انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 479/مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 479/مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

مجلة الرسالة - العدد 479
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1942



نقلاً عن (برنارد لويس)

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

2 - بداية الاستشراق

لقد رأينا كيف ذهب العلماء الإنجليز في القرون الوسطى إلى أسبانيا وصقلية لتلقي العلوم من العرب، وكيف نشروا ما اكتسبوه من عودتهم إلى إنجلترا. وسنتطرق الآن إلى تطوير جديد في الدراسات العربية، وهو ظهور ما ينبغي أن يسمي أوائل المستشرقين بالمعنى الذي تؤديه كلمة الاستشراق في العصر الحاضر. فقد حدثت تغيرات كبيرة في خلال السنين التي مرت على الزمن الذي مر بين الدور الذي درسناه في حديثنا السابق، والدور الذي سنأتي إليه الآن. فتقدمت أوربا تقدماً ذا شأن في العلم والمعرفة، وفقد العرب تفوقهم القديم، ولم يعد من الضروري للدارسين من الأوربيين أن يتطلعوا إلى مدرسين من العرب، ليتلقوا منهم العلوم العامة، وأخذنا نشاهد نوعاً جديداً من الاستشراق، وهو ذلك النوع الذي يعتبر أساً للاستشراق الحديث؛ فقد أخذ الباحث الإنجليزي يدرس العربية لا لتحصيل ما يمكن أن يأخذه من العالم العربي من فلسفة وعلم، بل من أجل الثقافة العربية نفسها. وللمرة الأولى شرع الإنجليز في دراسة اللغة العربية والآداب العربية دراسة جدية. وكان عملهم - كعمل المستشرقين المحدثين - ذا نفع للعرب بقدر نفعه للفرنك، وهو ينطوي على جمع القواميس العربية والنحو والصرف ونشر المخطوطات العربية - قبل أن يتم طبعها في الشرق بزمن طويل - والبحث العلمي في تاريخ العرب وآدابهم، وغير ذلك من مظاهر النشاط التي تدخل في هذا المضمار. وقد بدأت هذه الحركة في القرن السابع عشر، وفي هذا القرن أنشئ منصب أستاذية اللغة العربية في جامعتي أكسفورد وكامبردج؛ وأخذ الأساتذة الإنجليز يدرسون اللغة العربية لعدد من المتشوقين لها من الطلاب، وطبعت أوائل الكتب العربية في إنجلترا. وعلينا أن نأتي بشيء من التفصيل لحياة بضعة أفراد من ذوي المشاركة في هذه الأعمال:

إن الرجل الذي يعرف بصورة عامة بأنه (أبو الدراسات العربية) في إنجلترا هو (و بدويل) (1561 - 1632) وله مقالة طريفة يؤكد فيها أهمية اللغة العربية وضرورة تعلمها، وهو يصفها بكونها (لغة الدين الوحيدة، واللغة الرئيسية للدبلوماسية والأعمال من الجزر السعيدة إلى بحار الصين).

وتكلم عن نفعها في الآداب والعلوم. ولقد كان لبدويل بعض الشهرة في عصره، وعرف في جميع أوربا بأنه عالم بالعربية، وكان أهم أثاره معجماً عربياً في سبعة مجلدات لم يطبع لسوء الحظ.

وفي وسعنا أن نذكر في بعض كتبه بعض الأصول العربية التي طبعت في إنجلترا، وبعض الدراسات عن القرآن، ومعجما للألفاظ العربية المستعملة في اللغات الغربية من العهد البيزنطي إلى عهده هو

وهناك شخصية أخرى هي شخصية (أدموند كاستل) (1606 - 1658) وهو أحد أوائل أساتذة كامبردج في اللغة العربية، وقد كان الأثر الذي أفنى فيه حياته هو (قاموس اللغات السامية)، استنفد تصنيفه منه ثمانية عشر عاماً، وطبع لأول مرة في سنة 1669. ويتكلم مؤلفه في مقدمته عن (الإثني عشرة عاماً التي انقضت في العمل المستمر لما يزيد على 16 أو 18 ساعة في اليوم - ونادراً في ما قل عن هذا المقدار - من السهاد، وضنى الجسم، وضياع المال). وقد كان هذا القاموس - وهو الأول من نوعه - عظيم لأهميته وأعيد طبعه عدة مرات في إنجلترا وأوربا. ونذكر من جملة آثار كاستل الأخرى عجالة عن أهمية اللغة العربية، وتعليقاً على أبن سينا، ومجلد أشعار عربية مهدي إلى الملك شارلس الثاني ملك إنجلترا

