحبة والسلام، وعصر دانتي المترع بالنزاع والخصام. .
ذلك شيء من حواره الوطني الذي كان يهتبل الفرص فيذكره في ثنايا رسالته، وفي تضاعيف خياله.
فأما العذاب الذي تخيله ينصب من فوق رءوس هؤلاء الخائنين، فحسبك أن تعيره سمعك إذ يحدثك عنهم وهم في الدرك التاسع من السعير زرق الوجوه، مائلي الرءوس، غارقين في بركة من الثلج فسيحة الأرجاء، سار على صفحاتها فارتطمت قدمه بأحد الوجوه المشوهة، فتبين صاحبه فإذا هو (بوكا خائن الوطن، وقاتل من كان يحمل العلم الفلورنسي غيلة، فتفرق جندها، وحقت على جيشها الهزيمة، كما حقت على خائني الوطن كلمة العذاب.
وحسبك أن ترهف أذنيك الحديثة عن الكونت أوجولينو الذي ألقت إليه مدينة بيزا مقاليدها، وخضعت لسلطانه، فأسلمها وأسلم قلاعها وحصونها لأعداد البلاد. بيد أن قومه ظفروا به فاستفتوا في أمره المطران روجيرو فاشتط المطران في فتواه، وأسرف في حكمه، وما كان جوابه إلا أن قال: ألقوه مع أطفاله وأبناء أخيه الصغار في غيابة برج من الأبراج حتى يموتوا صبراً جوعاً وعطشاً. فحبسوه وذريته الأبرياء الضعفاء في برج ألقوا بمفتاحه في النهر حتى ماتوا جميعاً؛ فكان عاقبتهما: الكونت والمطران، أنهما في النار خالدين، ينهش كل منهما رأس صاحبه
ثم اختتم دانتي جحيمه بالحديث عن بروتس وعن كاسيوس قاتلي يوليوس قيصر خيانة وغدراً، ولم يرعيا عطفه عليهما، ولا إحسانه العظيم لبلاده. وهنا أطلق لخياله العنان وافتن في وصف العذاب لهذا الثالوث غير المقدس بروتس وكاسيوس ويهوذا، فتخيل وحشاً ذا ثلاثة وجوه متعددة الألوان، تبرز تحت تلك الوجوه أجنحة تفرغ أشرعة السفائن طولاً وعرضاً، وهي تهتز فترسل ريحاً باردة على الجحيم وعلى من فيها. ريحاً هي السبب فيما يلقونه من الزمهرير. لذلك الوحش ست عيون وثلاثة أفواه، يسحق أحدها بروتس، والآخر كاسيوس، وثالثها يهوذا، وهي دائبة على تمزيق أجسامهم؛ وكلما تقطعت أشلاؤهم عادت سيرتها الأولى، وعاد لها تمزيق أوصالها وسحقها. . .
وكم كان طريفاً حقاً إذ تكلم في المطهر عن امرأة تدعى سابيا وهي تتطهر من ذنوبها وآثامها؛ وما ذنبها إلا أنها فرحت واستبشرت إذ رأت قومها منهزمين، ولولا أن القدر أسعفها فأدركها المتاب قبل أن توارى في التراب، لكانت حصب جهنم وطعاماً للسعير.
يتبع
محمود أحمد النشوي