ومنهم (جون كريس) (1602 - 1652)، وهو أحد الرياضيين المشهورين. وكان وقتاً ما أستاذ علم الهيئة في جامعة أكسفورد. وكان كثير الأسفار إلى الشرق الأدنى وعلى الأخص إلى مصر، ودرس اللغة العربية والفارسية دراسة جدية، واقتنى مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية والفارسية، والنقود والجواهر، وطبع أجرومية صغيرة للغة الفارسية. وكان اهتمامه الرئيسي في الناحية الرياضية من أدب المسلمين فنشر عدة نصوص ودراسات في هذا الموضوع، وكان أخوه (توماس كريفس) يعرف العربية أيضاً والفارسية ونشر بضع مقالات ونذكر من جملة العلماء في العربية الآخرين في القرن السابع عشر (إبراهام ويلوك) وهو أول أستاذ للغة العربية في جامعة كامبردج؛ و (سامويل كلارك) صاحب عجالة في القريض العربي ومفردات بعض أسماء الأماكن العربية؛ و (بريان والتون) الذي طبع الإنجيل بعدة لغات شرقية؛ و (وددلي لوفتس) وهو أحد علماء وفقهاء القانون الإرلندي. وقد لعب (جون سلدان) (1584 - 1654)، السياسي القانوني دوراً مهماً في الحياة الإنجليزية في ذلك العهد، وكان يعرف عدة لغات شرقية منها اللغة العربية فضلاً عن معلوماته الأخرى. وقد نقح ونشر بعض النصوص التاريخية، وترك وراءه مجموعة من المخطوطات الشرقية

ولقد كان أعظم العلماء بالعربية في ذلك الحين بلا منازع هو (ادوارد بوكرك) (1604 - 1691) الذي كان أول من شغل منصب أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد، وأول المستشرقين الأوربيين الذين قاموا بأعمال من الدرجة الأولى حقاً؛ فقد بدأ بوكرك دراسته للغة العربية في أوائل عمره؛ وكان وليم بدويل يرعاه، كما قام (ماثياس باسور) - وهو أحد النازحين من ألمانيا بسبب الاضطهاد - بتعليمه مدة من الزمن في جامعة أكسفورد. وذهب في سنة (1630) إلى حلب حيث قضى هناك خمس سنوات أتقن في خلالها اللغة العربية كتابة ولفظاً، واقتنى مجموعة من نفيسة من المخطوطات العربية جاء بها معه عند عودته إلى أكسفورد، وبذلك أنقذها من التلف الذي كان من المحتمل أن يحل بها، وأنشأ لنفسه صداقات مع كثير من الحلبيين وعلى رأسهم (الشيخ فتح الله) أحد العلماء الذين درس عليهم، وقد بقى صديقاً له مدى حياته.

وفي سنة 1636 عندما عاد بوكرك إلى إنجلترا عين في المنصب الذي أنشئ حديثاً للغة العربية في أكسفورد، حيث حاضر في الأدب العربي وقواعد اللغة العربية، وبدأ فصوله تلك بمحاضرة عن أهمية اللغة العربية والأدب العربي. وشرع في سلسلة محاضرات يدرس فيها أقوال الإمام علي.

وفي سنة 1637 زار مصر للمرة الثانية بغية الحصول على معلومات جديدة ومخطوطات جديدة، وقد عاد إلى أكسفورد في سنة 1641 وخصص أيام حياته الأخيرة للعمل المنتج في إنجلترا، وكان (جون كريفس) الرياضي قد صاحبه في رحلته الثانية.

وفي خلال إقامته الطويلة في أكسفورد - حيث كان يجلس في ظل شجرة التين التي جاء بها معه من سوريا، والتي لا تزال موجودة إلى الآن، وهي أقدم شجرة من نوعها في إنجلترا - أخرج بوكرك عدداً كبيراً من الكتب المهمة نذكر منها ما يلي:

1 - (نموذج من تاريخ العرب): وهو نصوص من تاريخ أبي الفرج، مردفة بسلسلة من الدراسات المستفيضة عن النواحي المختلفة لتاريخ العرب، وعلومهم، وآدابهم، ودينهم. وهذا الكتاب من أهم آثار المستشرقين، وظل يحيل هذه المنزلة لدى العالم مدة طويلة. طبع في أكسفورد سنة 1649 وأعيد طبعه في سنة 1806

2 - لامية العجم: وهي طبعة انتقادية لقصيدة الطغرائي الخالدة، وقد أوقفت بترجمة وشروح وملاحظات، وطبعت في أكسفورد سنة 1661

3 - المختصر في تاريخ الدول: وهو النصر الكامل لتاريخ أبي الفرج مع ترجمته.

لقد وسم (بورك) بحياته وأثاره دوراً من أدوار الدراسات الأوربية الشرقية بميسمه، وكان ذا شهرة مستفيضة في زمنه، ويدين له جميع أنحاء العالم الذين خلفوه بدين كبير. وكان العلماء في جميع أنحاء أوربا والشرق يكتبون إليه طالبين المعونة والإرشاد، ويفد إليه العدد الكبير من الطلاب من البلاد القصية - كرومانيا مثلاً - إلى أكسفرد، لدراسة اللغة العربية على يد أعظم أساتذتها الأحياء في أوربا. ولقد وصفه قرينه في معرفة اللغة العربية المستشرق الهولندي كوليوس أستاذ اللغة العربية في جامعة ليدن نفسه بأنه (لا يدانيه أحد في عالم الاستشراق). وقد ترك زيادة على الكتب التي مر ذكرها عدداً من الدراسات الأخرى ومجموعة من (420) مخطوطة اقتنتها بعد موته مكتبة أكسفورد ولا تزال هناك حتى الآن، وهي تكون جناحاً ذا قيمة من القسم العربي من تلك المكتبة.

ولقد خلف ستة أبناء كان أكبرهم - واسمه إدوارد بوكرك أيضاً - (1684 - 1727) قد تابع خطة أبيه واعتنق الدراسات المشرقية، وقام بطبع عدة كتب من ضمنها الطبعة التي لم تكمل لتاريخ مصر لعبد اللطيف، وترجمة لإحدى خوالد ابن طفيل الفلسفية

وعلى ذلك كان القرن السابغ عشر دور تطور عظيم في تاريخ الدراسات العربية في إنجلترا. ويمكن إرجاع سبب الاهتمام الجديد بالدراسات المشرقية إلى عدة عوامل يأتي العامل اللاهوتي في أولها ولا شك، فقد كان من المفهوم في ذلك الحين أن اللغتين العربية والعبرية متقاربتان كل التقارب. ومن المؤمل أن تؤدي دراسة اللغة العربية إلى إلقاء ضوء جديد على (العهد القديم). وأوغل من ذلك في الأهمية هو الإدراك الجديد لمنزلة اللغة العربية والتاريخ العربي من الوجهة الثقافية. ولقد شهد العصر المتقدم عهد إحياء جديدة للدراسة على أوسع معانيها؛ فشملت الاهتمام الجديد باللغات والدراسات الكلاسيكية، وكان من الطبيعي أن يدرك طلاب التاريخ البشري والمدنية أهمية اللغة العربية العظمى بين تواريخ الإنسان، وأن يعملوا على طلب المزيد من معرفتها. وقد كتب كل من بدويل وكاستل وبوكوك جميعاً مقالات عن أهمية اللغة العربية بصورة عامة، والحاجة إلى أن يدرسها رجال أكفاء

وينبغي أن نذكر أخيراً العلاقات المستجدة في التجارة والسياسة بين إنجلترا والشرق الأدنى، وما أطلقته من مصالح ومناسبات، فبفضل تلك المناسبات أتيح لبوكوك أن يقوم برحلتيه المثمرتين إلى الشرق، وكانت تلك المصالح متسعة الأرجاء ولم تقتصر على رئيس الأساقفة (لور) ولم يكن هو الوحيد الذي اهتم بنشر الدراسات العربية في إنجلترا، والمتبرع بالكرسي الأدبي للغة العربية في اكسفرد

وبالرغم من الاضطرابات التي أحدثتها الحرب الأهلية في نهاية القرن السابع عشر، فإن هذا العصر كان جديراً بالاعتبار، فقد تألفت فيه مراكز للدراسات العربية في اكسفورد وكامبردج، وطبع عدد كبير من الكتب، وأنشئ عالم جديد أنتج فيما تلا ذلك من العصور عدداً متتابعاً من الباحثين المشهورين الذين زادت آثارهم في ثروة الميراث الثقافي لكل من العرب وأوربا، وسنتكلم عنهم فيما يلي من هذه الفصول.

عبد الوهاب الأمين